كيف تبدأ الحروبُ الأهلية؟
13-07-2020

 

قبل حوالى خمسةٍ وعشرين عامًا، بدأت الولاياتُ المتحدة الدخولَ في حربها الأهليّة الثانية، من دون سلاحٍ ومعارك، ولكنْ تمامًا كما تبدأ كلُّ هذه الحروب: بنشر سيكولوجيا في المجتمع تقسِّمه بشكلٍ تضمحلُّ معه مشاعرُ التضامن والهدفِ الموحَّد، وتُحِلُّ فيه العدوَّ الخارجيَّ (إنْ كان موجودًا من قبلُ) محلَّ العدوّ الداخليّ.

في سيكولوجيا الحرب، التي تسبق الحربَ دائمًا، تتضعضع الثقافةُ التحاوريّةُ في المجتمع تدريجيًّا. وسرعان ما يتحوّل كلُّ نقاشٍ إلى معاركَ كلاميّة، ويتحوّل هدفُ كلّ مناظَرةٍ من إقناع الآخر إلى الإجهاز عليه. تصبح القناعاتُ ثابتةً، لا تزحزحُها الحقائقُ التي تعترض سبيلَها. يتخندق كلُّ طرفٍ في مكانه، ويهتمُّ بالدفاع عن المنطقة التي احتلّها في المجتمع أضعافَ ما يهتمّ بالتواصل مع مَن هو خارجها. ثم يتحوّل الاختلافُ في الرأي إلى خيانة، ويخاف الفردُ في كلّ خندقٍ من الجهر برأيٍ أكثرَ تنوّعًا من المقبول، وتَضِيقُ حدودُ الرأي المقبول ضمن كلّ طرف. تزداد وتيرةُ المزايدة في الشعارات، ولا تجد الآراءُ الواقعيّةُ طريقًا أمامها إلّا باتجاه الخروج من الحياة السياسيّة.

كلُّ هذه التغيّرات الثقافيّة تُغيِّر، تدريجيًّا، طبيعةَ الحياة السياسيّة. ينتبه مَن له طموحٌ سياسيٌّ إلى أهمّيّة الديماغوجيا أكثرَ ممّا كان ينتبه إليها قبل أن تنتشرَ سيكولوجيا الحرب الأهليّة في المجتمع. تضمحلّ أهمّيّةُ الفضائح، التي ربّما كانت كلُّ الأطراف في الماضي تُجْمع على أنّها تُنْهي الحياةَ السياسيّةَ لمن يَرتكبُها، بغضّ النظر عن هويّته. الفضيحة التي يرتكبها مَن هو "معي" لا أهمّيّةَ لها، بل أتجاهلُها، أو أنفيها، وإنْ رأيتُها أمامي في وضح النهار، وأتَّجهُ إلى البحث المستفيض عن فضائح الطرف "المعادي،" بل إلى اختلاقها كيفما أمكن إنْ لم أجدْها. فالحقيقة ليست مهمّةً في زمن سيكولوجيا الحرب الأهليّة لأنّها (أي الحقيقة) تتحوّل من كونها ما هو موجودٌ ومُثْبت، إلى مجرّد أداةٍ أخرى في خطاب الحرب.

***

بدأتْ هذه الثقافةُ في طبع الحياة السياسيّة الأمريكيّة تدريجيًّا في التسعينيّات من القرن المنصرم. قبل الانتفاضة العارمة التي شهدناها مؤخّرًا ضدّ جهاز الشرطة في مختلف المدن الأمريكيّة، استحوذتْ سيكولوجيا الحرب الأهليّة على كامل الحياة السياسيّة تقريبًا في عهد دونالد ترامب، الذي لم يكن صعودُه إلى قمّة الحلبة السياسيّة سببَ تلك الحرب وإنّما أحدَ أعراضها. الحرب تصل في ذروتها إلى طريقٍ يبدو للكثيرين مسدودًا، مع أنّ كلَّ طرفٍ يحافظ على ظهوره بقدرته على الانتصار على الآخر. إلى أن تدخلَ إلى الحلبة ديناميّةٌ ذاتُ طابع جديد: فتتحوّلُ الحربُ الأهليّةُ إلى انتفاضة، أو إلى ظاهرةٍ تشْبه الانتفاضةَ، تُمثّل يأسَ الكثيرين (ولكنْ ليس بالضرورة كلّ المجتمع) من شعارات المتحاربين.

