من عاصمة الغرافيتي: إكزارخيا، آخرُ معاقل الحرية في أوروبا؟
10-10-2019

 

اختلف أهلُ اليونان في أمرِ إكزارخيا: أهو أكثرُ أحياءِ أثينا أمنًا، أمْ أكثرُها خطرًا؟ وإكزارخيا هو حيُّ الرسوم والشعارات على الجدران؛ وحيُّ المجموعات الطلّابيّة اليساريّة والفوضويّة؛[1] وحيُّ الفقراء واللاجئين والمهاجرين (المسجَّلين وغير المسجّلين). وفي شهر يوليو (تمّوز) الماضي، صعد حزبُ "الديمقراطيّة الجديدة" اليمينيّ إلى الحكم على منصّة انتخابيّة/أمنيّة تتوعّد بإعادة الشرطة إلى إكزارخيا ضمن خطّةٍ لفرض سلطة قوى الأمن على الجيوب الخارجة عن سيطرتها. وفي المقابل، توعّد اليساريّون والفوضويّون، المتحصِّنون في الحيّ، بأنّهم جاهزون للمعركة.

 

انطباعاتٌ عابرة

هكذا وصلنا إلى إكزارخيا على وقع مواجهةٍ وشيكة. وأوّلُ ما لفت انتباهَنا هو كثافةُ الغرافيتي، إذ لا حائطَ في الحيّ إلّا وعليه رسمٌ أو شعار. هذا فضلًا عن اللافتات والملصقات التي تحمل شعاراتٍ سياسيّة، أو تدعو إلى تجمّعٍ سياسيّ أو ثقافيّ أو فنّيّ، باليونانيّة غالبًا، وبالإنجليزيّة والتركيّة والفارسيّة والعربيّة ولغاتٍ أخرى في باقي الأحيان. كما لفتتْ نظرَنا كثرةُ اللاجئين غيرِ اليونانيين، وقلّةُ السياح، وأنّها ليست منمّقةً مثلَ أحياء أثينا السياحيّة، وأنّ البعوضَ ينتشر في بعض منتزهاتها (وقد باغتَنا عند وصولنا بعوضٌ دقيقُ الحجم، تلسع لدغتُه أضعافَ ما يلسعه بعوضُ بلادنا).

تشتهر إكزارخيا كذلك  بمنتزهها "المسيَّرِ ذاتيًّا،" وقد انتزعه الناشطون عنوةً من الدولة. وبعد أنْ كان معدًّا لأن يكون موقفَ سيّارات، أصبح ساحةً لتنزّهِ أهالي الحيّ، وصار فيه ركنٌ للعب الأطفال، وركنٌ يلتقي فيه الناسُ ليدخّنوا ويغنّوا، وحائطٌ يُظْهر رسمًا لزهورٍ عملاقةٍ مع وسمٍ يقول: "حاوَلوا أن يقطفونا، ولكنّهم لم يعلموا أنّنا مليئون بالبذور." فكأنّ الوسم يؤرِّخ لمواجهةٍ سابقةٍ مع السلطات، أو يتنبّأ بمواجهة قادمة!

وتشتهر إكزارخيا كذلك بالسينمات المفتوحة في الهواء الطلق. وهي تَعْرض أفلامًا، معظمُها قديم، وخارجٌ عن التيّار الهوليووديّ السائد (خلال زيارتنا وجدناها تعرض أفلامًا من أيقونات السينما العالميّة، مثل دولتشي فيتا لفريدريكو فلّيني، أو من سينما أوروبا الشرقيّة في الحقبة الشيوعيّة مثل فيلم الأرجوحة الدوّارة للمجريّ زولتان فابري).

وتتميّز إكزارخيا بأزقّتها الضيّقة المزدانة بالمقاهي والحانات، كأنّها الزواريبُ الممتدّةُ بين شارعَي الحمرا وبلِسْ في بيروت. هذا من حيث العمران. أما من حيث الصوت، فإنّ إكزارخيا ستذكّركَ حتمًا بالقاهرة إنِ امتدَّ بك السهرُ حتّى ساعات الصباح الأولى وسمعتَ غناءً ذا نبرةٍ مشرقيّةٍ يأتيكَ من مذياع أحد المقاهي أو المغنّين السهرانين.

