النضال ما زال نضال الأرض
13-02-2020

 

 

خطيئةُ رجل الأعمال الرأسماليّ، أو راعي البقر الأمريكيّ، كما الفيلسوف الأوروبيّ، أنّه ما زال عاجزًا عن قبول حقيقة أنْ ليس جميعُ الناس على صورته، وأنّه ليس صورةَ الله على الأرض.

المستعمِر الصهيونيّ، كما أسلافه ورفاقه من المستعمِرين (الرأسماليّين)، السابقين والحاليّين، يراهنون على سلب الفلسطينيّ الحياةَ والقدرةَ على المقاومة، وذلك باقتلاعه من أرضه. ومع أنّنا لا ندّعي أنّ ترامب وغيرَه من قوّاد الرأسماليّة الفظّة قادرون على إدراك علاقة الإنسان بالأرض، فإنّنا نستطيع التأكيدَ أنّهم يدركون - بالغريزة الرأسماليّة - أنّ الرأسماليّة لا يمكن أن تعيشَ من دون اقتلاع الناس من أرضهم. وهم لا يحتاجون إلى قراءة ماركس كي يصلوا إلى حقيقةٍ واضحة: أنّ العلاقة بالأرض تمثّل المصدرَ الفعليَّ للروح المقاوِمة.

يراهن الرأسماليُّ على الآتي: حين يُقتلع الإنسانُ من الأرض، بالاستعمار أو الرأسماليّة أو كليْهما، ويُحوَّل إلى عاملٍ يعتاش على الأجر الذي يَسدُّ به "حاجاتِه الأساسيّة" (كما يقال في خطابات "التنمية الدوليّة" التي غدت خطاباتِ "التنمية الوطنيّة" أيضًا)، فإنّه يُصبح منزوعَ الروح والإرادة، عاجزًا عن المقاومة. بكلامٍ آخر: يتوهّم الرأسماليّون أو المستعمِرون أنّ المرءَ عندما يعجز عن العيش من عمله، ويُعَلَّم أنّ فقرَه ناتجٌ من عجزه لا من استغلاله أو اقتلاعه، فإنّه يعلِّمُ نفسَه أنْ يحتقرَ معيشتَه وكلَّ ما تتضمّنُه من معارفَ ومهاراتٍ وقيمٍ، وأن يقدّسَ كلَّ المعارف والمهارات والقيم التي تستغلّه.

ومع ذلك، فليس قوّادُ الرأسماليّة، حتى وهم يضعون خططًا لمصير البشر، من الصين إلى تشيلي وفانزويلّا وفلسطين، بآلهة. وكما كتب ماركس عن إيرلندا، وفانون عن الجزائر، فإنّ الاضطهادَ والاستغلالَ الاستعماريّيْن يبقيان قوّةً "خارجيّة،" لا يمكنها أن تتحوّلَ إلى قوّةٍ مهيمنةٍ تكتسب شرعيّتَها من استدخالها وتطبيعِها من قِبل المستعمَرين أنفسهم. وهذه "الخارجيّة" تبقى الشرطَ الأساسَ الذي يحدث فيه النضالُ المناهض للاستعمار. وإذا كان عنفُ الحاجة إلى المال، كما عنفُ المقصلة والسجن، قد أدّى غرضَه في المجتمعات التي نما فيها بهدف القمع والتدجين، فإنّ نقله إلى المجتمعات المستعمَرة قد يعني بدايةَ اضمحلاله وتراجع أثره.

فأمام كلّ عمليّة تجويعٍ أو تشريدٍ أو قتل، ما يزال المستعمَرون قادرين على الارتباط بالحياة، وبمصدرها الأوّل: الأرض. فالفلّاح يأخذ الحياةَ من الأرض، ويعيدُها إليها، لتعيدَها إليه. وهذه العلاقة التبادليّة مغايرةٌ لعمليّات التبادل الرأسماليّة التي تحوِّل كلَّ شيء إلى سلعةٍ ذاتِ قيمة تبادليّة، بحيث تصبح الأشياءُ كائناتٍ حيّةً، بينما يتحوّل كلُّ ما هو حيٌّ إلى أشياءَ للمبادلة. وإذ تقوم الأولى على استمرار الحياة، فإنّ الثانية تعمل على استنزافها.

