من أجل السّعادة
02-11-2018

 

يستيقظ وسيم متأفّفًا. ومن دون أن يفتح عينيه تمامًا، ينتعل حذاءَه البيتيّ، ثم يمشي متعثّرًا إلى الحمّام. هناك، سيقرأ الجملة التي أبقى عليها فوق المرآة، "حبيبي يسعد أوقاته،"(1) فيبتسم بأسًى رغمًا عنه.

اعتادتْ شهْد أن تترك له مثلَ هذه الرسائل، التي شكّلتْ بالنسبة إلى أصدقائه مؤشِّرًا على حال العلاقة بينهما. فكانوا يحرصون على زيارة الحمّام بمجرّد دخولهم البيت: فإنْ وجدوا عبارةً مثل "سامحْه فهو يعتقد أنّ عادات قبيلته قوانينُ طبيعيّة،"(2) فهموا أنّ حدودَ زيارتهم يجب ألّا تتعدّى فنجانَ قهوة أو كأسًا من الشاي؛ أما جملةٌ على شاكلة "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة،"(3) فتعني أنّ "الأمن" مستتبّ، وقد تمتدّ السهرةُ إلى الفجر.

***

بعد الخروج من الحمّام، يصحو وسيم تمامًا ويكتشف الكارثة: الأرضُ مليئة بالأوساخ، والمجلى يغصّ بالصحون، ورائحةُ البيت توحي بأنّ قطيعًا من الماعز استقرّ فيه لساعات. كانت شهْد، خلال سهراتهم السابقة، تَفرض على أصدقائه تنظيفَ البيت وترتيبَه وغسلَ ما استخدموه قبل رحيلهم. والليلة الماضية كانت أوّلَ سهرةٍ تُقام في بيته منذ هجرتْه قبل شهر، حين قرّرتْ فجأةً أنها لم تعد قادرةً على الاستمرار معه. فقد أخبرتْه، وهما في السرير، بعد ليلة لطيفة لم يخطرْ في بالِه أنّها ستتوَّج بحديثٍ من هذا النوع:

ــــ يبدو أنّ علاقتنا وصلتْ إلى نهايتها.

ــــ ماذا؟!

ــــ سامحني، همستْ قبل أن تخرج من السرير لترتدي ثيابَها، ثم تفتح الباب وتغلقه خلفها بهدوء.

بقي وسيم أكثرَ من عشر دقائق يحدّق في جدران الغرفة، التي تحوّلتْ فجأةً إلى مكان باردٍ وموحشٍ أشبه بالكهف.

***

بعد نيل الشهادة الثانويّة العامّة أتيحَ لوسيم، بناءً على مجموع درجاته، أن يختار بين عدّة اختصاصات لا تنسجم مع طبيعتِه وميولِه الفنيّة. فاختار دراسة الفلسفة، التي لا يعرف عنها الكثير. "إنها أفضل من دراسة الجغرافيا أو التاريخ،" هكذا فكّر وهو في طريقه إلى العاصمة ليلتحق بجامعته. هناك، تعرّف إلى شهد، التي فُتنَ بجمالها حين شاهدها أوّل مرّة. كانت تجلس وحيدةً على مقعدٍ خشبيّ في حديقة الجامعة، تتصفّح كتابًا باللغة الإنكليزيّة، وفي أذنيْها سمّاعتان موصولتان بجهازها الجوّال، الملقى قربها مع حقيبتها وشالها وعدّةِ كتبٍ أخرى وزجاجة ماء. وقف يتأمّلها، وانتابه ذلك الشعورُ الغريب الذي يجعل المرءَ يحدّث نفسه قائلًا: "حصل هذا الموقفُ معي قبل اليوم." وبحركة روتينيّة، أخرج وسيم آلةَ التصوير من حقيبته، وبدأ يلتقط لها الصور. والصورة المعلّقة على يمين سريره اليوم هي ثمرةُ تلك اللحظة التي رَفعتْ فيها رأسَها لتستطلع ما حولها، وعلى شفتيها طيفُ ابتسامة، تُخفيها جزئيًّا خصلةٌ من شعرها الخرنوبيّ الجميل.