 

استحوذتْ سيكولوجيا الحرب الأهليّة على كامل الحياة السياسيّة تقريبًا في عهد ترامب

 

هذه الحربُ أَعلنها، سنة 1994، السياسيُّ الجمهوريُّ نيوت غنغريتش، في الحملة الانتخابيّة التي أوصلتْه آنذاك إلى رئاسة مجلس النوّاب الأمريكيّ.[1] قبل ذلك، كان هدفُ معظم الحملات الانتخابيّة إقناعَ مَن هم في "الوسط،" أو جزءٍ من مؤيّدي الطرف الآخر، بالانضمام إليها. في تلك الثقافة "الديمقراطيّة التقليديّة" السابقة، كان هناك دورٌ في الحملات الانتخابيّة للتحاور والمنطق ومحاولةِ الإقناع. ولكنّ غنغريتش اكتشف آنذاك أنّ تلك الثقافة أدّت إلى تحوّل حزبه، الذي كان ممسكًا بزمام الأمور في فترةٍ سابقة، إلى حزب أقلّيّةٍ قد تكون دائمةً. العلاج الذي اقترحه يمكن تلخيصُه كالآتي: 

بدلًا من أن نحاول إقناعَ المحايدين، أو بعضِ مَن يختلفون عنّا في الرأي، بالانضمام إلينا، فلنركّزْ كلَّ جهودِنا على تفعيل الحماس المطلق لدى جمهورنا نحن، وعلى حشده بالكامل في المعركة.

خلال ربع قرنٍ من التجارب، أثمرتْ هذه الاستراتيجيّةُ نجاحاتٍ لم تكن ممكنةً من دونها. فعلى الرغم من أنّها مُنيتْ بإخفاقاتٍ كذلك، فإنّها بشكلٍ عامّ حَوّلت الأقلّيّةَ الجمهوريّةَ إلى أغلبيّة. أمّا الحزب الديمقراطيّ، فواصل استراتيجيّتَه الانتخابيةَ التقليديّة، أي التركيزَ على الوسط "المعتدل،" ومن ثمّ قدَّم مرشّحين فاتري المظهر: قد يَقْبلهم المعتدلون، ولكنْ لا يتحمّس لهم جزءٌ مهمٌّ من جمهور الحزب - - أيْ هم، بكلامٍ آخر، مرشَّحون لا يملكون القدرةَ على حشدِ كاملِ جمهورهم.

هذا الفرق بين أسلوبَي الحشد ظهر على نحوٍ أوضح في حملتيْن انتخابيّتيْن رئاسيّتيْن، في العاميْن 2000 و2016. ففي المناسبتيْن، كانت كلُّ الظروف الموضوعيّة ترجِّح فوزَ مرشِّح الحزب الحاكم، أي الديمقراطيّ: فالمؤشِّرات الاقتصاديّة كانت تتوافق في الحالتيْن مع حظوظ نجاح مَن يملك زمامَ القيادة؛ ولم يكن لدى غالبيّة الناخبين سببٌ واضحٌ للتغيير؛ ولم تكن البلادُ في مواجهة حربٍ تستنزفها؛ ولم يَبذلْ مرشَّحُ الحزب المعارض جهدًا في مخاطبة الوسط المعتدل، بل بدا مفتقرًا إلى أيّ مؤهِّلاتٍ تُذْكر، باستثناء خطابٍ مغرِقٍ في اليمينيّة المتطرّفة والديماغوجيّة البحت. ومع هذا كلّه، فقد فاز في المعركتيْن كلتيْهما مَن كانت العواملُ المألوفةُ للعبة السياسيّة تقول باستحالة فوزه، وأخفق مَن كانت كلُّ الظروف تؤشِّر إلى حتميّة فوزه. العاملُ الفصلُ في الحالتيْن كان حماسَ الطرف الذي سيفوز، وقدرتَه على حشد كامل جمهوره، مع أنّه الأقلّيّة؛ مقابلَ الطرف الآخر الذي سيَخْسر بسبب فتوره وضبابيّته وضعفِ حماسه ومشاركته، على الرغم من كونه الأغلبيّةَ في المجتمع.