 

صوتُ إكزارخيا

في إكزارخيا ينتشر نوعٌ من الغناء يسمّى "رِبيتكا." وهو قائمٌ على التطريب، ومتأثّرٌ بالغناء التركيّ والعثمانيّ (بما فيه العربيّ).

ترتبط الربيتكا بالطبقات الفقيرة. وتتناول، عادةً، مواضيعَ تتعلّق بحياة الفقراء اليوميّة، وحياةِ الحانات والمجرمين والسجون والمهاجرين والمهمَّشين. وتعود جذورُ هذا النوع من الغناء إلى النازحين اليونانيين القادمين من المناطق العثمانيّة إلى أثينا ومحيطِها في عشرينيّات القرن العشرين، أثناء الحرب العثمانيّة - اليونانيّة. وقد نظر إليها اليونانيّون المقيمون في اليونان، أوّل الأمر، نظرةً فوقيّةً، فعدّوها موسيقى المشرقيين والمجرمين والوافدين. وفي الثلاثينيّات منعتها السلطاتُ اليونانيّة على اعتبارها "موسيقى تركيّةً" (وفي هذه الأثناء منعت السلطاتُ في تركيا الوليدة الربيتكا على اعتبارها "موسيقى يونانيّةً").

ولا تخلو الربيتكا من تأثيراتٍ مصريّةٍ واضحة. بل إنّ إحدى أشهر أغانيها تسمى مصرلو (أي "المصريّة"). وقد أعاد المغنّي اللبنانيّ الأمريكيّ ديك ديل تقديمَها سنة 1962 بإيقاعٍ أسرع، واتّخذ منها كوينتن تارانتينو موسيقى لفيلمه Pulp Fiction سنة 1994. وفي النسخة الأصليّة من الأغنية هناك مقطعٌ يقول: "آه يا حبيبي آه، آه يا ليل" على الطريقة المصريّة، و:"ياللي أمان" على الطريقة التركيّة.

إذا كانت الذائقةُ العامّةُ اليونانيّة قد استوعبت الربيتكا واستأنستْها، فإنّ إكزارخيا تعيد الربيتكا إلى جذورها. فلا يمكنك أنْ تغضَّ الطرفَ عن وضع اللاجئين المخيِّمين على مقربةٍ منك، أو الجالسين على الطاولة المجاورة؛ ولا يمكنك إلّا أن تتحسّبَ هجومَ الشرطة الوشيكَ عليهم حين تستمع إلى الأغنية العشرينيّة التي تقول: "ما همَّكَ، ولماذا تظلّ تسأل مِن أين أنا؟ أنا من قومٍ يَعرفون كيف يحبّون، وكيف يُدارون الجرحَ بالاحتفال. جئتُ من إزمير، لأجد في أثينانا ملاذًا وحبًّا."[2]

 

الذائقةُ العامّةُ اليونانيّة قد استوعبت الربيتكا واستأنستْها

 

طباق

وكما في القاهرة أو بيروت، فإنّ من السهل أن تلملمَ أطرافَ الحديث من على طاولات المقاهي، أو أنْ تجدَ نفسَكَ من دون سابق تخطيطٍ طرفًا فيه.

قال رجلٌ يشبهنا إنّ إكزارخيا هي الأكثرُ أمنًا لأنّ عصابات "الفجر الذهبيّ" الفاشيّة لا تجرؤ على دخولها. ففي الأحياء الأخرى تهاجِم هذه العصاباتُ مَن يبدو عربيًّا أو مشرقيًّا، وتروِّع اللاجئين لكيْ تجبرَهم على الرحيل. ولم يخلُ سجلُّ هذه العصابات  من جرائمِ قتلٍ لمن يخالفهم الرأيَ، مثل المغنّي بافلوس فيساس الذي قتلتْه في إحدى ضواحي أثينا سنة 2013. أمّا هنا، فنحن في أمان.

وقالت فتاةٌ إنّ هذا الحيّ أكثرُ أمنًا للنساء. ووافقتْها أخرى، أمريكيّة يونانية، قائلةً إنّها حين انتقلتْ إلى العيش هنا، علّمتْها الدعايةُ اليمينيّةُ أن تخشى المشرَّدين وتجّارَ المخدِّرات في ميدان إكزارخيا؛ ولكنّها حين تعرّضتْ لتحرّشٍ جسديّ في حيٍّ آخرَ من أحياء أثينا، تمنّتْ لو كانت في إكزارخيا لأنّها تعلم أنّ مَن يملأون الميدانَ هنا لم يكونوا ليَسمحوا بأنْ يحدثَ ذلك بين ظهرانيهم.

