في البحث عن حاملات النار
13-03-2021

 

في استعمارٍ يحتضر،[1] يصف فرانز فانون ولادةَ امرأةٍ جزائريّةٍ جديدة، وذلك عندما تخترق الحدودَ المفروضةَ على المرأة المستعمَرة. ففي حركتها من الحيّ العربيّ إلى الحيّ الاستعماريّ، وهي تحمل القنابلَ، أو ترتدي الحجابَ أو تخلعُه لتنقلَ القنابل، لا تعود علاقتُها بجسدها علاقةَ تناقض، يحاول أحدُهما بموجبها أن يقيّدَ الآخر أو يحدَّه. في وصف فانون تولَد المرأةُ الجديدةُ من رحِم الثورة، ويكون السؤالُ التالي: ماذا يحدث لهذه المرأة الجديدة، ابنةِ الثورة وحاملةِ القنابل، عندما تختفي الثورة؟

في مقال "نظرةٌ ممنوعة، صوتٌ مقطوع،" تروي آسيا جبّار قصّةَ مسعودة التي تحدّتْ رجالَ قبيلتها عندما أرادوا أن يَهْربوا من العدوّ الذي يحاصرُهم. فقد صاحت بهم مشيرةً إلى الاتجاه الذي يجب أن يسيروا فيه، مشكّكةً في معرفتهم بسلوك الرجال، ومثّلتْ ما ينبغي أن يكون عليه السلوكُ الصحيحُ حين خرجتْ بنفسها لمواجهة العدوّ، وهي تقول: "أين رجالُ قبيلتي؟/ أين إخوتي؟ أين مَن كانوا يغنّون لي أغاني الحب؟"[2] عندها استجاب الرجالُ لها، وعادوا إلى القتال وهم يغنّون: "كوني سعيدة، ها هم إخوتُكِ، ها هم عشّاقُكِ." في هذه القصّة، نداءُ القتال هو أيضًا نداءُ الحبّ. و"أغنية مسعودة" صارت تغنّيها قبائلُ جنوب الجزائر.[3]

تقول جبّار إنّه في تاريخ نضال المقاومة الجزائريّة، وردتْ حكاياتٌ عدّةٌ عن نساءٍ مقاتلاتٍ تركن دورَ التفرّج التقليديّ. نظرتُهنّ الخارقة كانت تحفِّز شجاعةَ الرجال. وحيث يسود اليأسُ، يصبح وجودُهنّ في المعركة عاملًا حاسمًا في تحديد نتيجتها. كما وردتْ قصصٌ أخرى تُبيِّن الشجاعةَ "الرجوليّة" لبطلاتٍ من قبائل "البِربِر" مثّلن صورة المرأة الأمّ-الملكة.[4]

تطرح قصّةُ مسعودة ناحيةً جديدةً من نواحي البطولة والتضامن القبليّ، ولكنّها ترتبط هنا بجسدٍ في خطر، وبصوتٍ ينادي ويتحدّى. باختصار، قصّتُها تعالج إغراءَ الجُبن، وتتيح مجالًا للانتصار.[5] لكنّ السؤال الذي تطرحه جبّار هنا هو:

هل كان هؤلاء الإخوةُ-العشّاقُ مستائين من رؤية الجسد المكشوف، أمْ مسّهم الصوتُ الأنثويُّ المنطلق، القادمُ من الداخل، خارقًا دماءَ الموت والحبّ، ليأتي بمقولة "كوني سعيدة"؟

تؤسِّس أغنيةُ مسعودة لسعادة النساء، بالنسبة إلى جبّار، وذلك ضمن حركةٍ مرتجلةٍ وخطرة، أيْ خلّاقة. غير أنّه لم يكن هناك الكثيرُ من أمثال مسعودة، كما تقول. فقبل حرب التحرير، تطلّبت الهويّةُ الوطنيّةُ محوَ أجساد النساء، محوّلةً إيّاهنّ إلى أمّهات، بمن في ذلك النساءُ اللاتي كنّ محاربات. ولكنْ خلال سنوات حرب التحرير السبع، جرى تبجيلُ النساء البطلات، حاملاتِ النار، اللاتي أسَرَهنّ الاستعمارُ. حينها، ذاب الحريمُ في سجونٍ مثل سجن برباروس، وأصبحتْ مسعوداتُ الجزائر يُسمَّيْن: جميلة.[6]