***

حين تبلغ سيكولوجيا الحرب الأهليّة ذروتَها، فإنّها تنتشر في أجزاء المجتمع كافّةً؛ ذلك لأنّ نجاحَ مَن يمارسونها يؤدّي إلى استنفار الأطراف جميعِها، ويغزو كذلك الفئاتِ المثقفةَ التي يُفترض أنها آخرُ حصنٍ للعقلانيّة في المجتمع.[2] والسؤال الآن: إلى أين تؤدّي سيكولوجيا الحرب الأهليّة عندما تنتشر في المجتمع وتستنفر كلَّ أطرافه هلى هذا النحو؟

في البلاد ذاتِ التجربة الديمقراطيّة، أحدُ "الحلول" هو الدخولُ في حربٍ فعليّة، وإنهاءُ التجربة الديمقراطيّة بكاملها، كما حصل في إسبانيا (1936-1939). "حلٌّ" آخر هو الدخولُ في نفقٍ سياسيّ جامد، طويلٍ، مظلمٍ، من دون معنًى، كما في حالة الانقسام الفلسطينيّ بعد العام 2007. وقد تنتهي الحربُ الأهليّةُ أيضًا عندما يفقد كلُّ طرفٍ الأملَ في الإجهاز على الآخر، كما في الحروب اللبنانيّة أو اليوغوسلافيّة أو اليمنيّة أو الليبيّة - - وكلُّها، كما نعلم، حروبٌ بين أطرافٍ عالميّة، وليست فقط حروبًا محلّيّةً، ولكنّها لم تكن ممكنةً من دون سيكولوجيا حربٍ أهليّة، أنتجها واقعٌ محلّيّ. وقد "تتجمّد" الحربُ أيضًا بانتفاضةٍ ضدّ كلِّ المتحاربين، أو (على الأقلّ) بانتفاضةٍ تتجاهل كلَّ حسابات النخب المتحاربة، كما نرى في انتفاضتَي العراق ولبنان سنة 2019، وفي الولايات المتحدة الآن. ونقول " تتجمّد" وليس بالضرورة "تنتهي"؛ ذلك لأنّ هذه الانتفاضات تفاجئ المتحاربين، وتَفرض عليهم إعادةَ النظر في استراتيجيّاتهم التي أدّت إلى قِصَر النظر وعدمِ توقّعِ الانتفاضة قبل انفجارها.

تختلف الديناميّاتُ التي تؤدّي إلى مثل هذه الانتفاضات من حالةٍ إلى أخرى، ولكنّها تشترك في عاملٍ واحد: وهو بروزُ قناعةٍ، لدى جزءٍ كبيرٍ من المجتمع، بأنّ انتصارَ طرفٍ على آخر لن يَحلَّ المعضلاتِ المزمنةَ في المجتمع، وإنّما سيؤدّي إلى استبدال نُخبةٍ بأخرى لا غير. في الحالة الأمريكيّة التي نراها الآن، تتمحور الانتفاضةُ المفاجئة والعارمة ضدّ جهاز الشرطة حول مسألة العنصريّة المتأصّلة والبنيويّة في المجتمع، وهي عنصريّةٌ لم تكن ممارساتُ الشرطة إلّا تعبيرًا فجًّا عنها:

- فثمّة فوارقُ هائلةٌ في وتيرة تعرُّض المجموعتيْن، السود والبيض، لعسف جهاز الشرطة والسجن.

- تُضاف إلى ذلك فوارقُ في تعرُّض كلٍّ منهما للكوارث الصحّيّة، وأبرزُها حديثًا وباءُ كورونا.

- وثمّة فوارقُ اقتصاديّة مزمنة بين السود والبيض. أحدثُ الإحصاءات تشير إلى أنّ متوسِّط الدخل لدى السود لا يتعدّى، إلى اليوم، ثلثيْ متوسِّط الدخل لدى البيض[3]. ولكنّ المؤشِّرَ الأكثرَ دلالةً هو حجمُ الثروة لدى كلّ أسْرة، بما يَشمل جميعَ ممتلكاتها؛ فهنا نرى أنّ متوسِّط ثروةِ الأسْرة السوداء لا يتعدّى 10% من متوسّط ثروة الأسْرة البيضاء، وهو ما يؤشِّر إلى فرقٍ شاسعٍ في تعرّض كلٍّ منهما للمخاطر الاقتصاديّة والأزمنة الشِّداد.