واسترقْنا السمعَ كذلك إلى امرأةٍ تشكو أنّ المخدِّراتِ والمولوتوف كانت دائمًا حاضرةً منذ طفولتها في هذا الحيّ، وأنّ الأمر تحوّل منذ التسعينيّات إلى حالة حرب (قالت "مثل العراق وإيران ولكنْ أسوأ"). وقالت إنّ تجّارَ المخدِّرات، منذ كانت تذهب إلى المدرسة في هذا الحيّ، كانوا يمارسون عملَهم جهارًا بجوار المدرسة، ولم تتدخّل الشرطة.

وقال أحدُ الجالسين إنّ استراتيجيّة محاربة البؤر الطلّابيّة الراديكاليّة عن طريق المخدِّرات استراتيجيّةٌ أمريكيّةٌ معروفة لا بدّ من أنّ الشرطة اليونانيّة تعلّمتْها عبر تاريخها الطويل في التعامل مع المخابرات الأمريكيّة. ولم يَستبعدْ أنْ تكون الشرطةُ هي التي دسّت تجّارَ المخدِّرات في إكزارخيا اليوم لتبرير غاراتها، أو ليعملوا لديها مخبِرين.[3]

ونصحنا جليسٌ آخرَ بأنْ نبتعد إنْ رأينا مقنَّعين يرصّون صفوفَهم وقد تسلّحوا بالهراوات أو المولوتوف، قائلًا: "هؤلاء هم الفوضويّون!" لن تضرَّ صفوفُهم العابرين، ولكنّهم حين يَشْرعون في هذا الاستعراض، المتكرّرِ بين الفينة والفينة، وأحيانًا في نهاية كلّ أسبوع، فذلك إيذانٌ بهجوم الشرطة، التي ستُمْطر المكانَ بقنابلِ الغاز المُسيل للدموع. وقالت الأمريكيّة اليونانيّة إنّها حين جاءت للعيش هنا، فاجأها الدخانُ أثناء تجوّلها في الحيّ، ووجدت الناسَ يهرعون إلى المقاهي والحانات، فالتجأتْ إلى إحداها، وسألت النادلةَ لماذا يطلقون قنابلَ الغاز، فأجابتها ببساطة: "لأنّها عطلة نهاية الأسبوع!"

قد يُنظر إلى هذه الدوريّات الفوضويّة على أنّها محضُ استعراضٍ طفوليّ، أو محضُ ذريعةٍ لتدخّل رجال الأمن. إلّا إنّها تؤدّي، كذلك، دورَها في ردع الفاشيين. وقد  امتدّت هذه الدوريّاتُ إلى وسط أثينا في العام 2016 حين تردّدتْ أنباءٌ عن نزول منظّمة "الفجر الذهبيّ" الفاشيّة إلى الشوارع، بحماية الشرطة، لإثارة الشغب. وبحسب بعض منظِّمي هذه الدوريّات، فإنّها أدّتْ إلى النتيجة المرجوّة ومنعتْ شغبَ الفاشيين.

تشمل أنشطةُ الفوضويّين، كذلك، أشكالًا من التخريب[4] الرمزيّ والمنظّم، كان آخرَها قيامُ حركة روفيكوناس الفوضويّة في أيّار (مايو) من هذا العام بإلقاء الطلاء على مدخل السفارة الأمريكيّة، ردًّا على تدخّل هذه السفارة في سيْر محاكمات أعضاء "حركة 17 نوفمبر الثوريّة" المسلّحة، التي اتّخذتْ هي الأخرى من إكزارخيا معقلًا لها، واستهدفتْ في الأساس الوجودَ العسكريَّ والمخابراتيَّ الأمريكيّ في اليونان ما بين العاميْن 1975 و2002.

