لكزة
24-04-2018

 

كنت شبه  نائم. استفقتُ من لكزة كرةٍ صغيرة أصابت فخذي وأنا مستلقٍ على الشاطئ. عندما فتحتُ عينيّ رأيتُ طفلًا صغيرًا عاريًا يطلب أن أرسل له الكرة. كانت أشعّة الشمس قد نالت من جسدي وأشعرتني بكسل شديد؛ كما ساهم صوتُ الموج في استرخاء عضلاتي. حاولتُ أن أرسل له الكرة، إلّا أنّي أخطأتُ ورميتها في اتّجاه مغاير. استهزأ بي الطفل ذو السنوات الثلاث. يولد المرءُ وفي داخله كلُّ أنواع المشاعر، إلّا أننا نعتقد أنّ البراءة هي الوحيدة التي تولد فينا.

نهضتُ وقد مُلئ  جسدي بحبيْبات الرمل. وعلى الرّغم من أنّ الحرّ شديد  فإنني أحسستُ ببردٍ يسكن صدري. تثاقلتْ خطواتي، وأحسستُ بدوارٍ ورغبةٍ في الجلوس. ظهر كرسي خشبيّ يبعد عني خطوتين أو ثلاثًا. ما إنْ وصلتُ إليه وجلستُ حتى أغمضتُ عينيّ. فتحتهما بعد ثانيتين وقد زاد إحساسي بالبرد والحرّ. وجدتُ نفسي في قاعة محكمة. بدأ صوت الأمواج يخفت تدريجيًّا ويتحوّل إلى ضوضاء. دخل القاضي وزملاؤه الأربعة. وقف كل الحاضرين في الجلسة احترامًا للمحكمة. لا أفهم كيف يحترم البشرُ الجمادَ أكثر من احترامهم للإنسان. لم أقوَ على الوقوف جرّاء الدوران والغثيان . لكزني كهلٌ في العقد الرابع من العمر لينبّهني إلى وجوب التوقّف. عندما نظرتُ إليه رأيتُ وجهي الشاحب  يتشكّل في ملامح وجهه. وضع يده على كتفي ليسندني في جلوسي. كلّما كبر المرء تخلّص تدريجيًّا من الاستهزاء. من حسن حظّي أنّ القضاة والشرطيّ لم يتنبّهوا إليّ. جلس القضاة، وتبعهم  المحامون والمتّهمون وكلُّ الحاضرين. لم أكن أعتقد أنّ عدد القضايا  المتداوَلة في قاعة المحكمة بهذا الكمّ الهائل. كان رقم قضيّتي 50000، إلّا أنّ أطفالي لم يكونوا ثمانية. انتظرتُ ثلاث ساعات أو  أكثر. حين سمعتُ رقم 50983  عرفت أنني المقصود. وقفتُ بصعوبة شديدة، وتوجّهتُ نحو منبر المتّهمين. تسلّم الشرطيّ بطاقتي الشخصيّة وناولها القاضية. قالت القاضية كلماتٍ غير مفهومة. أجابها المحامي الذي وكّلتُه الدّفاعَ عنّي، على الرغم  من أنّني لم أكن قد أخطأت. تحدّثت النيابة، ثمّ محامٍ آخر عرفتُ من كلماته أنه يتّهمني باللّامبالاة. عندما توجّهت القاضية بحديثها إليّ كنتُ أتصبّب عرقًا والغثيانُ قد ازداد. اعترفتُ لها بلامبالاتي تجاه كلّ ما حدث جرّاء الغثيان والدوار . كدت أن أقول إنّ هذه الحياة، التي أنتقلُ فيها من الشاطئ إلى قاعة المحكمة في ثوان، ما هي إلّا عبث. قاطع محاميَّ كلامي وذكر أرقامًا لقوانين أجهلها، وطلب تأخير القضيّة إلى جلسة أخرى. وافقت القاضية وعيّنت موعدًا آخر بعد شهرين. من الجّيد أن يدفع المرء مالًا مقابل جهله، أو ربّما مقابل حريته.

تناولتُ بطاقتي ومشيتُ خطواتٍ بطيئةً نحو باب الخروج وقد اشتاق جسدي إلى الهواء الخارجيّ. ما إنْ تجاوزتُ بابَ قاعة الجلسة رقم خمسة حتى دخلتُ الحانة. لكزني النادل ليجلب انتباهي. طلبتُ قارورتين باردتيْن من الجعة . كان الحرّ داخلي يزداد  على الرّغم من البرد الخارجيّ. فكّرتُ في أن أتوجّه إلى منزلي لأنام، إلّا أنّ النادل وضع الزجاجتين وكأسًا جميلةً أمامي. عندما تناولتُ الكأس لاحظتُ عروقًا كثيرة على يدي، وجلدًا  مجعّدًا وكأنني أصبحت شيخًا في السبعين. . شربت الزجاجتين في أقلّ من خمس دقائق؛ وكنتُ قد اعتدتُ ذلك مذ كنتُ في الثلاثين. طلبتُ عددا كبيرًا من زجاجات البيرة. أعتقد أنّني شربت 50983 زجاجة. أعتقد أنّني أخطأتُ في عدِّ ما شربت، لكن المهمّ أني أصبحت أعرف الآن سبب الغثيان والدوار والتعرّق الشديد.

دفعتُ  مستحقاتي إلى النادل وأضفتُ مبلغًا ما. من الجيّد أن يدفع المرء مالًا مقابل أن يفهم شيئًا. نهضتُ فناولني النادلُ عكّازي. كنت أعرفه بتفاصيله كلّها: عصًا خشبيّة كتلك التي توكّأ عليها موسى وهشّ بها غنمَه. إلّا أنّ عصاي أطرُقُ  بها أفكاري كمطرقة. مشيتُ ببطءٍ شديد، ووصلت الباب. ما إنْ وضعتُ قدمي اليمنى خارجًا حتى سقطتُ وأُغمي عليّ. فتحتُ عينيّ بعد ثوانٍ، أو أني اعتقدت ذلك. وجدتُ نفسي معلّقًا في الهواء، في سماء سوداء، تزيّنها نجومٌ جميلة. حاولتُ أن أنظر إلى جسدي، إلّا أني لم أجد جسدًا. كنتُ لاشيء: مجرّدَ أفكارٍ تراود ذهني. فقدت يديّ وساقيّ وبطني وظهري ورأسي وعينيّ وفمي وأذنيّ. فقدتُ عقلي أيضًا. كنت معلّقًا من دون أيّ شيء. أصبحتُ لاشيء.

قبل أن أدخل في ذلك الفراغ الأسود المطلق، طار راهبٌ بجانبي وحاول أن يلكزني قبل أن يتحدّث إليّ.  لكنْ، لأنني فقدت جسدي وأصبحت لاشيء، فإنني لم أشعر بأيّة لكزة.

انتهى كذلك شعوري بالبرد والحرّ.

فقدتُ كلّ أحاسيسي.

قبل أن يغادرني الراهب، ليلكز شيئًا آخر، حاولتُ أن أرسل  ابتسامة إليه، إلّا أنّني  أخفقت...
 

تونس

صابر المنتصر

كاتب وناشط تونسيّ.