لكنْ لم تكد الثورةُ تنتهي حتى اختفت مسعودة وجميلة معًا، وعادت صورةُ المرأة البكّاءة التي تلطم خدّيْها إلى درجة الهستيريا لتكون هي الصورةَ الوحيدةَ المتحرّكة. لم تعد هناك نساءٌ محاربات، ولا نساءٌ شاعرات." وعاد الصمتُ ليغلّف حياةَ النساء.[7]

تعمل آسيا جبّار، في حكاياتها عن الثورة الجزائريّة، على استعادة حياة هؤلاء النساء ونضالاتهنّ، سعيًا إلى تحريرهنّ من القوالب أو الخانات الرمزيّة الاختزاليّة والتشييئيّة التي وُضعن فيها، سواءٌ في الخطاب الاستعماريّ أو الخطاب "القوميّ." وتأتي عمليّةُ الاستعادة هذه من خلال محاولة إطلاق أصواتهنّ. فكأنّ الاستماعَ إلى رواياتهنّ عن الثورة والنضال لا يشكّل استعادةً للتاريخ من وجهة نظرهنّ فحسب، بل يعيدُنا أيضًا إلى لحظة تحوّل الثورة إلى جمودٍ وعجز.

تحاول جبّار أن تحوِّل الكتابةَ إلى صوتٍ مسموعٍ ومحكيّ. الكتابة في مشروعها لا تعود محوًا لِما هو مرويٌّ وشفويّ، وإنّما تغدو عمليّةَ تبادلٍ وعناقٍ بين المرويّ والمكتوب، بين الكاتبةِ وراويةِ القصص، في محاولةٍ لجَسْر الهوّة بين الريفِ والمدينة، وبين الماضي والحاضر. هذه الهوّة خلقها الاستعمارُ، وعجز المشروعُ القوميُّ عن جسرها، بل إنّه عزّزها. ومن ثمّ تغدو استعادةُ الذاكرة عند جبّار حربًا ضدّ الفكر التنويريّ القائم على الثنائيّات، على الفصل الوهميّ بين الفرديّ والجماعي، وعلى استثناء المختلف والمتعدّد لصالح الموحَّد والمتماثل.

لم تكن جبّار، أثناء نبشها الذاكرة، تبحث عن هويّةٍ نِسْويّةٍ أو قوميّة، أو نِسْويّةٍ قوميّة، بل عن الطريق التي على النساء أن يسلكْنَها لتكون الحريّةُ ممارسةً يوميّةً وملموسةً وفعليّة. الحرّيّة، التي ترفض جبّار أن تعطيَها تعريفًا محدَّدًا، تبقى مرتبطةً بالحركة المستمرّة، بالقدرة على تخطّي أيِّ جدار -- أكان مرئيًّا، أمْ غيرَ مرئيٍّ شأن معظم الجدران في العالم الحداثيّ.

 

نساءُ الجزائر وجدرانُ الصمت

في قصّة "نساءُ الجزائر في شقّتهنّ،" تصف جبّار حالَ الجزائر في الحاضر بعد "الاستقلال،" حيث النساءُ مقيَّداتٌ داخل جدرانٍ حديثة، مرئيّةٍ وملموسة أو غير مرئيّةٍ ولكنّها ملموسة، تعزل النساءَ عن محيطهنّ. أصواتُهنّ تبقى غيرَ مسموعة، ولا تصلُهنّ أصواتُ الآخرين.[8]

في القصة نرى همومَ النِّسْويّة الليبراليّة، تحملها المرأةُ الفرنسيّةُ، التي تستدعي الجزائريّةَ في بداية القصّة لتنقذَها من ضعفها النفسيّ والجسديّ. المرأة الفرنسيّة تحاول وصفَ الاغتراب في حياتها. هي الحكاية المكرَّرة مرّاتٍ لانهائيّةً، والحكايةُ المتوقَّعة مِن قَبْل أن تُقال: حكايةُ المرأة والزوج والأطفال؛ حكايةُ حياةٍ غريبةٍ تُروى في ساعةٍ من الكلمات، وتبدو سخيفةً وعاديّة. الحكاية نفسُها تضيع في الحكاية، وكأنّ ما يقالُ لا يفعل سوى أن يمحوَ ما يُراد قولُه.