لم تُبدِ استياءً أو غضبًا حين شاهدتْه، بل سألته ببساطة:

ــــ هل أستطيع رؤية الصور؟

ــــ بالتأكيد، أجاب، وهو يقترب منها واضعًا آلةَ التصوير بين يديها.

أحبّت الصور جميعَها. لكنّ الصورة القريبة التي تُظهر ابتسامتها استوقفتْها أكثر من غيرها، فأخذتْ تُكبّرها وتُصغّرها على الشاشة الرقميّة، مبديةً إعجابَها باختيار زاوية التصوير. ثم سألته وهي تعيدها إليه:

ــــ هل أنت مصوّر محترف؟

ــــ أنا وسيم، طالب سنة رابعة في كليّة الفلسفة، قال وهو يمدّ يده مصافحًا، ما جعلها تبتسم بحرج وتمدّ يدَها قائلةً:

- شهد، طالبة أدب إنكليزي.

ثم أضافت استجابةً لسؤالٍ لاحَ في عينيه:

ــــ سنة ثالثة.

***

لم يعتقد وسيم أنه سيحبّ الفلسفة يومًا. لكنْ، في منتصف السنة الأولى، بدأ يستمتع بدراستها. ووجد أنّ الكثير من الأسئلة التي كان يخجل من طرحها وشغلتْ بالَه لسنوات هي، في الواقع، أسئلة فلسفيّة، وأنّ هناك من قضى حياته محاولًا الإجابة عنها. وفي إحدى المحاضراتِ لفت انتباهَ أستاذه بعد أن سأله عدّة أسئلة دلّتْ على اهتمامه ورغبته في تحصيل المعرفة. فنصحه الأستاذُ بقراءة كتابِ رينيه ديكارت، تأمّلات في الفلسفة الأولى.

هكذا بدأ ولعُه بهذا العلم، وصار يقرأ كلَّ ما يقع بين يديه من كتب الفلسفة، بغضّ النظر عن الكاتب أو الموضوع. لكنّ ذلك كلَّه لم يُبعده عن هوايته المفضّلة أو ينسيه حلمَه بالسفر لاكتشاف العالم، وتسجيل تجاربه ومغامراته من خلال عدسته، ونقلِها إلى الناس عن طريق المَعارض والصحف والمجلّات وغير ذلك من وسائل الإعلام والإعلان؛ علمًا أنّ جلّ ما أنجزَه في هذا المجال حتى ذلك الوقت كان تصويرَ الأعراس وحفلاتِ الميلاد وبعضِ المناسبات الخاصّة. ولطالما أدهش  أصدقاءه ومعارفَه بالصور التي كان يلتقطها لهم من دون دراية منهم، فتراهم يبتسمون بإعجاب وهم يتعرّفون إلى أنفسهم من جديد. وكأي فنّان مبدع أحبّ وسيم الجمال، وكانت شهد فاتنةً بكلّ المقاييس. لذا أحبّها من اللحظة التي رفعتْ فيها رأسَها، ونظرتْ إليه تلك النظرةَ الساحرة.

***

في ذلك اليوم لم يستطع النوم. بقي يفكّر بها ويستعيد ملامحَها وردودَ أفعالها: ضحكتَها العريضة، تكشيرتَها الطفوليّة، نظراتِ الاهتمام أو الاستنكار أو التعجّب، وغيرَ ذلك من التفاصيل التي التقطتها عدستُه أثناء انهماكها في الردّ على المكالمات التي كانت تصلها. كان مظهرُها يوحي بالهناء: ثياب بسيطة، أنيقة، متناسقة الألوان، كأنّها خُلقتْ لها دون غيرها من الإناث. كان منتشيًا بكلّ ما في الكلمة من معنى. حتّى إنّه ابتسم ابتسامةً عريضةً، شعر أنها أضاءت ظلمةَ الغرفة، عندما تذكّر سؤالها البريء وكيف ردّ عليه:

ــــ ما الذي لفتَ انتباهكَ إليّ كي تجعلَ منّي موضوعًا فنّيًّا؟

ــــ ثقافتُكِ، قالها بجديّة.

صدّقتْه، وسألته مستفسرةً:

ــــ ولكنْ كيف لمستَ ذلك؟!

ــــ هكذا، قال باسمًا، ثم مدّ يدَه إلى كتفها ولمسها بلطف.

