لم تكذب جدتي
15-05-2018

 

لم تكذبْ جدّتي جميلة السهلي، وهي من قرية بلد الشيخ، حين روت لي ــــ عبر سنواتها السبعين ــــ عن فلسطين، وكيف "أنقذها" جنودٌ إنكليز بعد المجزرة التي جرت في القرية يوم 31/12/1947، وسقط حينها نحو 60 شهيدًا من أبناء القرية والنازحين إليها.

لكنْ هل أنقذوها فعلًا، أمْ كانوا يواصلون تنفيذَ مشروع بلادهم ضدّ شعبٍ يحيا في أرضه التي يزرعها ويفلحها ويعتاش من خيراتها؟

هذه المفارقة شغلتني طويلًا. ذلك أنّ الإمبراطوريّة التي "أنقذتْ" جدّتي هي عينُها التي مارستْ غطرستَها في حقّ فلّاحين بسطاء، قادوا ثوراتٍ حقيقيّةً، إلى جانب بقيّة أبناء فلسطين، لمواجهة الانتداب البريطانيّ، ولصدّ استجلاب اليهود إلى فلسطين، التي صار اسمُها "فلسطينَ المحتلة." ولاحقًا استمرّ ذلك المشروع، لتحمل فلسطينُ مسمَّياتٍ أخرى (فلسطين 48، فلسطين 67، فلسطين الشتات،...)، وليَحملَ شعبُ هذه الأرض المقسّمة مسمَّياتٍ موازية.

جدّتي كانت تغنّي في صباها أغاني عن الفدائيين. كان صوتُها يحمل حزنًا غريبًا، وحنينًا. لم تكن تقرأ أو تكتب. كانت تحبّ الحسابَ فقط. أكانت حساباتُها مرتبطةً بتعداد أيّام غربتها عن قريتها؟ أكان مَن علّمها هو ذلك الفدائيّ الذي لم يسمع قصّةَ "إنقاذها" على يد الإنكليز، بل سمع قصّة الاحتلال واللجوء بتفاصيلها، واختصرها بإيمانٍ مطلقٍ بالتحرير؟

الفدائيّ اليوم لم يعد موجودًا كما كان. وربّما لذلك غنّت له جدّتي جميلة كثيرًا؛ وربّما لهذا السبب أيضًا اتّسم صوتُها بالحنين. لقد كان وجهُ الفدائيّ الملثّم رمزًا لمقاومةٍ قادرة، وغارقةٍ في الحبّ؛ أما اليوم فصار الفدائيُّ أشبهَ بنجمٍ بعيد: يُمتعنا ببطولته، ويُستشهد، فيبقى أثرُه في نجمٍ آخر.

جدّتي شهدتْ حروبًا عدّة. لم تودِّع أولادها شهداءَ، وإنّما ودّعتهم وهم ذاهبون إلى معركة بيروت. حصل الحصار عام 1982، وجدّتي تنتظرُهم، شأنَ أخرياتٍ ينتظرن عودةَ قامةٍ تلتفّ بعلم فلسطين.

لا أعرف إنْ كانت جدّتي والأمّهات يتذكّرن أصلَ المشكلة: النكبة. ولا أعرف إنْ كنّ ينتظرن من شاحنةٍ إنكليزيّةٍ أخرى أن تأتي لتحمل أولادَهنّ و"تنقذَهم" من مجازر تلّ الزعتر وصبرا وشاتيلا وغيرها من المخيّمات والأماكن التي ضمّت نازحين من النكبة. تلك الأماكن التي حملت اسمًا وحافظتْ عليه، بفضل لاجئين أمثال جدّتي وأولادِها وأحفادها، لم يحالفْ بعضَها الحظّ، فلم يبقَ، ولم يعد أهلُها إليه، بل صاروا لاجئين فلسطينيين وسوريين ولبنانيين في أوروبا وأنحاء العالم.

أكان التهجيرُ الجديدُ هذا نكبةً جديدة، أم أنّ النكبة تستمرّ بأشكالٍ وأوضاعٍ مختلفة، وبالأيدي ذاتها؟ لعلّ مَن شرّدوا الأهل قبل سبعين عامًا لا يمكنهم قبولُ استمرار نسل اللاجئين حول فلسطين، فاستغلّوا كلَّ الفرص لتشريدهم من جديد.

لا أودّ أن أبحث عن إجابة. ربما لا أريد أن أُقلقَ الشهداءَ الذين ارتقوْا إلى عالم آخر، من أجل صمود هذه المخيّمات، على طريق العودة إلى فلسطين. لكنّ ما حصل قد ضاعف المأساة: فبات سعيُ أهالي هذه المخيّمات الأول هو العودة إلى مكان لجوئهم الثاني أو الثالث على طريق عودتهم إلى فلسطين.

جدّتي لم تكذب على أحد. أنا مَن ارتكب لعبةَ الشكّ في أسئلتي الدائمة لها: "لماذا خرجتم من الأرض؟ لماذا لم تبقوْا في عكّا مثلَ الباقين؟ لماذا لم ترجعوا قبل أن تغلق الحدود؟" أسألها، وأنا أعرف أنّه لو لم يخرجوا لَمَا التقى أبي أمّي، ولَمَا كنتُ ابنًا لهما، ولَمَا كتبتُ هذه المادّةَ عن حقّي في العودة إلى أرضٍ ورثتُها عن جدّتي وأبي. ولو لم يخرجوا لَمَا زرتُ بلادي شهرًا واحدًا خلال مرتين، اقتصرتْ كلٌّ منهما على 15 يومًا، بعد أن سنحتْ لي السياسةُ و"التنسيقاتُ الأمنيّة" بذلك. وخلال زيارتيَّ إلى فلسطين توقّعتُ أن أجد جدّتي في وجوه نساءٍ وجدّاتٍ في عمرها، لكنّني رأيتُها في الشجر!

خلال المرور من معبر الكرامة قابلني مستوطنٌ ادّعى أنّه من "تل حنان" (بلد الشيخ في حيفا) وحاول أن يوحي إليّ بأنه مسالمٌ، طيّبُ القلب، لطيفُ المعشر. حاول أن ينسيني أنّه محتلّ، ابنُ محتلّ، حفيدُ محتلّ؛ وأنني لاجئٌ فلسطينيّ ابن لاجئ فلسطينيّ، حفيدُ فلسطينيّ من مدينة حيفا. ولعل محاولات في التقرّب إليّ، والكلامِ معي ومع غيري، وصدِّنا جميعًا له، مرارًا وتكرارًا، كانت لسببٍ واحد لا غير: أنّه يعي أنّ لنا تاريخًا خلف هذا المَعْبر؛ تاريخًا يعرفُنا وينْكره!

لم تكذب جدّتي أبدًا، لكنها صدّقتْ وعدَ الكرمل وسفحِه التي تقع فيه أرضُها، بلدُ الشيخ. ومثلَها أنا لم أكذبْ، وصدّقتُ وعدَها، الذي هو وعدُ الأرض التي تعرف ولا تؤمن إلّا بأولادها.

بيروت

ايهم السهلي

أيهم السهلي صحافي فلسطيني من مدينة حيفا.ولد في مخيم اليرموك –ويقيم في بيروت. عمل محررًا في مجلة "المخيم" الصادرة عن "الهدف" في دمشق، وتولى رئاسة تحرير القسم الثقافي في مجلة "الحرية"  عدة سنوات. 
 يعمل حاليًا معد ومنتج في قناة "فلسطين اليوم".