لماذا لا يزال النضالُ من أجل فلسطين أمرًا مهمًّا، ولماذا ندعم مقاطعة إسرائيل: رؤيةٌ من كندا
04-05-2016

على الرغم من أنّني مقيمةٌ هذا العام في بيروت، فإنّني أكتبُ عن النضال من أجل فلسطين من وجهة نظر شخصٍ من كندا، وتحديدًا من مونتريال. لماذا ندعم من كندا"حركةَ مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (BDS)، على الرغم من إدانة حكومتنا الفدراليّة لهذه المقاطعة؟ إذا بدأنا بالإدانة الأخيرة التي عبّرتْ عنها الحكومةُ الليبراليّةُ بقيادة جاستين ترودو، المنتخَبِ حديثًا، فيمكننا أن نبدأ بإحدى أهمّ النقاط أو الحجج التي أودّ التطرّقَ إليها في هذا المقال، وهي أنّ حملات المقاطعة يمكن أن تكون قويّةً وفاعلةً.

 

إنّ الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل أكاديميًّا وثقافيًّا هي مسألةٌ رمزيّة. فحملة المقاطعة هذه تتحدّى، على نحوٍ رمزيّ، التطبيعَ، وتشكّل موقفًا ضدّ إسرائيل ككيانٍ كولونياليّ غيرِ شرعيّ يحتلّ أرضَ فلسطين التاريخيّة. ومن ثمّ فإنّ الحملة تسلّط الضوءَ على هذا الظلم التاريخيّ وعلى سرقة الأرض، وتخْلص إلى أنّ الاحتلالَ والاستيطانَ ومصادرةَ أراضي الفلسطينيين والعرب هي عمليّاتٌ غيرُ شرعيّة متواصلة إلى يومنا هذا.

غير أنّ المقاطعة تتجاوز المسألةَ الرمزيّة. فهي أيضًا أداةٌ قويّة ونافذة بَثّتْ من الخوف في الدوائر الغربيّة، بما فيها الدوائرُ الرسمية، ما يكفي لدفعِها إلى البدءِ في نقاش هذه الحركة ذات الجذور الشعبية، وإلى سجالها وإدانتها. وإنّ سعيَ هذه الحكومات إلى سنّ قوانينَ ضدّ هذه الحركة يُظهر، في حدّ ذاته، تأثيرَها المتنامي وقوّةَ رسالتها المبدئيّة. لذلك، فإنّ على مَن يعيشون ويعملون في مراكز القرار العالميّ، وعلى مَن يهتمّون بشؤون الناس والبشريّة وبجعل العالمِ مكانًا أكثرَ عدلًا، واجبَ الوقوف إلى جانب البشر في البلدان الأخرى المضطهَدة. فكندا، كما الولاياتُ المتحدة، متورّطةٌ في دعم الصهيونيّة واستعمارِ فلسطين، وإدامتِهما.

 

الدول الاستعماريّة الاستيطانيّة ومسألةُ التضامن

إنّ كندا، كما إسرائيل، هي كيانٌ استيطانيّ، طَرَدَ السكّانَ الأصليين لبناء"دولة عصريّة." إنّ تاريخَنا الكولونياليّ ذاتَه ـــ وهو ليس مسألةً من الماضي بل عمليّةٌ متواصلةٌ أيضًا ـــ يتطلّب منّا أن ندعم نضالَ زملائنا ورفاقنا وإخوتنا وأخواتنا في فلسطين. وهذا ليس منفصلًا، ويجب ألّا يكون منفصلًا، عن نضالنا من أجل قضايانا ونضالاتنا المحليّة في "تورتل آيلاند" (جزيرةِ السلاحف)، وهو الاسمُ الذي تطلقه الشعوبُ الأصليّةُ على القارّة التي تسمّى اليوم "أميركا الشماليّة."

