قِصَّةُ ساعة 1894
31-07-2016

 

كيت شوبان

نقلها من الإنجليزية: لينا إبراهيم*

كانت السيّدة مالارد تعاني مشاكلَ في القلب، لذلك حرص مَن حولها على إبلاغها نبأ وفاةِ زوجها بألطفِ طريقةٍ ممكنة.

تولَّت شقيقتُها جوزيفين الأمر بجملٍ مكسّرة، وبتلميحات مبطّنة كشفت الحقيقة عبر إخفاء نصفها. كان ريتشارد - صديق زوجها – حاضرًا أيضا إلى جانبها. كان هو الموجودَ في مكتب الجريدة ساعة وصول خبر كارثةِ القطار، وكان اسمُ برنتلي مالارد يتصدّر قائمة الضحايا. انتظر ورودَ برقيّةٍ ثانيةٍ تؤكّدُ الخبر، ثم أسرع إلى السيّدة مالارد خشيةَ أن يقومَ صديقٌ أقلُّ عطفًا  واهتمامًا بنقلِ النبأ المحزنِ إليها.

لم تتلقّ النبأ مثلما تلقّته نساء أخريات كثيرات، عجزن إلى حدّ الشلل عن تقبّل معناه. بكت على الفور بين ذراعيْ شقيقتها، وهي تشعر بإحساس مفاجئ ومحموم بالهجران. عندما هدأتْ عاصفةُ الحزن، ذهبتْ إلى غرفتها وحيدةً، رافضةً أن يرافقها أحد.

هناك، في غرفتها، مقابلَ النافذة المشرعة، مقعدٌ وثيرٌ مريح، غاصت فيه، وقد أثقلها الإعياءُ الذي سكن جسدها وبدا وكأنّه بلغ روحَها.

كان بإمكانها أن ترى في الساحة الممتدّةِ أمام منزلها رؤوسَ الأشجار التي كانت تتمايل مع حلولِ بشائرِ الربيع. كان الجوُّ يعبق بأنفاس المطرِ الشهيّة. في الشارع، تحتَ المنزل، كان أحدُ الباعة المتجوّلين ينادي على بضائعه. وتناهت إلى سمعِها من بعيدٍ أغنيةٌ يُنشدها أحدُهم، وغرّدتْ سنونواتٌ لا تُحصى من أفاريز الأسطح.

ظهرتْ، هنا وهناك، قطعٌ من السماء الزرقاء من بين الغيوم الَّتي تجمّعتْ وتراكمتْ بعضها فوق بعض في الجهة الغربيّة المواجهة لنافذتها.

جلَستْ وقد ألقتْ برأسها على مسند المقعد، هادئةً بلا حراك، إلّا حين يتصاعد نشيجٌ إلى حلقها فيهزّها، كما يفعلُ طّفلٌ لا ينفكّ ينشج في حُلمه بعدَ أن يكونَ قد أغفى.

كانت شابّةً، ذاتَ وجهٍ هادئ جميل، نمَّت خطوطُه عن كبتٍ بل عن قوة أيضًا. ولكنْ، في هذه اللَّحظة، طفت على وجهِها نظرةٌ بليدة، ثبَّتتها على إحدى قطع السماء الزرقاء المتناثرةِ أمامها. لم تَكن نظرةَ تأمّل بل عكستْ توقيفًا للتفكير الذكيّ.

كان هناك شيءٌ قادمٌ إليها، وكانت تنتظره بخوف. ما هو ذلك الشّيء؟ لم تعرف؛ كان أرهفَ وأكثر تملّصًا من أن يُسمّى، ولكنها شعرتْ به يزحف من السماء، قادمًا إليها من خلال الأصوات والروائح والألوان التي ملأت الهواء.

الآن بدأ صدرها يصعد ويهبط باضطراب. فقد بدأتْ تتبين هويّة ذلك الشيء الذي يقترب منها  لكي يستحوذها، وكانت تحاولُ صدَّه بكلِّ إرادتها، الّتي كانت عاجزةً عجز يديها البيضاوين النحيلتين. عندما تخلّت عن المقاومة، تسلّلتْ من بين شفتيْها المتباعدتين قليلًا همسةٌ صغيرةٌ، كرَّرَتها من بين أنفاسها: "حرّة، حرّة، حرّة!" عندها غادرت عينيها تلك النظرةُ الخاويةُ، ونظرةُ الرُّعب التي تلتها، وصارتا متوقدتين لامعتين. تسارعت نبضاتُها، وغمر جريانُ الدم في عروقها كلَّ جزءٍ من جسدها بالدفء والاسترخاء.