 

تشمل أنشطةُ الفوضويّين أشكالًا من التخريب الرمزيّ والمنظّم

 

وأمام تكرار عمليّات "التخريب" التي تقوم بها روفيكوناس، قرّرت الحكومةُ اليمينيّة أنْ تضرب طوقًا من الشرطة على إكزارخيا، وفي الليل تحديدًا، قائلة إنّها بذلك تهدف إلى اعتقال الفوضويين أثناء عودتهم إلى إكزارخيا إنْ خرجوا منها للقيام بأعمال عنفٍ أو تخريب. إلّا أنّ ذلك لم يثْنِ روفيكوناس عن استهداف السفارة الأمريكيّة، إذ جاء الهجومُ بالطلاء على واجهة السفارة بعد يومٍ واحدٍ من هذا الطوق، الذي سيلعب دورَه في هجوم الشرطة الوشيك على الحيّ.

"ربما تكون إكزارخيا آمنةً في المجمَل،" قال أحدُ الجالسين، "ولكنّك لا تعْلم مطلقًا متى ستبدأ الحرب!"

 

ثاراتُ إكزارخيا: نبذةٌ تاريخيّة

كانت اليونان سنة 1973 ما تزال ترزح تحت حكم الديكتاتوريّة العسكريّة المدعومة من الولايات المتّحدة الأمريكيّة،[5] والتي صعدتْ إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكريّ سنة 1967. وعلى الرغم من نجاح  تلك الطغمة في قمع المعارضة وترهيبها، فإنّ العام 1973 شهد صعودًا للحركات الاحتجاجيّة العمّاليّة والنقابيّة. كما كانت الجامعاتُ اليونانيّة تموج بالتيّارات السياسيّة والاحتجاجيّة، التي أثمرتْ سلسلةً من الاعتصامات الطلّابيّة المطالبة بالحريّات والخبز وخروجِ الولايات المتّحدة والناتو من اليونان.

شكّلت المجموعاتُ الطلّابيّة في كلّيّة الفنون التطبيقيّة، الواقعةِ على حدود إكزارخيا، رأسَ حربة الحركة الطلّابيّة. وفي 14/11/ 1973، احتلّ الطلّابُ مباني الكليّة. وفي اليوم التالي أنشأوا إذاعةً مستقلّةً لتنسيق النشاط الاحتجاجيّ على امتداد اليونان، وبدأ المتضامنون يتقاطرون نحوهم. وفي الليلة الخامسة من الاعتصام بدأ هجومُ الجيش بالدبّابات والذخيرة، فقُتل ما بين 24 و 56 شخصًا، سقط معظمُهم في محيط حرم الكلّيّة، قبل أن تجرفَ الدبّاباتُ أسوارَها وتعتقلَ الطلبة المعتصمين.

في تمّوز (يوليو) 1974 سقطت الديكتاتوريّةُ العسكريّة. وفي 17 نوفمبر من كلّ عام تتزيّن إكزارخيا بالأحمر لتتذكّر انتفاضتَها وشهداءَها، ويصبح هذا اليوم فرصةً لتجديد التراث الاحتجاجيّ للمنطقة: فتنزل الحركاتُ اليساريّةُ والفوضويّة بمطالبها وبعدّتها، وتنزل قوى الأمن بسلاحها وبقنابل الدخان. وعادةً ما يتجدّد الصدامُ بين الطرفيْن. وفي العام 1985، في أثناء هذه المواجهات السنويّة،  قتلتْ قوّاتُ الشرطة طفلًا لا يتعدّى الخامسة عشرة، فردّ الطلّابُ بموجة أخرى من الاعتصامات، خصوصًا داخل كليّة الفنون.

منذ الأزمة الاقتصاديّة، وفرضِ الاتحادِ الأوروبيّ سياساتِ التقشّف التي نشرت البطالةَ في البلاد ودمّرتْ شبكةَ ضمانها الاجتماعيّ، أصبحتْ مظاهراتُ 17 نوفمبر فرصةً لتجديد الرفض الشعبيّ لهذه السياسات (لاسيّما أمام رضوخ حكومة سيريزا الاشتراكيّة لها).[6] وسنة 2018 تجدّدت الاشتباكات، واعتقلتْ قوى الأمن ستّة عشر متظاهرًا، كما أصيبت امرأةٌ من سكّان إكزارخيا صودف وجودُها على مقربة من الأحداث. وسنرى قريبًا ما يخبّئه نوفمبر 2019.