إنّ النضالات التي يقوم بها السكّانُ الأصليّون في جزيرة السلاحف متواصلةٌ ولم تنتهِ. فهم لم يختفوا، وكثيرون ـــ أفرادًا وجماعاتٍ ومنجمعات ـــ ما يزالون يقاومون المحاولاتِ المتواصلة لاستعمار المزيد من أراضيهم. إنّ تاريخ العديد من الشعوب الأصليّة تاريخٌ غنيّ، ولكنّه في الكثير من الأحيان غيرُ معروف. وقد حاول عددٌ من الناس تصويرَ هذه الشعوب بشكلٍ رومنطيقيّ أو خياليّ، أو حاولوا صرْفَ النظرِ عنها بالزعم أنّها اختفت؛ لكنّ الوضع ليس كذلك، وقضيّتهم العادلة ما تزال حيّةً بعد مضيّ أكثر من 500 عام.

تشكّل قضيّةُ الساكنات الأصليّات المقتولات والمفقودات إحدى أهمّ القضايا التي تواجه كندا اليوم

(Missing and MurderedIndigenous Women)، وهي جزءٌ من التجاهل والتعدّي المتواصليْن على حياة السكّان الأصليين. في كندا دمجٌ بين المحو  الرمزيّ وما سُمّي مؤخّرًا "الإبادة الثقافيّة،" وترافق ذلك مع تصفية العائلات والتقاليد عبر أنظمةٍ مثلِ المدارس الداخليّة، وتكلّل كلُّه بمحو الشعب فعليًّا عبر القتل والإبادة.

وفيما تواصل الحكوماتُ، وغيرُها من مراكز القرار السياسيّ ورأس المال كالشركات الكبرى، عمليّاتِ إزالة السكّان الأصليين والثقافات الأصليّة، فإنّ علينا أن ندركَ ما  يمكن أن نفعله لمقاومة ذلك ومواجهته. إنّ مِن واجب القرّاء والكتّاب والمدرِّسين، والمهتمّين بعالم الفكر والأفكار، ومن واجب الملتزمين بالثقافة والفنّ بشكلٍ خاصّ، أن يتصدّوْا لمحاولات هذه الدول تطويعَ الثقافة والفنّ وترويجَهما من أجل شرعنة هذه السياسات وصرفِ الأذهان عن ممارساتها القمعيّة الفعليّة.

هنا نحن إزاء مجالٍ آخرَ تتشارك فيه كندا وإسرائيل في بناء "سمعةٍ دوليّةٍ" تدّعي دعمَ بعض القضايا التقدميّة، فيما هما تقومان في الوقت نفسه بقمع السكّان الاصليين وانتزاعِ أملاكهم. وقد كانت هذه استراتيجيّةَ الدولتين معًا لكسب الشرعيّة، وتَرافق ذلك مع اعتمادهما سياساتٍ وحملاتٍ لتصوير نفسيْهما بصورةٍ مشرقة، في الداخل أو على الساحة الدوليّة، بما يَخدم أهدافَهما في حرف الأنظار عن الوسائل التي تعتمدانها لانتزاع ملكيّة السكّان الأصليين  بل حرمانِهم أيضًا أدنى مقوّماتِ الحياة الأساسيّة: كالمياه غيرِ الملوّثة، وحريّةِ التحرّك، وحقِّ العيش على أراضيهم.