ــــ يبدو أنني لم أقدّرْ مواهبَكَ جيّدًا، قالت وهي تُغالبُ الضحك.

يا لها من لحظات، تمتمَ وهو يتمطّى بمتعةٍ وتلذّذٍ لا يعرفُهما سوى العشّاق. ثم عاد وغرق ثانيةً في استعادة تفاصيل لقائهما.

تذكّر كيف احتال كي يطيلَ أمدَ جلوسه معها. كيف حدّثها عن تطور آلاتِ التصويرِ الرقميّة في العقدين الأخيرين، وعن خصوصيّة التصوير بالأسود والأبيض. ولن ينسى كيف عبّرتْ عن إعجابها حين رأتْ صورةَ تلك الطفلة ــــ ابنةِ قريته ــــ وهي تركض بين سنابل القمح باسطةً ذراعيها على اتساعهما، فقالت: "كم تشبهني! إنها عصفورة تتعلم الطيران." وهو ما زاد ثقته بنفسه، فاستفاض في الحديث عن أهميّة التوثيق بالصورة ودَورِه في الحفاظ على ثقافة الشعوب. كان يتكلم بطريقة تلقائيّة، كآلة تسجيلٍ ضُغطَ مفتاحُ التشغيل فيها عن طريق الخطأ، وفي الزمن الخطأ، بينما كانت هناك آلةُ تسجيلٍ أخرى تعمل في دماغه وتحفظ كلّ تفصيل من تفاصيل وجهها. وفي اللحظة التي شعر فيها أنّ خيوط الحديث بدأتْ تُفلت من بين يديه، توقف عن الكلام وسألها من دون مقدِّمات:

ــــ أتحبّين الفلافل؟

انفجرتْ ضاحكةً، وهي تخفي فمها بيديها، وتفيض أنوثةً وعذوبة. بدا كالأخرق حين شاركها الضحك، وقد شغلته حركاتُها وهي تمسح دموعها التي فاضت من شدة الضحك، ثمّ وهي تجمع أغراضها معلنةً عزمَها على الرحيل.

ــــ سُررتُ بالحديث معك، قالت والابتسامةُ لا تزال عالقةً فوق شفتيها.

ــــ شكرًا لجمالكِ، أجابها رافعًا آلةَ التصوير عاليًا كأنه يتحدّث بلسانها.

وقبل أن يفترقا، وعدها بأن يطبع صورة "العصفورة التي تتعلّم الطيران" وأن يهديها إيّاها، بالإضافة إلى صورتها التي أحبّتها. كانت هذه حركتَه الأخيرة كي لا ينقطع خيطُ التواصل بينهما. وافقتْ، وأرسلتْ له رقمَ جوّالِها بطيب خاطر كما طلب منها. سجّل الرقم، ثم ودّعها على أمل اللقاء. ومن شدة فرحه لم يتذكّر المحاضَرة التي جاء من أجلها إلّا وقد بات خارج أسوار الجامعة. لكنّه لم يهتم؛ فما حاجته إلى ابن رشد أو الشيرازي بعد حصوله على رقم جوّال شهْد؟

ومضى يمازح المارّة والبياعين وسائقي سيارات الأجرة وأشخاصًا وهميين رافقوه حتّى باب البيت.

***

بعد مغادرتها في ذلك اليوم المشؤوم، بقي وسيم أسبوعًا لا يبرحُ السرير إلّا من أجل الذهاب إلى الحمّام أو شرب الماء وتناول ما تيسّر من الطعام. بل هو أغلق جوّالَه، ورمى به فوق الخزانة كي لا يضعف ويتصلّ بها ويُعرّضَ نفسَه لموقف سخيف. كانت قد مضت ثلاثُ سنوات وهما معًا، ويعلم جيداً أنّ قرارها هذا، وبهذه الطريقة، قرار نهائيّ لا رجعة عنه. ومن الغريب أنّها أخبرته بعد فترة قصيرة من ارتباطهما عن قدوم هذا اليوم لا محالة، وكأنّها تقرأ المستقبل:

ــــ حين أقول لكَ إنّ علاقتنا وصلتْ إلى نهايتها، فأرجو منك ألّا تعترض طريقي، ودعني أرحل بسلام.