لا يقتصر تذكّرُ إكزارخيا ماضيَها وثأرَها على يوم 17 نوفمبر. ففي أحد شوارعها الجانبيّة، على سبيل المثال، ثمّة لوحةٌ تتذكّر الصبيَّ ألكساندروس جريجوروبولودس الذي لم يتعدَّ الخامسةَ عشرة، وقد قتله رجالُ الشرطة بدمٍ باردٍ في 6/12/2008، فامتلأتْ جدرانُ إكزارخيا وسائر أثينا بالشعارات التي ترثيه، ونزل الشبابُ إلى الشوارع محتجّين، وكانت إحدى أكبر المواجهات بين الشرطة اليونانيّة والمحتجّين. في هي المواجهة، نضبتْ ترسانةُ الشرطة من قنابل الغاز، فأرسلتْ تطلب المددَ من ألمانيا والكيان الصهيونيّ. وكانت تلك آخرَ مرّةٍ تدخل فيها الشرطةُ إلى قلب إكزارخيا حتى أغسطس/آب 2019.

 

"غرباءُ" إكزارخيا

بالإضافة إلى الناشطين السياسيين، يأوي إلى إكزارخيا المهاجِرون واللاجئون، ولاسيّما غيرُ المسجّلين، فيعمل يساريّو الحيّ وفوضويّوه على إيوائهم وحمايتهم من الشرطة، كي لا يكونوا أوّلَ ضحايا هجوم الشرطة الوشيك على إكزارخيا.

وكانت الحركاتُ السياسيّة في إكزارخيا قد دأبت، وبخاصّةٍ مع زيادة عدد اللاجئين سنة 2016، على احتلال المباني الخاوية، وتحديدًا تلك التي تملكها شركاتٌ كبرى، وعلى إسكان اللاجئين فيها، أو إقامة التجمّعات السكنيّة "المناهضة للسلطة" فيها. ويصل عددُ هذه المرابض في إكزارخيا وحولها إلى حوالي 49. وفي الفترة ما بين 2016 و2019 استضافت إكزارخيا في مبنى فندق السيتي بلازا المهجور مأوًى لللاجئين، إذ قام ناشطون بكسر أقفاله وإسكانِهم فيه ردًّا على الاتفاقيّة التي وقّعها الاتحادُ الأوروبيّ مع تركيا سنة 2016 - - وهي اتفاقيّة تبيح للسلطات الأوروبيّة ملاحقةَ اللاجئين وترحيلَهم إلى تركيا. وقد أقام الناشطون في فندق البلازا مدرسةً غير رسميّة للأطفال، وعيادةً مجانيّة، ومطعمًا يقدّم الطعامَ بسعرٍ زهيد أو مجّانًا. أُغلق هذا المأوى في تمّوز (يوليو) 2019، وسُلّمتْ مفاتيحُ البلازا إلى العاملين فيه، بعد أنْ وجد اللاجئون سكنًا في مبانٍ أخرى مجاورة. أمّا الشعارات المرحِّبة باللاجئين فقد بقيتْ على الجدران.

 

مرحبًا باللاجئين، لا مرحبًا بالسيّاح!

لا يعني هذا أنّ إكزارخيا ترحّب بالغرباء على اختلافهم، بل هي لا تخفي انحيازَها الطبقيّ في ترحيبها. وعلى امتداد الحيّ تنتشر شعاراتٌ بالإنجليزيّة واليونانيّة تقول "مرحبًا باللاجئين، [أمّا] السيّاح فليعودوا من حيث أتوْا!" وتصبُّ الشعاراتُ المناوئةُ للسيّاح جامَ غضبها على شركةAirbnb  التي تسهِّل للناس تأجيرَ بيوتهم الخاصّة، فنقرأ عباراتٍ مثل: "يا سيّاح Airbnb  ارحلوا!" وعلى قماشةٍ سوداء تحمل شارةَ الفوضويين نقرأ: "ليعُدْ مؤيِّدوAirbnb  إلى ديارهم، فنحن هنا نخوض حربًا طبقيّة."

لمّا سألنا عن سبب هذا العداء، قيل لنا إنّ التأجيرَ عبر هذه الشركة سمح لمالكي الشقق بعرضها بأسعارٍ تفوق سعرَ الإيجار المحلّيّ، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الإيجار بحيث لم تعد في متناول فقراء أثينا أو لاجئيها. كما أدّى ذلك إلى ملء الشقق الفارغة التي كان أصحابُها سيضطرّون إلى عرضها للإيجار بأسعارٍ أقلّ. وقيل لنا أيضًا إنّ السيّاح أتوْا لملء ملاذ الناشطين واللاجئين، فلم يعد هؤلاء يجدون أماكنَ لسكنهم.