 

متوسِّط الدخل لدى السود لا يتعدّى ثلثيْ متوسِّط الدخل لدى البِيض

 

- ثمّة أيضًا فوارقُ كبيرةٌ في تعرّض المجموعتيْن لأحكام القانون. وهذه الفوارق ناجمةٌ عن التخطيط الحَضَريّ العنصريّ للمدن الأمريكيّة، وهو تخطيطٌ "يُعنصر" الفقرَ ويكدِّسه في بؤرٍ مغلقة. وهي ناجمةٌ أيضًا عن أساليب التجريم، وعن النظرة التقليديّة إلى تلك البؤر في وصفها أمكنةً "جديرةً" بالمراقبة والشُّبهة، لا بالمواطَنةِ والحقوق. وهذا ما نراه في إحصاءات السجون، التي تشير إلى أنّ البيض - الذين ما زالوا الأكثريّةَ في المجتمع - يشكّلون الأقلّيّةَ من بين نزلاء السجون، المكتظّةِ بالأقلّيّات، في بلدٍ هو الأعلى عالميًّا في نسبة السجناء إلى عدد سكّانه.[4]

***

كلُّ هذه الحقائق كانت معروفةً للكثيرين من قبل، ولذلك فهي في حدّ ذاتها لا تفسِّر حجمَ الانفجار الذي نراه الآن ضدّ العنصريّة. كما لا يفسِّره التسجيلُ المصوَّرُ الموثَّقُ للوحشيّة التي قُتل بها جورج فلويْد، بلا سببٍ، من طرف الشرطة. فالحقّ أنّنا، خلال السنوات الماضية، رأينا العديدَ من هذه التسجيلات، وقد كانت ممكنةً بسبب وفرة أجهزة التواصل والتسجيل في أيدي المواطنين والمارّة العاديّين؛ ومع ذلك فإنّنا لم نشْهدْ مثلَ هذه الانتفاضة، وإنْ شهِدْنا احتجاجاتٍ لم تستمرّ طويلًا ولم تكن في مثل هذا الزخم.

في رأينا أنّ تزامُنَ مقتل فلويْد مع ظرفيْن قاتميْن هو ما صعّد الحربَ الأهليّةَ الأمريكيّة إلى ذروتها:

- أوّلُهما هو الدخولُ في موسم انتخاباتٍ رئاسيّةٍ يتميّز بالكراهية الشديدة، وبشعور كلِّ طرف مرشَّحٍ فيها أنّ انتصارَ الطرف الآخر يشكّل تهديدًا وجوديًّا له.

- وثانيهما هو دخولُ وباء كورونا إلى الحلبة. صحيحٌ أنّ هذا الوباءَ لم يكن مبرمَجًا ليكون سلاحًا من أسلحة الحرب، وإنّما دخل الحياةَ العامّةَ "ضيْفًا" فرض نفسَه على الجميع؛ غير أنّ كلَّ عامل يدخل الحلبةَ في زمن الحرب الأهلية يصبح تلقائيًّا من أدواتها، وإنْ لم يكن مدعوًّا إليها أو على علاقةٍ بها.

