نقد "الجغرافيا التوراتية اليمنية": فاضل الربيعي مثالًا*
29-03-2019

 

بدأ الباحث فاضل الربيعي كتاباتِه في ميدان الجغرافيا التاريخيّة التوراتيّة متأخّرًا عن عدد من الباحثين العرب، ككمال الصليبي وأحمد عيد وفرج الله ديب. ولكنّه حاز شهرةً قد تكون أوسعَ من بعضهم، ربّما بسبب غزارة النصوص التي كتبها خلال سنوات قليلة، وبسبب كثرة طلّاته الإعلاميّة.

حافَظ الربيعي على تقليدٍ مؤسفٍ في الكتابة البحثيّة العربيّة في هذا المجال (مع بعض الاستثناءات)، وهو عدمُ القيام بمراجعةٍ نقديّةٍ لما كُتب من دراساتٍ وكتبٍ في المجال المدروس، باستثناء الإشارة العابرة والإطرائيّة إلى كتابات الصليبي. وقد ارتكب عدّة أخطاءٍ فادحةٍ في نصوصه المنشورة:

- فهو، مثلًا، لا يفرِّق بين النبيّ والقاضي صاموئيل بن ألقانة (وُلد سنة 931 ق.م بحسب التوراة)، وبين الشاعر الجاهليّ السموأل بن عاديا اليهوديّ (توفّي سنة 560م، بحسب ما ورد في المدوَّنات العربيّة القديمة، ومنها طبقاتُ فحول الشعراء للجمحيّ).[1]

- وفي مقدّمة الطبعة الثانية من كتابه القدس ليست أورشليم، يكتب: "لقد عُرف جنوبُ الشام باسم إيلياء، وهو اسمٌ مؤنّثٌ للإله العربيّ الذكور أيل - ءيل الذي ينصرف إلى اسمِ الله، وقد عرفه العربُ والمسلمون واستعملوه في مدوَّناتهم ورواياتهم  دون حرج."[2] وكنّا قد ذكرنا في كتابنا موجز تاريخ فلسطين ما يأتي:

"حين وصل الإمبراطور هادريان إلى العرش الرومانيّ سنة 117 م... قرّر تحويلَ القدس إلى مستعمرةٍ للجنود الرومان، ومنَع اليهودَ من السكن فيها، وأطلق عليها اسمَ عائلته المختصر إيلياء؛ فقد كان اسمُ جدّ عائلة الإمبراطور يحمل اسمَ إيلياء كابيتولينا. وبهذا الاسم عُرفتْ أورشليم - القدس في العصر الجاهليّ وعصرِ صدر الاسلام. وظلّ هذا الاسمُ شائعًا عند العرب المسلمين، إلى جانب اسم بيت المقدس، حتى العصر الأمويّ، حيث نقرأ للشاعر الفرزدق (المتوفّى بالبصرة سنة 732 م) قولَه شعرًا: وبَيتانِ: بَيتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلاتُهُ/وبَيتٌ بِأَعْلى إيلياءَ مُشَرَّفُ."[3]

ولو كان لدى الربيعي تصحيحٌ لهذا المعطى، لكان حريًّا به عرضُه بدقّة.

- خلال حشد الربيعي الأدلّةَ على يمنيّة الجغرافيا التوراتيّة يقول: "فاليمنيّون القدماء كانوا ينطقون الحاءَ المهملةَ خاءً كما عند اليهود اليوم..."[4] والشائع أنّ اليهود الأشكناز الأوروبيّين فقط هم الذين يفعلون ذلك، لا اليهود العبرانيّين المزراحيم "الشرقيّين."

لو حاولنا معرفةَ بدايات اهتمام الربيعيّ بهذا الميدان، فلن نبتعدَ كثيرًا عمّا سمّيناه "سقوط تفّاحة نيوتن" في معرض قراءتنا لأعمال كمال الصليبي، حين اكتشف هو الآخر - أثناء تصفّحه معجمًا جغرافيًّا لمناطق المملكة العربيّة السعوديّة - أنّ الجغرافيا التوراتيّة تتكشّف كلُّها أمامه. يقول الربيعي: "بدأتْ حكايةُ الاكتشاف المثير هذا عندما كنتُ أعيد قراءة الهمداني[5] بعيْد وصولي إلى هولندا (كتاب الإكليل وصفة جزيرة العرب). وأشدُّ ما أثار دهشتي أنّني وجدتُ الهمداني يسرد أمامي أسماءَ الجبال الوديان والهضاب وعيون الماء في اليمن كما لو أنّه يسرد الأسماءَ نفسَها الواردةَ في التوراة..."[6]

ثمّ نقرأ في مقدّمة المؤلف حزمةً من المعلومات الغريبة، الأشبهِ بالقرارات القاطعة، عن أمورٍ لا تنبغي مقاربتُها بهذه الطريقة. فهو يكتب مثلًا:

 

فاضل الربيعي: "الهيكل لم يُبنَ في القدس قطّ، بل إنّ أسوار أورشليم... لا وجودَ لها هنا أصلًا"

 

"لم يَحدث السبيُ البابليُّ لليهود في فلسطين. كما أنّ الآشوريّين والمصريّين لم يشتبكوا على أرضها قطّ. وسفنُ سليمان لم تمخر المتوسّط، ولم ترسُ في أيّ وقتٍ من الأوقات في موانئ صور اللبنانيّة. وإلى هذا كلّه، فالملك داوود لم يحارب الفلسطينيّين... [و]القبائلُ اليمنيّة هي التي أعادت بناءَ الهيكل في السراة اليمنيّة، وليس في فلسطين. ومن ثمّ، فإنّ الهيكل لم يُبنَ في القدس قطّ، بل إنّ أسوار أورشليم، التي أشرف نحميا على إعادة ترميمها، لا وجودَ لها هنا أصلًا..."[7]