لم يأخذ كلامها في بادئ الأمر على محمل الجِدّ، فما الذي يحمل أنثى على قول هذا الكلام وهي في حضن حبيبها؟ وقبل أن يسألها هذا السؤال، تابعتْ قائلةً:

ــــ لا أقبل أن أعيش حياتي مكرهةً تحت أيّ ظرف. نعم أحبّك، وأعلمُ أنك تحبّني. لكنّ هذا لا يعني أن نكذب على بعضنا. سيأتي يوم وتملّني، رغم الحب. لذا أرجو منك حين تشعر هذا الشعور أن تقول لي؛ فأنا أيضًا لا أقبل أن تعيش معي مُكرهًا، إكرامًا للحبّ أو العشْرةِ أو من أجل بناء أسرةٍ وحفظ النسل وغير ذلك من أسباب مشابهة.

كانت تتكلّم بجدّيّة، وكان عليه أنْ يفكّر بما تقول ويناقشها فيه. ولكنْ ما الذي تقوله؟ وكيف سيردّ عليه؟ هو مغرمٌ بها ويُقدّر صراحتَها. لكنّ كلامَها بالنسبة إليه ترّهاتٌ رومانسيّة، ومن غير الممكن الالتزامُ به. فالحياة ليست بهذه البراءة الفجّة. ثمّ إنْ لم يعشْ معها إكراماً للحب والعِشرة وبناء أسرة، فمن أجل ماذا سيعيش معها؟

عندما سألها هذا السؤال أجابته:

ــــ من أجل السعادة.

ــــ لا يوجد شيءٌ متّفقٌ عليه اسمُه سعادة، قال متصنّعًا ما أمكنه من البرود. ثم استرسل في الكلام شارحًا لها معنى السعادة فلسفيًّا، وكيف رأى أرسطو إنها "ترتبط بتحقيق الخير" وأنّها "مسألة جماعيّة لا فرديّة." ثم انتقل إلى ابن مسكويه الذي يَعتبر أنّ السعادة جسديّة ونفسيّة، ويجزم بأنّ السعادة الدنيويّة ناقصة لأنها تنطلق من عالم الحسّ؛ لذا "كي نشعر بلذّة الطعام لا بدّ من أن نكابد ألمَ الجوع." فالسعادة قد تكون الشيء ونقيضه مجتمعيْن في ساعة من الزمن، وكلٌّ منهما يدلّ على الآخر.

هكذا بقي يتكلّم لأكثر من عشر دقائق. ثم سألها رأيها، فقالت من فورها:

ــــ أنا لستُ فيلسوفةً مثلك. ما أعرفه أنّ هناك كائنًا مختبئًا في داخل كلٍّ منّا، لا يأبه للاعتبارات التي اخترعناها خلال مسيرة تطوّرنا. وهذا الكائن اللعين صعبُ الترويض، ولن أقول إنّ من المستحيل ترويضه. ومتى رغب في أمر، صرخ بأعلى صوته مطالبًا بما يرغب فيه. هناك من يصمّ أذنيه، ويتشاغل عن ذلك بشيءٍ ما ــ ــ كالرياضة أو الصلاة أو الفن أو بمجرّد الصبر وقوّة التحمّل. وهناك من ينقاد له دونما تفكير، ويدفع ثمن ذلك ــ ــ ربّما حياتَه في بعض الأحيان. وهناك من يَعْقد معه اتفاقًا بالتراضي، فلا يحتاج إلى الصراخ، بل يهمس في أذن صاحبه بما يريد، وتكون الاستجابة تبعًا للظروف وقوّة الحاجة والاستعداد. فإنْ جاء يومٌ وسمعته يصرخ بك "اهربْ،" فمن العار عليك البقاء معي. هذا إن كنتَ إنسانًّا حرًّا بحقّ.

