غياب
26-09-2018

 

كُنّا جلوسًا في المصرف. لم يكن أحدٌ لينتبه إلى وجود ذلك الشابّ لولا ما حدث. سمعتُ همهمةً، أو شخيرًا ــ ــ لم أستطعْ أن أميِّز الصوت. انتبهتُ إلى عيْنَي الموظّفة اللتين جحظتا، فالتفتُّ إلى حيث تنظُر، فإذا بيدين مُتخشّبتيْن ترتفعان، وإذا بجثّةٍ ترتجف وتهوي إلى الأرض كلوحٍ، وإذا بعينين مغمضتين كأنّ خلفهما بركانًا يرتجّ حُممًا.

رأيتُ معظمَ الناس يبتعدون عن الجسد الممسوس، الذي استدارت حوله هالةٌ من فراغٍ وعيون. وسمعتُ أصواتًا تنادي بضرورة إغاثته.

تقدّم شابٌّ نحوه. سأله إنْ كان يسمعه. كلّمه مجدّدًا. أصاخ السمعَ، ولكنّه لم يحظَ بشيء. وضع الشابُّ ملفَّه جانبًا، وخطا نحو الجسد المُرتجّ، فشمّر عن ساعديْه، وضغط على القلب بخوفٍ وتردّد. عندها، تشجّع أكثرُ من متحلّقٍ للمساعدة: فمنهم مَن راح يفتّش محفظتَه بحثًا عن هويّة، ومنهم مَن اتصل بالإسعاف، ومنهم من طلب له الماء.

بعد قليل استفاق الشابّ. نهض من فوره، وكنتُ أوّلَ من التقطتْه عيناه. اقترب نحوي. حاولتُ أن أرطّب شفتيَّ بريقي، فلم أفلح.

جلس على الكرسيّ المقابل. سمّر عينيْه في عيني. سأله أحدُ الموجودين عن اسمه. نظر نحوه وهو يحاول أن يستذكر الجواب. عاد الرجل، فكرّر سؤالَه، وهو يفتّش محفظةَ المريض، إلى أن وجد عنوانَ أهله ورقمَ هاتفهم. اتّصل بهم وهو يسأله عن اسمه للمرّة العاشرة، والشابُّ لا يفهم كلامَه، وينظر إليّ ويتفرّسني، وأنا أنظر إليه وأهرب منه.

حين لم يُجب أحد، سأله الرجلُ الأشيب: "أهذا هاتفك؟" ازداد الشابّ ضجرًا. أمسك رأسَه بيديه ولوّح به. ثمّ أطبق عينيه قليلًا ونظر نحو الأرض. لم ينتبه إلى بقع الماء على ثيابه وإلى جانبه، ولا اهتمّ بحركةِ تراجُعِ الموجودين إلى أعمالهم.

فجأةً، رفع عينيه نحوي، فما كان منّي إلا أن وضعتُ كأسَ الماء جانبًا. حاولتُ أن أبتسم له، غير أنّه بادرني بنظرةٍ زائغة، وأشار بيده. لكنّ دخول المسعفين لم يمهلْه أن ينطق بحرف. أمسكوه من خلف، وثبّتوه على السرير النقّال. تفلّتَ قليلًا، لكنّه بدا متعبًا وعاجزًا عن المقاومة.

حين همّوا بإخراجه، أمسك بيدي. وجدتُني أركضُ معهم عبر بوّابة البنك الزجاجيّة الكبيرة، وأجلسُ في القسم الخلفيّ لسيّارة إسعافٍ تزعق، وأنظر إلى غريبٍ ممسكٍ بيدي، فيما أنا أمسّد شعره. طلبتُ من السائق أن يسرعَ قليلًا، ثمّ نزلتُ وهرولتُ من جديد نحو بوّابةٍ بيضاء كبيرة أخرى، كُتب عليها "قسم الطوارئ." عبرتُها إلى الداخل، والغريبُ ممسكٌ بيدي، ويدي تشدّ على يده. دخلنا غرفةً زرقاءَ الجدران والأرضيّة والفراش. أسندتُ ظهري إلى الحائط ووجدتُ أنّ أيدينا مازالت متشابكة.

بعد أن أعطوْه مهدّئًا وتراخت يدُه، كان عليّ الخروج. وقفتُ وحيدةً لحظةً، وإذ بمسؤول الطوارئ يناديني ليستفسرَ عن صلتي به. أكّدتُ له أنّني لا أعرفه، لكنّ هذا لم يمنعْه من طرح الأسئلة عن مجيئي معه بالإسعاف. أوضحتُ له أنّ الشاب جرّني معه، وأنّني اضطررتُ إلى أن أرافقه كي لا يبقى وحيدًا.

غادر الطبيب باتجاه غرفة أحد المرضى، ثمّ عاد إليّ بعد أن ترك خانةَ الاسم بيضاءَ، قائلًا: "طيّب مدام، فيكِ تفلّي. اتّصلنا بأهله."

مشيتُ غيرَ راغبةٍ في الرحيل. تباطأتُ في خطواتي، علّه يخرج فأبقى. لكنّني خجلتُ من نظرات ذلك الممرّض ــ ــ وهي نظراتٌ لم تكفّ عن ملاحقتي، وكأنّها تحقّق معي في أسباب مجيئي: "ما الذي تفعلينه هنا أيتها المجنونة؟ إنّه لا يعرف اسمَه!"

عدتُ إلى البنك لإتمام معاملتي. مشيتُ والهواءُ يلفح عينيّ ويُشْعرني بدفءٍ غريب، على الرغم من ذلك اليوم الشتويّ العاصف. وصلتُ، لكنني لم أجد البنك. تراجعتُ كي أقرأ اللافتة، فلم أجد البناء. تراجعتُ أكثر، وتلفّت في أنحاء الشارع بحثًا عنه. بلا جدوى.

ربّاه، أين تلك النخلة العملاقة؟ أين الناس؟

درتُ حول نفسي، ودار بيَ المكان. أين مدينتي؟

ركضتُ، ناديتُ، جلستُ. أمسكتُ رأسي بيدي ونظرتُ إلى الأرض، فالتمعتْ ــــ في بقعة ماءٍ متشظّيةٍ ــــ عينان.

صيدا

وداد طه

روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.