قصّة الاغتراب هذه هي قصّةُ ربّة المنزل الفرنسيّة التي هربتْ من عالم المدينة والحضارة إلى الجزائر. لكنّ في الجزائر قصصًا أخرى تأبى أن تُحكى:

- فهناك قصّةُ المناضلة والأسيرة السابقة التي تحمل سجنَ برباروس في داخلها، بعد أن خرجتْ منه، كما تحمل آثارَ التعذيب على جسدها. هي المناضلةُ الأسيرةُ والصامتة التي تفشل، مرّةً بعد أخرى، في أن تحكيَ عن الأسْر والتعذيب، فتعودُ لتتحدّثَ عن أمّها التي ماتت بلا حرّيّة، من دون أن يخطر لها وجودُ طرقٍ أخرى للحياة.

- وهناك حاملةُ المياه، نموذجُ المرأة المُقْصاة، ابنة القبائل، التي باعها والدُها عروسًا في لعبةِ قمار، وأخفقتْ في الدور الذي أُعطي لها، ولم تُنجبْ، ثم هربتْ، وتحوّلتْ إلى عاهرةٍ في المدينة، فإلى عاملةِ حمّام. إنّها المرأة التي لم يغيِّر الاستقلالُ أيَّ شيءٍ في حياتها، وبقيتْ خارج التاريخ وحركتِه.

- وهناك المناضلة التي تحوّلتْ إلى حالةٍ "مَرَضيّةٍ" لأنّها تعجز عن التعايش مع عالمِ ما بعد الثورة، العالمِ الحديثِ الذي غابت عنه الجدّاتُ، بأغنياتِهنّ وقصصِهنّ، كما غابت عنه حاملاتُ النار التي كانت هذه المناضلةُ إحداهنّ في السابق.

- وهناك النساءُ اللاتي كنّ في الخارج عرضةً لهجمات الرشّاشات، بأحجبةٍ بيضاءَ مبقّعةٍ بثقوبٍ دمويّة، وحاملات القنابل في الشوارع ثم في الأسْر.

في القصة بحثٌ عن حاملاتِ النار اللواتي كان يجب أن تتفتّح القنابلُ في أيديهنّ بشُعَلٍ خضراء. كان عليهنّ أن يحرِّرن المدينةَ، لكنّهنّ لم يحرّرنها. فما حدث بعد الثورة هو أنّ الأسلاكَ الشائكة "لم تعد تغلق الأزقّةَ، بل تزيّن الآن النوافذَ والشرفاتِ وكلَّ ما يمكنه أن يفتحَ على الفضاء الخارجيّ."[9] جبّار ترسم صورةَ فشل الثورة في أن تتحوّلَ إلى مصدرٍ للحياة، ومعنى هذا الفشل لمن أنجبنها ووُلدن من رحمها، الأمّهات والبطلات. تقول ليلى، البطلة والأسيرة السابقة:

"في كلّ يومٍ ظافرٍ للمرأة، عليهم أن يركّزوا العدسةَ بشكلٍ كبير: أن ينظروا إلى الأصابع، التي تكون في العادة محنّاةً، الأيدي النشطة للأمّهات اللاتي نجون (ووجوهُهنّ تحترق وهنّ يصنعن الخبز)، الأصابع نفسها التي لم تعد محنّاةً بل أصبحتْ مطليّةً، وهي تحمل القنابلَ وكأنّها حبّاتُ برتقال، متفجّرةً في كلّ جسدٍ اعتقدناه جسدَ الآخر... ممزِّقةً جسدَ العدوّ إلى شرائط. وهؤلاء اللاتي بقين على قيد الحياة، أو اعتُبرن على قيد الحياة، وراء القضبان الحديديّة، ومن ثمّ وراء قضبان الذاكرة... ثم ...وراء هذيان الحمّى ... هل ما زلن على قيد الحياة؟ القنابل ما زالت تنفجر...، ولكنْ أمام أعين النساء، بحيث لم يعد في إمكاننا رؤيةُ الخارج. فقط تُمْكننا رؤيةُ النظرات الفاحشة. القنابل تنفجر ولكنْ في بطوننا. أنا... بطنُ كلّ امرأةٍ عقيمة!"[10]