ليس مصادفةً أنّ معظمَ برامج التنمية التحديثيّة (الرأسماليّة والاستعماريّة) استهدف نمطَ حياة الفلّاحين، باعتباره التهديدَ الرئيسَ الذي يَحُول دون تجريد الناس من أيّ إمكانيّةٍ للحياة إلّا بتحّولهم إلى سِلع (قوّة عمل) تبيع نفسَها في السوق الرأسماليّة. وليس مصادفةً أنّ معظمَ ثورات العالم قادها فلّاحون: ففي نمط حياة الفّلاح لا سلطةَ لمؤسّساتٍ تتوسّط بين الإنسان وعملِه أو مجتمعه. والأهمّ أنْ لا تنازلَ مطلقًا في حياته لصالح سلطةٍ عليا خارجةٍ عن المجتمع وفوقه. أيْ إنّ حكم الدولة وقانونَها لا يتحوّلان إلى سلطةٍ مهيمنةٍ تعمل على إنتاج ذواتٍ مدجَّنةٍ تسلِّم مسؤوليّتَها عن ذاتها إلى الدولة. من هنا يمكن أنْ نفهم توقّعَ ماركس أنّ البديل من النظام الرأسماليّ قد يأتي من أشكال المقاومة "البائدة" التي تنتهجها الجماهيرُ الشعبيّةُ الفلّاحة في دول العالم الثالث التي لم تصبح الرأسماليّةُ فيها بعدُ جوهرَ الوجود الإنسانيّ.[i]

 

 البديل من النظام الرأسماليّ قد يأتي من أشكال المقاومة التي تنتهجها الجماهيرُ الشعبيّةُ الفلّاحة

 

عن إيرلندا يقول ماركس إنّ الأرض هي الحياة، وغايةُ النضال الأساسيّة. الأرض في هذه الحالة ليست غرضًا للحيازة أو التملّك، بل هي تحمل الحياةَ وتلدُها. الارتباطُ بالأرض يعني الارتباطَ بالحياة بكلّ قوّتها، من دون خوف أو قلق أو انفصام حضاريّ. وهذا الارتباط يشكّل الشرط الذي يجد فيه المستعمَرُ قدرته على مقاومة قوى الحضارة الزائفة وآثارِها التدجينيّة. والثورة نفسها تجد شعلتَها عندما يتعرّض هذا الارتباطُ للخطر.

يكتب جان جينيه أنّ الأرض "أساسُ كينونة الأمّة... هي مادّتُها الجوهريّة."[ii]لكنّ الفلسطينيّين، كما السود في أمريكا، مقتلَعون، لا أرض لهم. وهذا عنى لجينيه أنّ نضالَ الفدائيين الفلسطينيّين و"حركة الفهود السود" كان خيالًا هدف إلى حماية حلم.

غير أنّ الاقتلاع، في واقع الأمر، ليس خيالًا ولا وهمًا، وإنّما هو - كما يصفه غسّان كنفاني - جرحٌ مفتوحٌ لا يُلأم: حالةٌ مستمرّةٌ من الألم، لا تسمح بأنْ تُطبَّعَ. وهذه الحالة من الألم - - من الشوق إلى أرضٍ تشكّل جزءًا من اللاجئ ويشكّل جزءًا منها - - هي الشرطُ الذي وُلدتْ منه الثورةُ الفلسطينيّة. وما زالت المخيّماتُ الفلسطينيّة في فلسطين، كما في خارجها، تلِد هؤلاء الذين لا يستطيعون "الهدوء."