كما يَضِيق فوضويّو إكزارخيا بالتعامل السياحيّ مع قضيّتهم، وبالسيّاح الذين يأتون ليتسلّوا بمشاهدة الغرافيتي (مثل كاتب هذا المقال ربّما)، أو ليلتقطوا الصورَ مع رجال الشرطة (وهو ما لا يمكن أنْ يُقْدمَ عليه كاتبُ هذا المقال).

 

حكاياتُ الغرافيتي

ولا يمكننا أن نحكي عن إكزارخيا من دون أن نحكي عن الغرافيتي الذي ينتشر ويتمدّد ويتغيّر من يوم إلى يوم. فليس غريبًا أن يضيف فنّانٌ غرافيتيٌّ على رسم سابقيه، ويحمِّلُه المزيدَ من المعاني والرموز. تتكرّر، بطبيعة الحال، شاراتُ الفوضويّين (مثل حرفA  داخل دائرة)، والشيوعيّين (مثل المطرقة والمنجل)، أو الشارات المشتركة بينهما (مثل النجمة الخماسيّة). هناك أيضًا وجودٌ واضحٌ للشعارات التي يُجمع عليها الطرفان مثل وجوب إسقاط الرأسماليّة، أو رفض عمل المنظّمات غير الحكوميّة الخيريّة، وشعارات التضامن مع المساجين ومعتقلي الرأي واللاجئين المعرَّضين للاحتجاز والترحيل. ولا تخلو كذلك من شعارات التضامن مع القضيّة الفلسطينيّة، والملصقات التي تدين جدارَ الفصل العنصريّ الإسرائيليّ أو تدعو إلى التظاهر أمام سفارة الكيان الصهيوني في ذكرى "النكبة" (ويكتبونها هم أيضًا بالعربيّة لكنْ بحروفٍ يونانيّة).

 

لا يمكننا أن نحكي عن إكزارخيا من دون أن نحكي عن الغرافيتي

 

إلّا إنّ الشعارات والرسوم الأكثر انتشارًا هي تلك المناوئة للشرطة، مثل شعار "أكاب" الذي يمثّل الحروفَ الأولى من جملة "كلّ الشرطة أوغاد" (بالإنجليزيّة)، وغيرِها من عبارات السباب الموجَّهة إلى الشرطة، وبعضُها مكتوب بفنّيّات عالية في الخطّ والتصميم.

لا تقتصر حكاياتُ الغرافيتي في إكزارخيا على السياسيّ والاحتجاجيّ. فهناك حكايةُ رسّام الغرافيتي سانكِه الذي تركتْه حبيبتُه من دون سابق إنذار واختفتْ تمامًا. فظلّ يرسم لها الوردَ على جدران أثينا. ثمّ بدأ يرسم بخطوطٍ متموّجة نساءً يشْبهنها بعيونٍ واسعة وأهدابٍ مقوَّسة وأجسامٍ مدوّرة وشعورٍ مسترسلة. وكانت رحلةُ الرسم رحلةَ تسييسٍ لسانكه أيضًا: فقد تطوّر من اختزاله محبوبتَه في وردة، إلى تصويرها تضحك وتبكي وتقرأ وتنظر للمارّة بعيون ثاقبة، أو رسمها إلى جانب شعارات سياسيّة و/أو نسويّة أو وسط مواجهةٍ بين المحتجّين والشرطة، أو مع عاشق فوضويّ يجيل عينيْه بينها وبين خنزير (يمثّل بلا شكٍّ رجالَ الشرطة) ويمسك في يده بزجاجة مولوتوف مشتعلة.

لا نعلم يقينًا إنْ كان الفوضويّ والخنزير جزءًا أصيلًا من الرسم، أمْ إضافةً من فنّان آخر. إلّا أنّ هذا الرسم يدلّ على أنّنا لا نستطيع أنْ نفكّرَ في قصص الحبّ في إكزارخيا من دون أنْ نفكّر في الفوضويّ - المناضل، والشرطيّ - الخنزير.

 

شريطٌ إخباريّ

كنّا نودّ أن نختمَ هذا المقال بملاحظاتٍ تتناول نجاحَ الحركات الاحتجاجيّة في خلق مساحاتها التضامنيّة، وفي تقديم خدماتها الاجتماعيّة (التي لا تستثني الغرباءَ) بعيدًا عن الدولة.