 

ليس في مقدور نِسْويّةٍ تقوم على الذات الفردانيّة أن تكون نضالَ حريّة

 

بالنسبة إلى جبّار لا يمكن تحريرُ الحاضر إذا لم يُحرَّرِ الماضي. على خلاف العديد من النّسْويات الحداثيّات والليبراليّات اللواتي عَرّفن تحرُّرَهنّ واستقلاليّتَهنّ بتمييز أنفسهنّ (وحريّتِهنّ الجديدةِ الممنوحة لهنّ عادةً على يد الأب) من أمّهاتِهنّ وجدّاتِهنّ التقليديّاتِ الخاضعات، نرى أنّ جبّار ترفض هذه القسمةَ الفرويديّةَ لذات المرأة، المرأةِ التي تسعى إلى أن تكون رجلًا بمعاداة أمّها (ذاتِها الأخرى)، ومن ثمّ بمعاداة النساء الأخريات. لكنّ جبّار، في الوقت نفسه، ترفض أن تكون المرأةَ المحدَّدةَ بآخريّتها للرجل.

الحرّيّة عند جبّار تبقى مشروطةً بحرّيّة الأخريات. هناك روابطُ لا يمكن قطعُها بين النساء مهما كانت اختلافاتُهنّ، إذ لا يمكن في أيّ لحظةٍ أن يَفْصلن أنفسَهنّ عن الأخريات من أجل الوصول إلى الفردانيّة التي أسّستها الذكوريّةُ الرأسماليّة. مثلُ هذا الفصل يعني أنّ على النساء أن يحملن هنّ أيضًا كرهَهنّ لذواتهنّ، وأن يعشن بحجابٍ آخرَ يحملنه داخلهنّ ويفصلهنّ عن ذواتهنّ كما يفصلهنّ بعضَهنّ عن بعض. في عُرف جبّار، ليس في مقدور نِسْويّةٍ تقوم على الذات الفردانيّة المستقلّة أن تكون نضالَ حريّة، بل ستكون إخفاءً للسجن الذي ستحمله النساءُ بشكلٍ غيرِ مرئيّ داخلهنّ.

سارة في القصّة تواجه ما تُنْكره الكثيرُ من النِّسْويّات: العجزَ عن تحقيق الرغبة في تحرير الأم الخاضعة والصامتة؛ وهو العجزُ الذي رأى فرويد أنّه يدفع النساءَ إلى أن يعشن حياةً من المازوخيّة والنرجسيّة والسلبيّة. لكنْ بدلًا من الكبت والإنكار، تصمت سارة ولا تبكي. هذا الصمت هو، في حدّ ذاته، تعبيرٌ عن رفضها ابتلاعَ الإهانة، ورفضِها التماهيَ مع العجز والخضوع. إنّه تعليقٌ يَحُول دون السيْر قُدمًا في خطّ التطوّر الأنثويّ الذي رسمتْه الأبويّةُ للنساء.

الحريّة التي قد تتمتّع بها الفتاةُ التي تلقّت تعليمًا حديثًا، وتتمتّع به المناضلةُ التي شاركتْ في الثورة وأُسرتْ، وتتمتّع به الباحثةُ الفنيّة، تبقى موضعَ تساؤلٍ وشكّ. والسؤال الذي تطرحه سارة عند مقارنة حياتها بحياة والدتها هو: "هذه الحريّة، هل هي حقًّا لي؟"[11] سؤال الحريّة هنا يتلوه سؤالٌ عن قدرة النساء على تصوّر أشكالٍ وآفاقٍ مختلفة من الحياة، بحيث لا يكنّ أبدًا محصوراتٍ داخل جدرانٍ مرئيّةِ أو غير مرئيّة.

