فينومينولوجيا الفاعل المعرفي: عناصر الخبرة الذاتية
04-01-2021

 

تمهيد

في عالم العلوم الإنسانيّة، نعيش منذ مدّة خروجًا عن الأطر المنهجيّة ذات البعدِ الأحاديّ في دراسة الظواهر. لذا نجد أنّ طروحاتٍ مثلَ "البيْمناهجيّة" و"العبْرمناهجيّة" تَلوح في آفاق هذه العلوم لتحقيق نوعٍ من التحرّر الإبستمولوجيّ للفهم.

ومن المقاربات المنهجيّة التي طُرحتْ محاولةُ تفادي تحيّزات الباحث الذاتيّة عندما يدرس ظاهرةً اجتماعيّة. أصحابُ الرؤية الفينومينولوجيّة (الظاهراتيّة) رأوْا أنّ الفخَّ الذي يقع فيه المفكّرُ والأنتروبولوجيّ عند محاولته فهمَ أيّ ظاهرةٍ أو فعلٍ اجتماعيّ هو فخُّ القراءة من الخارج، أو بعينه هو لا بعين الفاعلِ نفسِه، موضوعِ الدراسة. الفينومينولوجيا تسعى إلى الاهتمام بـ"خبرة الفرد،" كما يسمّيها بعضُ الانتروبولوجيّين الذين قابلتُهم؛ فليس مصبّ الاهتمام هو الواقع الخارجيّ، بل النفس التي تعيش الظاهرة.[1]

ما أريد البحثَ عنه هنا هو بعضُ المؤشِّرات التي تشكّل الخبرةَ المعيشةَ لدى فاعل المعرفة نفسه. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ موضوعَ البحث هو الشخص الذي يتعاطى الفعلَ المعرفيّ. هذا المثقّف أو المتخصّص كيف يعيش خبرةَ المعرفة التي يتلقاها؟ مِن الممكن قراءةُ هذا الفعل من خارج الخبرة، فيجري البحثُ عن إجاباتٍ لأسئلةٍ مثل: ما هو موقعُ المثقّفين ضمن البنية الاجتماعيّة التي يعيشون فيها؟ ما هي الوظيفةُ التي يؤدّونها في مجتمعهم؟ ما دورُ هذه الطبقة ضمن الصراعات السياسيّة والاجتماعيّة التي تحدث؟ إلى غيرها من الأسئلة والإشكاليّات التي تتضمّن منهجًا "خارجيًّا" في التعامل مع الفاعل المعرفيّ (المثقّف أو المتخصّص). ولكنّ ما نريد بحثه هنا - وفق إطار الفينومينولوجيا والقراءة الداخليّة للفعل والظاهرة - هو الإجابة عن أسئلةٍ من قبيل: ما هي الخبرة النفسيّة والفلسفيّة والروحيّة التي يعيشها الفاعلُ هذا؟ وكيف تؤثّر هذه الخبرةُ في سلوكيّاته تجاه نفسه والآخر؟ وما هي العواملُ التي تساهم في التغاير بين هذه الخبرات لدى الفاعلين المعرفيّين؟

ولكنْ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، ينبغي البحثُ عن العناصر التي تقدّمها المعرفةُ، مادّةً للخبرة، إلى الفاعل المعرفيّ.

 

عناصر الخبرة المعرفيّة

1 - التصوّرات والمعاني: ابتكارُ أبعاد الواقع. من أهمّ العناصر التي تشتمل عليها القراءاتُ والعلومُ والفلسفات نحتُ تصوّراتٍ ومعانٍ جديدةٍ للواقع الخارجيّ، ممّا لا يكون متوافرًا للمراقِب الأوليّ وللملاحظة غير المعمَّقة. مثلًا نجد أنّ بعضَ علماء الاجتماع طرح تصوّرَ "الفيزياء الاجتماعيّة،" وذلك في بداية نشوء السوسيولوجيا فرعًا علميًّا مستقلًّا. وهذا النحت يتضمّن إعادةَ إنتاج فهمٍ جديدٍ للمجتمع، يفيد بأنّ له قوانينَ ثابتةً كقوانين الأجسام في الفيزياء.

والأمر نفسُه نجده في الفلسفة العربيّة والإسلاميّة، حيث نجد أنّ الكندي والفارابي مثلًا - بعد وفود الترجمات اليونانيّة الفلسفيّة - ابتكرا معنى "واجب الوجود" الذي كان فتحًا جديدًا لإعادة تصوّر معنى الخلق والإيجاد وعلاقةِ الخالق بالعالم.

2 - الحجج والأدلّة: ترتيب آليّات اليقين. لا يخفى أنّ العلومَ تشتمل على الأدلّة والبراهين التي يتوسّلها الفيلسوفُ أو عالِمُ الإنسان أو غيرُهما لإثبات القضايا والمسائل التي يتناولانها. واختلافُ آليّات البرهنة والاستدلالات عنصرٌ آخر لا يقلّ أهمّيّةً عن العنصر السابق في تشكّل الخبر المَعيش لدى الفاعل المعرفيّ، وبالتالي في تشكّل الذات التي على أساسها يأخذ القراراتِ والمواقفَ السياسيّةَ والاجتماعيّة، بل لها دخلٌ أيضًا في نمط حياته الفرديّ.