من المعتاد أن نسمع كندا وإسرائيل تتبجّحان بإنجازاتهما كدولتين تقدّميتين وليبراليتين. بل ثمّة أناسٌ ينتقدون بعضَ سياسات إسرائيل لكنّهم يوافقون على أنّها حقّقتْ تقدّمًا في مجالاتٍ معينة، كدعم حقوق المثليّين والمثليّات، أو تطويرِ بعض المجالات الثقافيّة والتقنيّة. وتكون حجّةُ هؤلاء المعتادة هي الآتية: "إنّ الحياة في إسرائيل أفضلُ بكثير" أو"في كندا احترامٌ أكبر للقيم الإنسانيّة وحقوقِ الإنسان الأساسيّة." والحقّ أنّ هذا هو ما نسمّيه في بعض الأحيان "تبييض جرائم" هذه الدول (whitewashing) أو تبرير أفعالها عبر التستّر وراء تعاطفها مع المثليّين (pinkwashing). لقد سمعنا مثلَ هذه الحجّة مرارًا وتكرارا، لكنّها تغفل الوقائعَ وتغفل حقيقةَ أنّ هذه الحقوق لا يتمتّع بها جميعُ المواطنين، وأنّ هناك أناسًا وشعوبًا معيّنة محرومةً منها بشكلٍ خاصّ. والحقّ أنّ هذا النوع من السياسات التقدّميّة هو الذي يُستخدم لتبرير أفعال هاتين الدولتين، لا بل لتبرير وجودِهما في حدّ ذاته.

إنّ العلاقةَ بين القابعين تحت الاحتلال، هنا وهناك، تتبيّن كلّما هتف الناسُ في تظاهرات التضامن في مختلف أنحاء كندا: "من جزيرة السلاحف إلى فلسطين: الاحتلال جريمة" (From Turtle Island to Palestine, Occupation is a Crime). وهنالك العديد من الأمثلة على التضامن في مجالات الفنّ والأدب والثقافة، وهي تتجاوز المحاولاتِ التي تدعمها الأجهزةُ الرسميّةُ لترويج "الأمّة" على حساب الشعب.

إنّ مقاومة الاحتلال في مختلف أشكاله ـــ من القتل إلى الإبادة إلى سرقة الارض فمصادرةِ الفنون والثقافة بغيةَ غسل جرائم المجرمين ـــ هي السبيلُ إلى العمل معًا للردّ على الأنظمة التي تقمعنا كشعوب. واذا كان بعضُ الناس غيرَ أحرار، فجميعُنا لسنا أحرارًا. بهذه الروحيّة أعلن نيلسون مانديلا، المقاتلُ من أجل الحريّة في جنوب أفريقيا، أنّنا ندرك جيّدًا جدًّا أنّ "حريّتنا ناقصةٌ من دون حريّة الفلسطينيين." ولم يكن عن طريق الخطأ أو المصادفة أنْ جاءت رسالةُ التضامن هذه من جنوب أفريقيا، ومن قِبل مَن ناضل ضدّ الأبارتهايد (التمييز العنصريّ) على ما يفعل الفلسطينيون أنفسُهم اليوم. وليس مصادفةً أن يكون علينا في كندا، التي اعتمَدَ على "نموذجها" نظامُ جنوب أفريقيا لتشكيل نظامه العنصريّ (القائمِ على الفصل بين السكّان الأصليين وأراضيهم وعائلاتهم وثقافتهم وبينهم وبين مَن يحكمونهم)، أن ندعم فلسطين والفلسطينيين. ولهذا السبب ندمج نضالاتِنا اليوم.

 

لماذا يُعتبر هذا النضالُ مهمًّا اليوم وكيف يمكن أن ننضمّ اليه؟

منذ نكبة العام 1948، يشكّل النضالُ من أجل تحرير فلسطين قضيّةً مهمّةً في العالم العربيّ وفي المنطقة، على الصعيدين العمليّ والرمزيّ معًا. لكنّ نضالَ الفلسطينيين من أجل العدالة ومن أجل تحرير أرضهم ذو أهميّةٍ رمزيّةٍ وأيقونيّةٍ بالنسبة إلى الحركة المناهضة للاستعمار والحركةِ اليساريّة في العالم أيضًا.

كثيرون في كندا، كما في أماكنَ أخرى، أدركوا أهمّيّة النضال الفلسطينيّ وتبنّوْه نضالًا رمزيًّا ضدّ الظلم الاستعماريّ. لكنّ علينا، نحن القاطنين في الخارج بعيدًا عن فلسطين، أن ندركَ أنّ النضال لتحرير فلسطين هو نضالٌ ضدّ كيانٍ كولونياليّ سافرٍ وفخورٍ بذاته ويَقمع الشعبَ من دون رادع أو خوف من العقاب.