الحريّة التي تسعى إليها جبّار لا يمكنها أن تنحصرَ في الحاضر وفي ما هو قائم، بل تتضمّن عمليّةَ مراجعة: عودةً إلى الوراء، وربطَ ظلمِ الحاضر بالماضي، ونساءِ الحاضر بنساءِ الماضي؛ ذلك لأنّ نساءَ اليوم هنّ أيضًا بناتُ نساء الماضي وسليلاتُهنّ، ويحملن في داخلهنّ خضوعَهنّ، كما يحملن قوّتَهنّ ونضالَهنّ وحكاياتِهنّ. حريّة النساء هي في هذا التبادل المستمرّ بينهنّ، على اختلافاتهنّ. وليس صدفةً أنّ جبّار في فانتازيا[12] تضع قصَّتها شذرةً بين شذراتٍ أخرى من قصصِ نساءٍ أخريات. جبّار لا تمحو الاختلافَ ولكنّها تحاول محوَ العلاقات الهرميّة، على الأقلّ على مستوى النصّ، بين المؤلِّفة وموضوعِها. وهي تخلق علاقةً أفقيّةً بين قصص النساء المختلفات، بحيث لا يمكننا أن نحدِّدَ أيَّ قصّةٍ أو روايةٍ هي رواية الـمرأة؛ فما تعطينا إيّاه هو رواياتٌ للنساء، لا يمكن إجمالُها في روايةٍ واحدة.

 

البحث في الذاكرة: تحريرُ الصوت

في نساء الجزائر في شقّتهنّ بكاءٌ على ماضٍ غُيِّب، وكأنّ الحاضر - بجمودِه وغيابِ الأفق فيه - بحاجةٍ إلى أن يَخترعَ قصصًا وهميّةً عن بطولاتٍ وهميّةٍ في الماضي، تُعفي الحاضرَ من مواجهة بؤسه وخذلانه.[13]

المَخْرج من جمود الحاضر وقيودِه، بالنسبة إلى جبّار، يكون بالكلام الذي يمكنه أن يخترقَ جدرانَ الصمت. هذا الاختراق هو اختراقٌ لحالة الجمود بعد الثورة، إحياءٌ لقصص الثورة التي تحملها النساء، ولكنّه أيضًا اختراقٌ للصمت المفروض عليهنّ وعلى أصواتهنّ. فحتى لو بقيتْ هذه القصصُ همساتٍ ترويها الجدّاتُ للبنات الصغيرات، فإنّ الأخيرات سيحملن هذه القصص عبر الأجيال، وستجد النساءُ لأنفسهنّ أفقًا آخرَ خارج الجدران التي أُحِطْن بها، وقد يؤدّي هذا الأفقُ إلى حياةٍ تكون فيها الحرّيّةُ ممارسةً يوميّة.

كلامُ النساء بعضِهنّ مع بعض، ونظرُهنّ بعضِهنّ إلى بعض، قد يتيحان لكلٍّ منهنّ أن ترى نفسَها بعينيْها هي، من دون قيود. هنا تصبح المرأةُ نظرةً وصوتًا، لكنْ ليس صوتَ النساء المُنْشِدات اللواتي حبسن أصواتَهنّ في أغانٍ عذبة، بل سيكون لهنّ صوتٌ جديدٌ لم يُسمعْ من قبل. ولأنّ هذا الصوت هو عمليّةُ حفرٍ ونبْشٍ في ذلك المُسكَت والصامت، فإنّه سيكون صوتَ الألم واللؤم والحزن: صوتًا يبحث في قبورٍ منبوشة، قبل أن يكون قادرًا على أن يغنّي فعلًا.[14]

في رواية فانتازيا، عندما تتحدّث نساءُ الجزائر عن الحرب، فإنّ صوتَهنّ يرفع عبءَ الذاكرة. ولكنّ جبّار تشير إلى ذلك غيرِ المحكيّ، السرِّ، الخطيئةِ، المفقود. وحتّى عندما يتحرّر الصوتُ للحظة، فإنّ ألمَ الماضي المستعاد يعودُ ليُسكتَه. هنا تتدخّل جبّار، في الفصول التي أسمتْها "عناق" أو "حوار،" لتضيفَ إلى القصّة التي ترويها المرأةُ، معتمدةً على خيال المرأة الأخرى التي تنظر في عينَي الراوية لتصلَ إلى عمق ذاتها، فتعيد روايةَ قصّتِها لها. كأنّ القصّة هنا هديّةٌ تتبادلها النساءُ، يُعِدنها بعضُهنّ لبعض، وفي كلّ قصّةٍ تُروى لحظةُ حريّةٍ تُرافق الصوتَ الذي يتكلّم. لكنْ ليست جميعُ قصص العناق مبنيّةً على الخيال؛ فبعضُها يعتمد على رسائل الجنود والضبّاط الفرنسيّين إلى أهاليهم وأصدقائهم حول المجازر التي ارتكبوها. هذه الروايات غير الرسميّة، الخاصّة والحميمة، تصبح مصدرًا للقصص التي تحملها جبّار لتتبادلها في أحاديثها مع النساء. كأنّ جبار تلتقط يدَ الفتاة الجزائريّة المقطوعة التي التقطها ثم رماها الرسّامُ الفرنسيُّ فورمانتان لتروي بها قصّةً من قصص نساء الجزائر.