نرى ذلك في الفرق في التعامل مع الوباء بين البلدان التي تفشّت فيها سيكولوجيا الحرب الأهليّة، وبلدانٍ أخرى كانت السيكولوجيا الحاكمةُ للحياة السياسيّة ذاتَ طابعٍ آخر. نحن نعرف أنّ الفايروس يؤمن بـ"المساوة" بين البشر، ولا يهمُّه أكان الجسمُ الذي يغزوه فقيرًا أمْ غنيًّا، يمينيًّا أمْ يساريًّا، أسمرَ اللون أمْ أبيضَ، مسيحيًّا أمْ بوذيًّا. ما يهمّ الفايروسَ أن يرى أمامه كيانًا بيولوجيًّا قابلًا للغزو. ولهذا فإنّ التهديدَ الشامل الذي يمثّله هذا الفايروس يدعونا، من ناحيةٍ نظريّة، إلى مواجهة موحَّدة، يتّفق فيها معظمُ المجتمع، أوّلًا على خطورة الوضع، وثانيًا على أسلوب مواجهته. ومع أنّ مثلَ هذا الاتفاق، شأن كلّ الاتفاقات، قد يضمحلّ، مع مدى الأزمة، فإنّ بروزَه ولو في الحدّ الأدنى يمثِّل شعورًا موحّدًا بشمولية الخطر. غير أنّ هيمنةَ الحرب الأهليّة على سيكولوجيا المجتمع يمكن قياسُها من خلال مدى غياب وحدة الموقف عندما يبرز تهديدٌ شامل. فهنا نلاحظ كيف اختلف أسلوبُ الإدارة الأمريكيّة في التعامل مع الوباء عن الاستراتيجيّة التي اتّبعتْها معظمُ البلدان الأخرى، بشكلٍ أضاف إلى وتيرة الحرب الأهليّة رسالةً إلى نصف الشعب الأميركيّ: "أنّنا لا نهتمّ بحياتكم!" فلقد تركّزت الكارثةُ في الفترة الأولى من دخول الوباء في المدن الأميركيّة الكبرى، وضمن الأقلّيّات الأفقر. هذا النصف، الذي واجه الوباءَ منفردًا في تلك الفترة، تكَوّن من ديموغرافيّات المعسكر المعارض للإدارة الأميركيّة، وهي ديموغرافيّاتٌ شعرتْ - بحقّ - أنّها تواجه الكارثةَ من دون اهتمامٍ يُذكر من قِبل القيادة العليا التي أوضحتْ في زمن الحرب الأهليّة أنّها لا تهتمّ بسلامة مَن يعارضها.

ساهم الفايروس، إذًا، في إدخال حالةٍ ثوريّةٍ إلى واقع حربٍ أهليّةٍ أضحت مزمنةً. هذه الحالة الثوريّة لم تُنهِ الحربَ الأهليّة، غير أنّ الفايروس واصل مسارَه من دون أن يأبهَ بالفوارق الاجتماعيّة، وراح لاحقًا يغزو ديمغرافيّاتِ الفئةِ الحاكمةِ كذلك - - في الضواحي والمناطقِ النائية، وفي تجمّعاتِها الانتخابيّة، وفي كلِّ لقاءٍ لا يحترم "رأيَ" الفايروس بعدم وجود فرق بين البشر. وهنا نرى كيف أنّ الأطراف المتحاربة تُعامل الظواهرَ الخارجةَ عن منطق الحرب الأهليّة، مثلَ الأوبئة، كأنّها سلاحٌ إضافيٌّ في هذه الحرب، إلى أن تُفرض هذه الظواهر على الحلبة منطقًا إضافيًّا يتعالى على منطق الحرب.

بيتسبرغ

 


[1] ثمّة دراسات تقول إنّ المجتمع الأمريكيّ نفسَه كان في طريقه إلى الانقسام الحادّ قبل غنغريتش بسنوات، وإنّ هذا الأخير لم يكن إلّا تعبيرًا عن ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ موجودةٍ في الواقع، ولم يكن سببَها.

[2] نرى ذلك، وربّما بوتيرةٍ أكبر، في الحالات العربيّة أيضًا، مثل مصر سنة 2013. حينها، انتشرتْ ثقافةُ الحرب الأهليّة في كافّة أطراف المجتمع، بما فيها فئةٌ واسعةٌ من المثقّفين الذين لم يعد لهم دورٌ يتعدّى ترديدَ شعارات الحرب الأهليّة، بدلًا من الارتفاع فوقها والقيامِ بدورٍ إرشاديٍّ في مجتمعٍ متحارب. هؤلاء دخلوا الحربَ الأهليّة بكلّ عنفوان، وأسهموا في الإجهاز على محاولته الديمقراطيّة الأولى.

[3]U.S. Census Bureau, Current Population Survey, 1968 to 2018 Annual Social and Economic Supplements, 2017

[4] Wendy Sawyer and Peter Wagner, Mass Incarceration: The Whole Pie, Prison Policy Initiative, 2020

محمد باميه

كاتب فلسطينيّ. حاليًّا، رئيس مجلس أمناء "المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة،" ورئيس دائرة علم الاجتماع في جامعة بيتسبرغ في الولايات المتحدة. تشمل دراساتُه المنشورة سوسيولوجيا الإسلام، والفلسفة اللاسلطويّة، والثورات والحركات الاجتماعيّة، والتاريخ السياسيّ والثقافيّ للعولمة، والمجتمع المدنيّ.