وكنّا نودّ أن نختمَه بانطباعات عابرة عن شعورنا بالدفء ونحن نتجوّل في هذا العالم الفريد، الذي لا يثير قلقَنا فيه سوى مرورِنا برجال الشرطة الذين يحيطون به كسياجٍ في آخر الليل، وينتظرون أوامرَ حكومتهم اليمينيّة باقتحامه. 

ولكنْ، في الساعات الأولى من صباح 26/8/2019، وبعد أن كنّا قد فرغنا من المسوَّدة الأولى لهذا المقال، بدأ هجومُ الشرطة اليونانيّة على حيّ إكزارخيا. وقد شاركتْ فيه قوّاتُ مكافحة الشغب، ووحداتُ محاربة الإرهاب، وفِرقُ الدرّاجات البخاريّة، والمروحيّاتُ، والمسيَّرات.

تركّز هجومُ الشرطة على مرابض اللاجئين، ووصلت الاعتقالاتُ في اليوم الأوّل إلى ما يزيد على المائة، معظمُهم من اللاجئين، ومن بينهم عائلاتٌ وأطفالٌ ورُضّع. ومن المنتظر أنْ تُلقي بهم الشرطةُ في معسكرات اللجوء/الاعتقال، حيث يعاني المحتجَزون التكدّسَ وتقلّباتِ الحرارة وانعدامَ الرعاية الصحّيّة والنفسيّة وسوءَ التغذية وانتشارَ الأوبئة، بل الضربَ والتعذيبَ في بعض الأحيان أيضًا. وفي تصريح للقائم بأعمال رئيس اتحاد الشرطة اليونانيّة، شبّه غارةَ الشرطة بالمكنسة الكهربائيّة التي "ستشفط من إكزارخيا قمامتَها." وحين سُئل عمّا يعنيه، قال إنّه لا يعني اللاجئين والمهاجرين ("فهؤلاء ليسوا سوى غبارٍ يسبّب إزعاجًا!")؛ أمّا القمامة الحقيقية فهي "المجرمون، واليساريّون المتطرّفون، والفوضويّون المتطرّفون."

هذا، وتبقى إكزارخيا تحت حصارِ الجنود والمروحيّات حتى كتابةِ هذه السطور.

نيويورك


[1] ثمّة اعتراض على استخدام مصطلحَي "الفوضويّة" و"الفوضويين" ترجمةً لـanarchist  وanarchism . إلّا أنّني أجد استسهالًا في استخدام "أناركي" أو "أنارشي" ترجمةً، وأرى في المقابل تقعّرًا وتكلّفًا في مصطلح مثل "اللاسلطويّة." هناك ترجمات أكثر إبداعًا ودقّة، مثل "التحرّريّة،" إلّا أنّ هذه الترجمة تختزل "التحرّر" و"الحريّة" في مفهوم واحد وتجعل لهما مسارًا واحدًا.

وفي المقابل، إذا كان مصطلح "الفوضويّة" لا يخلو من معانٍ سلبيّةٍ تُظْهره ذمًّا للتيّار الذي يرفض سلطةَ الدولة من أساسها، فإنّ الاستخدام التاريخيّ لمصلطلح anarchy  منذ اليونان القديمة لم يخلُ كذلك من إيماءاتٍ سلبيّة؛ بل إنّ ظهور تيّارات تطلق على نفسها هذا الاسمَ تُمْكن قراءتُه على أنّه نوع من التحدّي للمفهوم وسلطته القيميّة.

من الممكن طبعًا انتقادُ المصطلح من باب أنّ التحرّر من سلطة الدولة لا يعني الفوضى بالضرورة؛ غير أنّ إصرارَ البعض على رفض مصطلح "الفوضويّة" قد يشي بانحياز سياسيّ ومعرفيّ لـ"النظام" على حساب الفوضى. ومن الممكن كذلك نقدُ المصطلح لأنّه يرتبط في أذهان الكثيرين بأشكال معيّنة من العنف غير المنظّم أو شبه المنظّم؛ ولكنّ فوضويّي إكزارخيا بالذات، كما سنرى في هذا المقال، يتبنّوْن أشكالًا معيّنة من العنف المحدود - والدفاعيّ أو الرمزيّ في أغلب الأحيان.