شعر وسيم أنه تلقى صفعةً مدوّية على خدّه أفقدته توازنَه. لم يتوقّع أن يسمع هذا الكلام من شهد اللطيفة، الناعمة، التي تعبق بالأنوثة. حتّى إنه تساءل إنْ كانت هي شهد نفسها التي رآها على ذلك المقعد في الجامعة. كان بحاجة إلى المزيد من الوقت كي يستوعب ما قالته. لكنْ إنْ تأخر لثوانٍ فقط، فستعتبر صمتَه هزيمةً، ولن تترك له فرصةً للرد. لذا سارع وسألها:

ــــ وأين أنتِ من كلّ هذا؟

ــــ تعلم أين أنا! والسؤال هو: أين أنت؟

صمت قليلًا وهو يفكّر: هل الأمور على هذا النحو كما تقول شهد؟ هل الإنسان محاصر بهذه الطريقة؟ لم تكن تلك الأسئلة غريبة عنه. فهو ابن الفلسفة. ابنُ الأسئلة الصعبة والأفكار المحرّمة والمسائل الشائكة، وغيرِ ذلك ممّا هو أشدّ وطأةً على النفس. لكنّه شعر بالضيق عندما وجد نفسَه محاصَرًا بهذا السؤال. ربّما لأنّ شهد هي التي تسأل؟ ربما هو لا يفهم  نفسه كما يظنّ؛ فالإنسان تصهره المِحَن، وهو لم يُمتحنْ بعد. ثمّ هاهو السيّد المسيح يصرخ مِن على صليبه: "إيلي إيلي لِمَ شبقتني؟"(4)  فمن يكون هو، كي يَنعم في اليقين؟

حزرتْ شهد ما يدور في خلده. فأشفقتْ عليه، وقالت لتخفّف عنه:

ـــ أرى أن نعيش معًا من دون أن نفكّر في هذه الأمور، ونترك للمستقبل ما للمستقبل. ماذا تقول؟

ــــ موافق، قال، وتنفس بعمق.

ثم أراح رأسه على الوسادة، وشرد مع أفكاره من جديد.

 

***

خلال السنوات الثلاث التي قضياها معًا أنهتْ شهد دراستَها الجامعيّة، وتوظّفتْ مترجمةً في شركة خاصّة. أمّا وسيم فصار مدرّسًا لمادة الفلسفة. كان يعيشان كزوجين، وكان راضيًا كلّ الرضى عن حياته هذه، حتّى إنه تخلّى عن حلمه بالسفر حول العالم لأنّ ذلك سيبعده عنها. خلال هذه الفترة حصلتْ بعضُ المشاحنات بينهما بسبب غيرته. وكان يجد نفسه دائمًا في قفص الاتهام:

ــــ هل تعتقد أنني ملْكٌ لك كي تغارَ عليّ بهذه الطريقة؟

ــــ هل تعتقدين أنني مصنوع من حجر كي لا أغار؟

وكانت لهما مشاكلُ أخرى خارج المنزل، كتلك التي اضطرّا بسببها إلى تغيير مكان سكنهما. حصل ذلك حين التقت شهد بإحدى جاراتها في باص النقل الداخليّ (وصفتْها لاحقًا بـ"مستنقع الفضول الرهيب"). وأثناء حديثهما، سألتها الجارة إن كانت حُبْلى. فقالت شهد إنها ليست كذلك، مُحاولةً اختزالَ الكلام. لكنّ الجارة سألتْها ثانيةً:

ــــ وزوجُكِ، ما موقفه من الأمر؟

ــــ أيّ أمر؟ سألت شهد وهي تبتسم باستخفاف.

ــــ أنّكِ لستِ حُبْلى حتى الآن.

ــــ متى تعرّفتُ إليه سأسأله، قالت شهد وأدارت لها ظهرَها منهيةً الحديث.

ــــ هل عندكِ، أو عند زوجكِ، مشكلة صحيّة لا سمح الله؟ سألتها، ومن الجليّ أنها لم تستوعب الكلام.

عند هذا الحدّ، فقدتْ شهد قدرتَها على المجاملة. وضعتْ يدَها على كتف الجارة، وقالت لها بهدوء ولطف شديدين، كأنها تخاطب طفلةً صغيرة:

ــــ أنا لستُ متزوّجة. والرجل الذي يعيش معي هو حبيبي، لا زوجي. كما أنني لستُ حُبْلى لأنني، ببساطة، لا أريد أن أكون حُبْلى.

ارتبكت الجارة، ولم تعرف ماذا تقول. بقيتْ تنظر إلى شهد ببلاهة للحظات، ثم غادرتْ مقعدَها على عجل، وجلستْ في مقعد بعيد بحيث لا تراها شهد.