حالةُ عدم الهدوء أو عدم الاستقرار هي التي تَسِمُ المهجَّرَ عن أرضه. إنّها ليست موقفًا إيديولوجيًّا أو مبدئيًّا، بل تعبيرٌ عن رفضِ ما يتطلّبه الهدوءُ أو الاستقرارُ. في "ورقة من غزّة،"[iii]يصف كنفاني تلك الحالةَ فيقول إنّها تترافق مع الشعور بعدم الرضا، وهو شعورٌ يعجز عن التحوّل إلى ثورة، وبكبتِه يتحوّل إلى شرطٍ لحياةٍ ضعيفةٍ وخانعة. ومع أنّ الحياة في مكانٍ كغزّة، باكتظاظها وأزقّتها الضيّقة وهوائها المشبَعِ بالهزيمة والفقر، لا تبدو مرغوبةً، فإنّها تبقى الطريقَ التي تؤدّي إلى فلسطين.

قوّادُ الرأسماليّة اعتقدوا أنّهم، بتصفية وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم (الأونروا)، وهي المؤسّسة التي أوجدوها لتحويل قضيّة اللاجئين من قضيّة أرضٍ إلى قضيّة حاجاتٍ مادّيّةٍ و"أساسيّة،" سيتمكّنون من تصفية المخيّم وأبنائه وبناتِه. كما اعتقدوا أنّهم، باقتلاع الفلّاحين من أراضيهم، سيحوّلونهم إلى عمّالٍ "لا أرضَ لهم، ولا وطن، ولا انتماء" على حدّ مقولة ماركس. لكنّ هؤلاء القوّاد، بالعمى الرأسماليّ الذي يفرضه إلهُ المال عليهم، يفترضون إنسانًا لا يعدو أن يكون سطحًا، مجرّدَ قوّة عملٍ، محضَ سلعةٍ تبيع نفسَها في السوق من أجل المال.

غير أنّ الفلسطينيّ المقتلَع والمهجَّر ليس سطحًا ولا سلعة. جرحُ الاقتلاع والتهجير، كما ذكرنا، تذكيرٌ دائمٌ بألم ذيْنك الاقتلاع والتهجير، وتفعيلٌ مستمرٌّ لحالة عدم الانصهار في عالم المال. إنّ ألمَ الفلسطينيّ، كما فقدان الأرض والتهجير، لم يكن ولن يكون خضوعَه، بل كان دائمًا مصدرَ ثورته. وما لم يتمكّن الفلسطينيّ من أنْ يغادر شعورَه الجسديّ، فإنّه لم يتعلّم تمامًا كيف يعطي الرمزيَّ قيمةً تفوق الحسّيّ والملموس، أعني هنا المال مقابل الحياة والأرض.

ليس صدفةً أنّ الشعار الذي رفعه الفلسطينيُّ ضدّ كلّ صفقات الاقتلاع كان "فلسطين مش للبيع،" ردًّا على من يريده أن يقايض حياته بعمل رخيص، وبحاجات ("أساسيّة" أو غير أساسية) لا تلبث أن تتحوّل إلى سلاسلَ تقيّده كما قيّدت آخرين منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.

 

فلسطين المحتلّة

 


[i]Partha Chatterjee, Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1986), 170.

[ii]Jean Genet,Prisoner of Love,Trans. Barbara Bray (New York: New York Review of Books, 2003), 99.

[iii] غسان كنفاني، "ورقة من غزّة،" في: الأعمال الكاملة، المجلد الثاني، القصص القصيرة (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، ومؤسّسة غسّان كنفاني الثقافيّة، 1987).

اميرة سلمي

أستاذة مساعدة في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت. حصلتْ على شهادة الدكتوارة في الخطابة من جامعة كاليفورنيا ــــ بيركلي، وعلى شهادة الماجستير في النوع الاجتماعيّ والتنمية من جامعة بيرزيت. لها أبحاثٌ في مجال الدراسات الاستعماريّة: الخطاب الاستعماريّ، دراسات ما بعد الاستعمار، الكتابة المناهضة للاستعمار، الكتابة الأدبيّة الثورية في فلسطين وأفريقيا. كما كتبتْ عن الكتابة النسائيّة، والخطابات التنمويّة.