في حركة العناق، تجلس الباحثةُ والكاتبةُ بين النساء، وتتبادل معهنّ الحديثَ، محوِّلةً الكلماتِ المكتوبةَ إلى تاريخٍ شفويّ، هو تاريخُ النساء الجزائريّات. وهو تاريخٌ يبقى على شكل شذراتٍ من قصصٍ تتناقلها النساءُ من جيلٍ إلى جيل، من دون أن تتحوّل أيٌّ منها إلى رواية تاريخيّة قوميّة مهيمنة تُخضع قصصًا ورواياتٍ أخرى.

 

نِسْويّةٌ أخرى

على الرغم من إصرار جبّار على التعدّديّة، ورفضِها تعميمَ أيِّ شكلٍ من أشكال اضطهاد النساء أو قضاياهنّ، متمرّدةً على كلّ روايةٍ "تحريريّةٍ" أو "نِسْويّةٍ" قد تتحوّل إلى روايةٍ استعماريّةٍ بمصادرتها حكاياتِ النساء المتعدّدة، فقد بقيتْ مصرّةً على أنّ قضيّتَها هي النساءُ، والظلمُ الذي يعشنه بأشكاله المختلفة والمتداخلة. كما بقيتْ مصرّةً على السعي إلى "أُختيّةٍ" نسائيّة، لكنّها أُختيّةٌ تشير إلى الارتباط والاختلاف في الوقت الواحد: أختيّةٌ لا تسعى إلى خلق صورةٍ موحّدةٍ وعامّةٍ عن المرأة المضطهَدة أو المرأة الحرّة؛ أختيّةٌ تشكّلها أصواتُ النساء. وهذه الأصوات لا يمكن أيًّا منها أن يقف باعتباره الصوتَ الموحّد، بل إنّ هذا الصوت نفسَه يتكسّر ليروي عدّةَ قصص وحكاياتٍ تتداخل وتتشابك وتتشعّب مع قصص وحكايات أخرى.

 

نسويّةُ جبّار تشير إلى تضامنٍ يقوم على القربى والصداقة والنضال ضدّ الظلم

 

ما تريده جبّار من وراء هذه الأصوات والحكايات هو الحركة، أو الانطلاقُ في فضاءٍ مفتوحٍ لا يحدّه مشروعٌ استعماريّ، أو مشروعُ دولة قوميّة، أو أجندةٌ نسْويّةٌ مصنوعةٌ غربيًّا أو محلّيًّا. لم تكن جبّار تسعى نحو نِسْويّةٍ تتماثل فيه المرأةُ تماثلًا كاذبًا مع الرجل،[15] بل كانت تسعى نحو نِسْويّةٍ تتطوّر من جماعيّة النساء، من روابطَ أعمقَ من تلك التي يمكن أن يبنيَها فكرٌ أو إيديولوجيا. نسويّةُ جبّار تشير إلى تضامنٍ يقوم على القربى، قربى الدم، وعلى الصداقة، وعلى النضال ضدّ الظلم. هذا الارتباط بين النساء عند جبّار هو ارتباطٌ عضويٌّ، قَطْعُه يعني قطْعَ الصوت والحركة، والعودةَ إلى عزلة الجدران، إلى "عالم من التوحّد."[16]