عندما أخبرتْ وسيمًا بما حصل، جمد في مكانه، وظهرتْ عليه علاماتُ الارتباك أكثر من الجارة ذاتها. وبعد أيّام قليلة انتقلا من البيت، على الرغم من احتجاجات شهد التي لم تصدّقْه وهو يشرح لها درجةَ الخطورة التي هما فيها. كانت تعلم أنّ "المُسَاكنة" أمر غير مرغوب فيه اجتماعيًّا، ولكنْ لم يخطر في بالها أنهما قد يُجرجَران إلى السجن أو إلى أحد فروع الأمن إنْ تقدّمتْ تلك الجارةُ أو غيرُها بشكوى ضدّهما. وبقيتْ لعدّة أيام تعيش صدمةً حقيقيّةً وهي تتخيّل كيف كان من الممكن أن تُعامل كعاهرة من قبل جهة تُدعى "الأخلاقيّة" على ما شرح لها وسيم.

***

وسيم اليوم في الخمسين. تزوّج، وصارت لديه ابنةٌ تدعى شهد، وتبلغ من العمر عشرَ سنوات. يجلس على شرفة بيته مساءَ كلّ يوم. يدردش مع زوجته، ويشربان الشاي. لم يعد يستخدم آلة التصوير إلّا نادرًا، وبشكل خاصّ كي يصوِّر شهد الصغيرة. لا يعلم إنْ كان يحبّ زوجتَه، لكنّه متأكّد أنه لا يستطيع العيشَ من دونها. يعتقد أنه سعيد بحياته، على الرغم من الصوت الذي يصرخ في داخله: "اهربْ اهربْ" طوال الوقت. يحنّ إلى تلك الأيام البعيدة، بحلوها ومرّها. ويحنّ إلى شهد التي لم يرها سوى مرّةٍ واحدةٍ بعد أن افترقا:

 كان يوم جمعةٍ أيلوليّ حين رنّ جواله، وكانت الساعة الثانية صباحًا. فتح عينيه، وقرأ اسمها على الشاشة. أعاد قراءة الاسم عدّة مرّات، قبل أن يفتح الخطّ ويسمع صوتها:

- وسيم؟

خفق قلبُه بشدّة وشعر بغصّةٍ منعتْه من الكلام.  

- هل تسمعني؟

- أسمعكِ، قال بصوت مرتبكٍ مبحوح.  

- وسيم، أنا بحاجة إليك.

كان قد مرّ على هجرها له سنةٌ ونصف السنة، ولم تتصل به مرّةً واحدةً خلال هذا الوقت. فاعتقد أنها نسيتْه لكثرة ما سمعها تُردّدُ في أحاديثها: "أنا ملكة النسيان. أنا لا آبه للماضي. أنا لا ألتفت إلى الوراء. أنا أكره الوقوف على الأطلال." ومن الطبيعيّ بعد هذا أن يستغربَ ظهورها فجأةً في حياته بهذا الشكل. لكنها بحاجة إليه، ولن يخذلها مهما كلّفه الأمر.

في الطريق إلى العنوان الذي أعطتْه له، تذكّر كيف كانت ترفض الكلام عن عائلتها كلّما فتح هذا الحديث، وكيف كانت تقول بحدّة: "أنا مقطوعة من شجرة." لذا لم يتأخّر في الاستجابة لندائها؛ فربّما يكون هو الشخصَ الوحيد في هذه المدينة الذي تستطيع اللجوءَ إليه.

عندما وصل، وجدها تنتظره على الرصيف. احتار كيف سيتصرّف: هل يضمّها ويقبّلها كما يفعل الأصدقاء؟ أمْ يصافحها كما يصافح أيّ غريب؟

حين رأته يعْبر الطريق، لم تنتظر. ركضتْ نحوه، ثم ارتمت بين ذراعيْها من دون تفكير أو حسابات. كان بيتُها في البناء المقابل، لكنها كانت ترغب في التسكّع في شوارع المدينة برفقة شخصٍ تثق به، كي تحكي وتبكي وتصرخ وتشتم، علّها ترتاح. رافقها كما شاءتْ، واستمع إليها من دون أن ينطق بحرف. قطعا شوارعَ المدينة على غير هدًى. وعرف أنها كانت على علاقةٍ برجل متزوّج يكبرها سنًّا: رجلٍ أحبّته من النظرة الأولى، وعاشت معه السعادة التي كانت تبحث عنها. استمع إليها وهي تروي له ما حصل قبل ساعات قليلة فقط. قالت:

ــــ عدتُ إلى البيت مساءً، ولم أجده هناك كما اتفقنا. انتظرتُه لأكثر من ساعة، فلم يأت. انتظرتُ ساعةً أخرى، ثم اتصلتُ به، لكنّه لم يرد. شعرتُ أنّ هناك أمرًا غير طبيعي. فذهبتُ إلى بيته ووجدتُ على المدخل ورقةَ نعوةٍ تحمل اسمه.