لَم تتوقف للسؤال إنْ كان ما استوقفها فرحة شيطانية أمْ لا. ذلك لأنّ إدراكًا واضحًا وساميًا مكّنّها من نبذ تلك الفكرة لتفاهتها. كانت تعلم أنّها سوف تبكي ثانيةً عندما ترى تيْنك اليدين الطيّبتين الحنونتين اللتين طواهما الموتُ، وذلك الوجهَ الَّذي لم يَنظر إليها يومًا سوى بالحبّ وقد بات جامدًا ورماديًّا وميتًا. ولكنَّها رأت، ما بعد اللحظة المريرة تلك، سنواتٍ طويلةً قادمةً ستكون ملْكًا لها وحدَها؛ وعندها فتحتْ ذراعيْها على وسعهما لاستقبالها.

سوف لن يكون لها مَن تكرّس نفسَها له خلال السنوات القادمة، بل ستعيش لنفسها. ولن تكونَ ثمّة إرادةٌ تلوي إرادتَها بذلك الإصرارِ الأعمى الذي يؤمن به الرجالُ والنساء بأنَّهم يمتَلكون حقَّ فرضِ إرادتهم على شريكهم. وأن يحدث ذلك بحسن نيّةٍ أو سوء نية فذلك لا يخفّف من كونه جريمةً، على ما نحوِ ما بدا لها الأمرُ في تلك اللحظة القصيرة من التجلّي.

ومع ذلك فقد كنت تحبّه... أحيانا؛ غالبًا لم تكن تحبُّه. ما أهمية الأمر؟! فما أهمّيّة الحبّ- ذلك اللُّغزِ العصيِّ على الحلّ- في وجه الإدراك الذي تملّكها فجأةً بأنَّ توكيدَ ذاتها هو أقوى نوازع وجودها! ولهذا استمرَّت تهمس: "حرّة! حرّةٌ جسدًا وروحًا!"

كانت جوزفين راكعةً أمام الباب الموصد، وشفتاها على ثُقبِ المفتاح تَرجو شقيقتها أن تسمحَ لها بالدخول: "لويز، افتحي الباب! أرجوكِ، افتحي الباب. ستسبّبين المرضَ لنفسك. ما الذي تفعلينَهُ لويز؟ بحقّ السماء، افتحي الباب."

"ارحلي. أنا لا أسبّب المرضَ لنفسي." وبالفعل: كانت لويز تتجرّع إكسيرَ الحياة من خلال النافذة المشرَّعة. كانت مخيِّلتُها تركضُ بجموحٍ نحو الأيّام القادمة: أيّامِ الربيع، وأيام الصيف، و كل أشكال الأيّام التي ستكون لها وحدها. ونطقتْ بصلاة سريعةٍ كي يطولَ عمرُها... مع أنَّها بالأمسِ القريبِ فقط راودتها فكرةٌ جعلتها ترتعد وهي أنّ حياتها قد تطول!

تحت إلحاحِ شقيقتها نَهضتْ وفَتحت الباب، وقد شعَّت عيناها بانتصارٍ محمومٍ، ومشت عن غيرِ عمدٍ كأنّها إلهةُ النَّصر. أحاطت خصرَ شقيقتها بذراعها ونَزَلتا الدَّرجَ معًا. في أسفل الدرج كان ريتشارد يقفُ بانتظارهما.

في تلك اللَّحظة كانَ أحدُهم يفتحُ مزلاج الباب الأماميّ. يدخل برنتلي ملارد، وقد بدت عليه بعضُ آثار السفر، وهو يحمل به حقيبتَهُ ومظلَّته. لقد كانَ بعيدًا عن مكان الحادث، بل إنّه لم يسمع بوقوعه. وقف مذهولًا من الصَّرخة الثاقبة الَّتي أطلقتْها جوزفين، ومن اندفاعِ ريتشارد السريع ليَحجبَه عن نظرِ زوجته.

حين حضر الأطبّاءُ قالوا إنّها ماتت من مرضٍ في القلب... من الفرحة الَّتي تَقتُل.

 

* إهداء المترجمة: في يوم واحد أسرَّ لي شخصان عزيزان بالتالي: "يجب أن تكون فترةُ الزواج محدودةً. يجب أن يكون هناك إطلاقُ سراحٍ مبكّرٌ لحسن السير و السلوك." أهدي هذه الترجمة لكلّ مَن يكرّر هذا القولَ لنفسه، ويمنعه عدمُ الرغبة في إيذاء الشريك (وكذلك العادات والتقاليد) من البوح به. (ل. إ)

لينا إبراهيم
من سوريا، حائزة شهادة الدكتوراة في الأدب الإنكليزيّ من جواهر آل نهرو / نيودلهي. تعمل حاليًّا رئيسة قسم الأدب الإنكليزيّ في كليّة البيان / مسقط في سلطنة عُمان.