لكلّ هذه الأسباب سأتمسّك بمصطلح "الفوضويين." وأتمنّى ألّا يُفهم المصطلح على أنّه حكمٌ قيميّ مسبّق على هذه الجماعات وفكرها.

[2] نقلًا عن الترجمة الإنجليزيّة (بتصرّف)، إذ إنّ كاتب هذه السطور لا يجيد اليونانيّة. 

[3] في سياق شبيه، يذهب ناشط فوضويّ يونانيّ – إكزارخيّ إلى الاستنتاج نفسه، ويقول إنّ وجود تجّار المخدِّرات في إكزارخيا هو جزء من سياسةٍ اتّبعتها الشرطةُ اليونانيّة منذ العام 2010 على الأقلّ من أجل إقجام المخدّرات في إكزارخيا والجامعات وبؤر العمل الاحتجاجيّ كافّةً. ويقول إنّ غارات الشرطة على إكزارخيا كانت في مجملها تستهدف مرابضَ اللاجئين والناشطين، لا تجّار المخدِّرات:

http://autonomies.org/2019/08/the-new-war-on-immigrants-and-anarchists-in-greece-an-interview-with-an-anarchist-in-exarchia/?fbclid=IwAR3QMCw2J2zdB-QRYv1p_3wuwnzPNTJ4d_8uMyv7DeLqi5oBb_KpJA7ANN4.

[4] مرّةً أخرى، أستخدم كلمة "تخريب" هنا من دون أيّ حكم قيميّ مسبّق، وأراها ترجمةً مناسبةً لمصطلحَيْ vandalism  وsabotage . جدير بالذكر أيضًا أنّ روفيكوناس حريصة على ألّا تؤدّي عمليّاتُ التخريب التي تقوم بها إلى أيّ أضرار بشريّة، وأنّ معظم هذه العمليّات لم تشكّل خرقًا للقانون اليونانيّ نفسه.

[5] الثابت أنّ الولايات المتّحدة دعمت النظامَ العسكريّ في اليونان، وأنّ المجموعة التي قامت بالانقلاب كانت تضمُّ ضبّاطًا مقرَّبين من المخابرات الأمريكيّة ومن الفاشيين السابقين الذين اعتمدتْ عليهم الولاياتُ المتّحدة لمحاربة التأثير الشيوعيّ. إلّا أنّ الكتابات الأكاديميّة والصحفيّة تشوبها محاولاتٌ حثيثةٌ غير مقْنعة لتبرئة الولايات المتّحدة من التخطيط للانقلاب (حتى حين تعترف بأنّ المخطّطين له كانوا من عملائها ويتلقّوْن راتبًا من مخابراتها). وعلى كلّ حال، فسواء خطّطت الولاياتُ المتحدة للانقلاب أمْ أعطته الضوءَ الأخضر أو تعاملتْ معه كأمر واقع، فإنّنا نعلم أنّها دعمت النظامَ العسكريّ، وأنّ مخابراتها كان لها وجود قويّ في اليونان في ظلّه.

[6] فازت حركة سيريزا في انتخابات 2015 على خلفيّة رفض هذه السياسات. ثم ذهب رئيسُ وزرائها ألكسندر تسيبراس إلى لندن للتوقيع على السياسات ذاتها التي كان قد وعد برفضها. ومن ثمّ طُرحتْ تلك السياساتُ على الاستفتاء العامّ. وبعد أن صوّتَ الناس بـ"لا،" معطين سيريزا الزخمَ الشعبيّ الذي كانت تحتاجه لمواجهة السياسات الرأسماليّة للاتحاد الأوروبيّ، خالفتْ سيريزا مرةً أخرى وعودَها وإرادةَ الناخبين ومرّرتْ سياساتِ التقشّف. ربّما كان تواطؤ سيريزا مع السياسات اليمينيّة، أو عدمُ احترامها للرغبة الشعبيّة المثبتة بالاستفتاء، سببًا في عزوف الناس عن الاقتراع في انتخابات هذا العام وصعود حركة "الديمقراطيّة الجديدة" إلى الحكم.

احمد دردير

باحثٌ وكاتب مصريّ. حاصل على الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا، وعلى الماجستير في النظريّة السياسيّة من الجامعة الأمريكيّة في بيروت. له مقالات ثقافيّة ونقديّة في جريدة الأخبار وعلى موقع حبر، وله تجارب في الإخراج المسرحيّ.