اقشعرّ جسدُ وسيم وهو يستمع إليها. أذهلته المفاجأة واحتار ماذا يقول. بقي صامتًا وهي تبكي بحرقة وتنوح. صوتُها المخنوق، ونظراتها التائهة، ودموعها الساخنة، وحركاتها المجنونة ــ ــ كلُّ ذلك جعله يشفق عليها ويشعر بالمسؤوليّة تجاهها. فنطق أخيرًا:

ــــ كيف يمكنني مساعدتكِ؟

ــــ لا أريد البقاءَ وحدي.

ــــ لن أترككِ.  

ــــ هل تسمح لي بالنوم عندك اليوم؟ سألتْه وهي تختنق بالدموع.

بعد نصف ساعة، كان وسيم يفتح باب بيته، ويدفعها أمامه برفق، ثم يقودها من يدها إلى غرفة النوم التي تحفظ تفاصيلَها عن ظهر قلب. وجدتْ صورتَها، كما كانت، معلّقةً على الحائط، وإلى جانبها صورةُ "العصفورة التي تتعلم الطيران." وقفتْ دقائق تتأمل الصورتين، ووسيم خلفها يمسِّد كتفيْها بلطف، ويواسيها بكلمات عفويّة لو قالها في ظرفٍ آخرَ لماتت من الضحك. لكنها في تلك اللحظة كانت في حاجة إلى تلك الكلمات، وإلى هذا البيت الذي شعرتْ أنّ ثقلًا انزاح عن صدرها لحظةَ دخولها إليه. وشعرتْ بالدفء والأمان اللذين كانت في أمسّ الحاجة إليهما في ذلك الوقت. وبعد حديث قصير، فيه الكثيرُ من البوح، ضمّته شاكرةً، ثم تمدّدتْ على السرير، وشدّته من يده قائلةً: "ضمّني، أرجوك." وخلال دقائق، كانت تتوسّد ذراعَه، وصوتُ تنفّسها يعلن عن استغراقها في النوم. أمّا هو فبقي لبعض الوقت يتأمّل الوجه الذي فتنه ذاتَ يوم، وهو على بعد سنتمترات قليلة منه بينما قلبُ صاحبته في مكانٍ آخر لا يمكن الوصول إليه.

كانت تلك هي المرّة الأخيرة التي يرى فيها شهد. فحين استيقظ ظهيرةَ ذلك اليوم، لم تكن قربه. وعندما دخل الحمّام ليبحث عنها، وجد على المرآة كلمة "شكرًا" مكتوبةً بأحمر الشفاه، يحيط بها قلب.

واليوم، بعد مرور خمسة وعشرين عامًا، لا يزال وسيم يتذكّر تلك اللحظات، ويخجل من مشاعره حينها: يخجل من شعوره بالسعادة وهو ينظر إلى قسمات وجهها المُتْعَب. يخجل لأنه فكّر للحظة بتقبيلها فوق شفتيها وهي غافيةٌ لا حول لها ولا قوّة. يخجل من أفكارٍ كثيرةٍ راودته وهو يتأمّل جسدها المثير. يخجل من ضربات قلبه المجنون. وأكثر ما يخجل منه هو ابتسامتُها البريئة التي ارتسمتْ فوق شفتيها حين فتحتْ عينيها للحظة ورأته يحدّق بها كالمهووس، قبل أن تعود إلى النوم ثانيةً بعد أن تململتْ قليلًا ثم تكوّرتْ في حضنه كعصفورةٍ في عشّ.

اللاذقيّة

(1)  من أغنية لأمّ كلثوم.

(2) قول لجورج برناردشو.

(3) من قصيدة لمحمود درويش.

(4) إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَني؟

 

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).