لا نريدُ هنا التبحّرَ في آليّات الاستدلال، بدءًا من المنطق الأرسطيّ وصولًا إلى التجريبيّة وما بعدها. ما يهمُّنا هو تسليطُ الضوء على كون المعرفة المعتمدة على نوعٍ خاصٍّ من البرهنة (كالاستقراء أو الأمبريقيّة) تشكّل أساسًا للخبرة ولكيفيّة تشكّلِ معيار اليقين. وبتعبيرٍ آخر: إنّ المنطقَ الأرسطيّ لا يرضى باليقين الذي يعطيه الاستدلالُ الاستقرائيّ. وبناءً عليه، فإنّ الفاعل المعرفيّ الذي يعيش في بطون الكتب الأرسطية سيشكّل خبرةً معرفيّةً قائمة على محوريّة اليقين الأرسطيّ، وستتعقّد لديه طرقُ اليقين، ولن يكون راضيًا عن أسلوب "الأرقام" في البرهنة؛ بخلاف الفاعل المعرفيّ الذي نشأتْ خبرتُه المعرفيّةُ على الاستقراء. وإذا تَواجَه هذان الفاعلان فسنشهد أثرَ الخبرة التي أنشآها في مناظرتهما بشكلٍ واضح.

3 - اللغة المعرفيّة: الخبرة بين الوهم والواقعيّة. اللغة هي العنصر الأشدُّ تأثيرًا في تشكيل الهويّة والخبرة الذاتيّة للمثقّف أو المتخصّص. فالمعاني والتصوّرات، وكذلك الحججُ والأدلّة، ستُصاغ في نهاية الأمر ضمن القوالب اللغويّة؛ وهذه بدورها ليست قوالبَ أداتيّةً فقط، بل لها حيويّتُها أيضًا في صناعة المعرفة.

لكلّ علمٍ وتخصّصٍ مصطلحاتُه الخاصّة: فالعلوم المتعارفة الإنسانيّة مثلًا تمتلك منظومةً من المصطلحات، كالوظيفة والبنية والرمز والأسطورة والثقافة والمعرفة؛ والفلسفة العربيّة لها مصطلحاتُها الخاصّة، كالقِدم والحدوث والهيولى والصورة؛ وهكذا. ولكنْ لا شكّ في أنّ العيش ضمن أطر المصطلحات البعيدة عن الاستعمالات الشائعة يعطي الفاعلَ المعرفيَّ خبرةً مضافةً تتمثّل في نوع من العزلة الفكريّة.

ثم إنّ المسألة لا تتوقّف عند حدّ المصطلح. بل إنّ عمقَ القضيّة اللغويّة يمتدّ إلى مدى "عجز" اللغة المتداولة في الأدبيّات التقليديّة عن ملاحقة العمق الفلسفيّ والفكريّ للباحث. ونجد هنا مثلًا أنّ الكندي نحت عديدًا من الاشتقاقات اللغويّة لم تكن معهودةً من قبلُ لإفادة بعض الأفكار الفلسفيّة؛ ومثال ذلك "الليْسِيّة،" وهو اشتقاقٌ من الفعل الماضي الناقص "ليس،" ليفيد فكرةَ النفي المحض والعدم المحض المقابل للوجود الذي هو محورُ أبحاث الفلسفة المشائيّة.

وعليه، فإنّ المسألة المركزيّة هنا هي أنّ التفاعل مع اللغة الخاصّة لعلمٍ معيّنٍ تجعل الفاعلَ المعرفيَّ على مسافةٍ معيّنةٍ من اللغة المتداولة والأصليّة التي ينتمي إليها. ولا ينبغي استسهالُ هذه المسافة؛ فإنّ لها أثرًا في العديد من المستويات. بل إنّ البعضَ يختزل مشكلةَ المفكّرين الذين لا يؤثِّرون في مجتمعهم في قضيّة اللغة، فيقال إنّهم أنشأوا "لغةً خاصّةً بهم" منعتْهم من أن يفكّروا أو يتكّلموا في إطارٍ خارجٍ عنها، ما حجب تأثيرَهم في الناس. ويرى البعض أنّ أثر الشعراء والأدباء في الثورات أكبرُ من أثر المفكّرين بسبب قضيّة الخبرة اللغويّة.

 

الخاتمة

في ما سبق، حاولنا عرضَ ثلاث فرضيّات تحتاج إلى متابعةٍ وعملٍ ميدانيّ وثقافيّ. وتتمثّل هذه الفرضيّات في كون الفاعل المفكّر والمثقّف يعيش خبرةً ذاتيّةً أثناء تفاعله مع المعرفة والعلم. وهذه الخبرة لها عناصرُها الخاصّة: بدءًا من عنصر المفاهيم والمعاني في أيّ علم، والتي من خلالها يصوغ معانيَ جديدةً للعالم؛ مرورًا بطرق الحجاج والاستدلال التي تحيّث الذهنَ بحيثيّةٍ خاصّةٍ لقبول الآراء المتعددة؛ وانتهاءً بمسألة اللغة التي تشكّل حاضنةً حيويّةً لكلّ فاعلٍ معرفيّ.

بيروت

 


[1] في إحدى المقابلات التي أجريتُها مع البروفسور روبرت بيندكت، الذي قدّم دراسةً أنتروبولوجيّةً عن طقوس الموت عند الموارنة والشيعة في لبنان، ذكر لي أنّه لا يهمّه كباحثٍ دراسةُ آثار الطقوس الاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها، بل معرفةُ الخبرة التي يعيشها الفاعل، أيْ: ماذا يشعر؟ وكيف تؤثّر ممارسةُ الطقوس في رؤيته إلى العالم؟ إلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول هذه النقطة.

حسين إبراهيم شمس الدين

باحث في الانتروبولوجيا. مجاز في علم الاجتماع وحائز شهادة الماستر في الانتروبولوجيا من الجامعة اللبنانيّة.