جميعُنا، أينما كنّا، قادرون على دعم هذا النضال، والمقاطعةُ هي إحدى السبل لتحقيق ذلك. وتقدِّمُ لنا حركةُ BDS الفرصة لاتخاذ موقفٍ تضامنيٍّ مبدئيّ. على سبيل المثال، أنا بروفيسورة في جامعة مكغيل في مونتريال، وفي الأسبوع الذي مرّرتْ فيه الحكومةُ الكنديّةُ مشروعَ قرارٍ في البرلمان ضدّ BDS مرّر اتحادُ الطلبة في جامعتي مشروعَ قرارٍ يدعم المقاطعة لكنّه سقط خلال المصادقة عليه. وحين قامت مديرةُ الجامعة بإدانة الطلّاب بلهجةٍ قاسية لتمريرهم مشروعَ القرار، وَجّهتْ إليها مجموعة من الأساتذة رسالة مفتوحة تضامنًا مع طلّابنا.

عندما يدينك النافذون، مثلُ الجامعات أو الحكومات أو الشركات، فلعلّك تقول شيئًا يهدّد سلطتَهم وتحكُّمَهم بالموارد. وفي أجواء الجامعات فإنّ الطلّاب والأساتذة وموظّفي المكتبة وغيرَهم من الموظفين والنقابيين هم الذين اتّحدوا في الحرم الجامعيّ لدعم زملائنا ورفاقنا في فلسطين.

إنّ الانضمامَ إلى زملائنا ورفاقنا وإخوتنا وأخواتنا في فلسطين لمواجهة التمييز والاحتلال هو خيارنا الأوحد إذا كنّا نؤمن حقًّا بمبادئ العدالة. وخلافًا للعديد من البلدان الأخرى التي تواجه أنواعًا مختلفةً من التحدّيات الاستعماريّة والاستعماريّة الجديدة، فإنّ في فلسطين نداءً حقيقيًّا وملموسًا وحسَنَ الصياغة،(1) وهو يحظى بتأييد شريحةٍ واسعةٍ من المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ.(2) وإنّ الدعوة الخاصّة إلى مقاطعة إسرائيل أكاديميًّا وثقافيًّا، مع معاييرَ ومبادئَ واضحة، قد أعلنتْ منذ سنوات.(3) وهذه دعوةٌ عالميّة، وليست محصورةً بأناس ذوي اهتماماتٍ أو استثماراتٍ خاصّةٍ في فلسطين. وهي ليست موجّهةً إلى العرب وحدهم، أو إلى الأوروبيين فقط، أو إلى الأميركيين دون غيرهم. فكما في لبنان، فإنّ علينا في كندا واجبَ تعيين القمع والنضالِ ضدّه.

إنّ إرثَ العدالة الاجتماعية وتقاليدَها ملْكٌ لجميع الناس، وإنّ تاريخَ بلادنا الاستعماريّ يستوجب منّا مراعاة ذلك.

بيروت


1- صدر صيفَ العام 2005 ويدعو العالمَ إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.

ميشيل هارتمان

أستاذة في جامعة ماكغيل، منتريال (كندا)، وتركّز حاليًّا على سياسة الترجمة الأدبيّة من العربيّة إلى الإنكليزيّة ومشاكلها في السوق الأدبيّة العالميّة. تَرجمت عدة روايات إلى الإنكليزيّة، منها: روايات ايمان حميدان، والكسندرا شريتح، وجنى الحسن، ومجموعة قصصية (Beirut Noir) نشرت كتابين عن استخدام اللغة في الأدب اللبنانيّ الحديث. وهي ناشطة في المجموعات الكندية الآتية: Faculty for Palestine و Collage and University Workers United