في المقالة المعنونة: "نظرة ممنوعة، صوت مقطوع،" تُبيّن جبّار أنّ لوحةَ دولاكروا المعنونة "نساء الجزائر في شقتهنّ" تعكس رؤيةً سطحيّةً إلى شرقٍ صامتٍ ومرفَّه. ولكنّها أيضا تضعنا في موقع الناظر أمام هؤلاء النساء، فتذكّرنا بأنْ لا حقّ لنا عادةً في أن نكونَ هناك، وأنّ هذه اللوحة في حدّ ذاتها "نظرة مسروقة."[17]

لكنّ النساءَ الأمّيّات، راوياتِ القصص، قادراتٌ على أن يرسمن صورًا لمعاركَ بألوانٍ تُنافس ألوانَ دولاكروا. همساتُ هؤلاء النساء المنسيّات رسمتْ لوحاتٍ لا يمكن استبدالُها، وبالتالي حُكْنَ معنى التاريخ بالنسبة إلينا.[18] تقول جبّار إنّ لوحةَ بيكاسو، في مقابل لوحة دولاكروا التي تجعل الجزائريّات موضوعًا للنظرة الأبويّة الاستعماريّة، تُظهرُهنّ متحرِّراتٍ، وحريّتُهنّ تظهر في حركة أجسادهنّ وتدفّقِها نحو الخارج؛ بينما يُبقي بيكاسو على امرأةٍ واحدةٍ مغلقةٍ على ذاتها، ضخمة. فكأنّ لوحة بيكاسو تعبيرٌ عن العلاقة بين الهدوء القديم والمزيّن (السيّدة لا تتحرّك ولكنّها تبدو صخرةً من القوّة الداخليّة)، وبين الانطلاق الارتجاليّ في الفضاء المفتوح.[19]

جبّار تستخدم اللوحةَ لتؤكّد أنْ لا حريّةَ للنساء إذا صمت الماضي وانقطع الصوتُ الذي يتّصل به: "فقط من خلال تمتمات الماضي تُمْكنني رؤيةُ استعادة المحادثة بين النساء، تلك التي جمّدها دولاكروا في لوحته. فقط في الباب المفتوح أمام شمسٍ كاملةٍ، كالتي فرضها بيكاسو لاحقًا، يمكن أن يكون هناك أملٌ في تحرّرٍ ملموسٍ ويوميٍّ للنساء."[20]

فلسطين المحتلّة

 

 


[1] فرانز فانون، العام الخامس للثورة الجزائريّة، ترجمة ذوقان قرقوط (بيروت والجزائر: دار الفارابي، 2004).

[2]Assia Djebar, “Forbidden Gaze, Severed Sound,” in: Women of Algiers in Their Apartment, trans. Marjolijn de Jager (Charlottesville and London: University of Virginia Press), pp. 134-158

[3] Ibid, p.144

[4]Ibid

[5]Ibid

[6]Ibid

[7]Ibid, p. 146

[8]]See: "Women of Algiers in Their Apartment," p. 7

[9]Ibid, p. 44

[10]Ibid

[11]Ibid, p. 50

[12]Assia Djebar, Fantasia: An Algerian Cavalcade (London and New York: Quartet Books, 1985)

[13]“Women of Algiers”, p. 15

[14]Fantasia

[15]“Forbidden Gaze,” p. 148.

[16]Ibid

[17]Ibid, p. 137. اللوحة رسمها دولاكروا بعد أن سمح له "شاووش" جزائريّ بالدخول إلى الحريم، أيْ إلى معزل النساء حيث لا يُسمح بدخول أيّ رجل. ولذلك فإنّ هذه اللوحة نظرة مسروقة، وفيها انتهاكٌ ذكوريّ واستعماريّ.

[18]Ibid, p. 147

[19]Ibid, p. 149

[20]Ibid, p. 151

اميرة سلمي

أستاذة مساعدة في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت. حصلتْ على شهادة الدكتوارة في الخطابة من جامعة كاليفورنيا ــــ بيركلي، وعلى شهادة الماجستير في النوع الاجتماعيّ والتنمية من جامعة بيرزيت. لها أبحاثٌ في مجال الدراسات الاستعماريّة: الخطاب الاستعماريّ، دراسات ما بعد الاستعمار، الكتابة المناهضة للاستعمار، الكتابة الأدبيّة الثورية في فلسطين وأفريقيا. كما كتبتْ عن الكتابة النسائيّة، والخطابات التنمويّة.