ويستمرّ الربيعيّ في عرض نصوصه واكتشافاته بلغة "قطّ" و"أصلًا" حتّى النهاية، متّهمًا مَن لا يروْن رأيَه بأنّهم مزوِّرون وملفِّقون. ولو تعلّق الأمرُ بآراء الساسة "الإسرائيليين،" لكان هذا الأسلوبُ مبرَّرًا في الردّ عليهم؛ أمّا مع العلماء والباحثين "الإسرائيليين" ممّن يحترمون تخصُّصهم العلميّ، كإسرائيل فنكلشتاين وغيره، فإنّ من الأفضل أن تُعتمدَ لغةُ البحث العلميّ المجرَّد، فيُرَدَّ عليهم بالحجّة والدليل العلميّيْن.

ومع ذلك فلنقلْ: لا بأس في ذلك؛ فالرجل ربّما أراد أنْ يُحْدثَ تنبيهًا جاذبًا لقرّائه منذ بداية كتابه. ولكنّنا حين ندخل في متن الكتاب لن نجد الأساليبَ البحثيّةَ الرصينةَ التي نبحث عنها. فلنعُدْ إلى جوهر محاولة الكاتب، ولنرَ ما أسفرتْ عنه.

بعد أن يَفْرغ الربيعي من تقديم اكتشافاته السابقة الجازمة، يقدِّم لها الإسنادَ الأهمّ في نظره: كتابَ الهمداني، صفة جزيرة العرب. ولكنّه قبل أنْ يقدّم هذا الكتابَ إلى قارئه، يقوم بمحاولة غريبة لتوثيق مضمونه الجوهريّ، القائمِ على موضوعة يمنيّة الجغرافيا التوراتيّة. فأين يجده؟ إنّه يستلّه من مذكّرات الطبيب والسياسيّ السوري عبد الرحمن الشاهبندر، الذي كتب في خاطرةٍ صغيرةٍ وردتْ في مقالة أدبيّة له (في جريدة مصريّة سنة 1936)، وتناول فيها كتابَ الرحّالة السوريّ نزيه المؤيّد العظم، وفيه يروي أنّه التقى حاخامَ اليهود في صنعاء، يحيى إسحاق، الذي أكّد له أنّ "لليهود مملكةً عظيمةً في اليمن إلى الشرق من صنعاء أسّسها سليمان بن داوود، وربّما كانت هذه المملكةُ في نجران."[8] فهل هذا دليلٌ فعلًا، وذو علاقة أنثروبولوجيّة أو تاريخيّة بموضوع جغرافيا التوراة اليمنيّة المزعومة؟ أليست ثمّة "أدلّةٌ" وطرائفُ "سياحيّة" من هذا النوع في فولوكلور كلّ طائفةٍ وأمّةٍ في العالم القديم، ظلّت متداولةً في المرويّات الشفاهيّة؟ أليس من العسف أنْ يَشطب باحثٌ ما على آثار الحضارات العراقيّة والمصريّة الفرعونيّة والفلسطينيّة لأنها لا تتّسق مع وجهة نظره، فيحتجَّ بقصاصةٍ صغيرةٍ من جريدةٍ يوميّة، فيها خاطرةٌ كتبها رحّالةٌ أو طبيبٌ أو سياسيٌّ لا دخلَ له في هذا الميدان؟ والأغرب من كلّ هذا أنّ الحاخام المذكور ليس متأكّدًا إنْ كانت هذه المملكةُ قد قامت فعلًا في نجران!

ويكتب الربيعي، بلغته القطعيّة المعهودة: "التوراة لم تذكرْ فلسطينَ بالاسم، كما لم تُشِرْ من قريبٍ أو بعيدٍ إلى الفلسطينيّين."[9] والواقع يقول عكسَ ذلك. وقد راجعتُ مفردةَ "فلسطين" في موسوعة الكتاب المقدس، فوجدتُ أنّها وردتْ في التوراة بصيغ "فلسطين" والفلسطينيين" و"أرض الفلسطينيين" على النحو الآتي: 7 مرّات في سِفر التكوين، ومرّتين في سِفر أشعيا، و3 مرّات في سِفر أرميا، ومرّةً في كلٍّ من سِفر يشوع وسِفر عاموس وسِفر صفنيا وسِفر الميكابيّين (وقعتْ ثورةُ الميكابيّين في القرن الثاني ق.م، وهي عبارة عن تمرد يهوديّ مسلّح، موثّق في المدوَّنات السلوقيّة الإغريقيّة والرومانيّة واليهوديّة، ولا يمكن التشكيكُ في صحّة وقوعها في أورشليم - القدس الفلسطينيّة). وقد وردت الكلمة في سِفر عبوديا ضمن عبارة "سهل فلسطين." فكيف يَجزم الربيعي أنّ فلسطين لم ترد في التوراة؟ أم أنّه يقصد أنّها وردتْ فعلًا، إنّما بالتاء كما يقول، ولهذا فهو يردُّها إلى اليمن بدليل أنّها تحمل اسمَ الإله اليمنيّ القديم، "فلس"؟

ولكنْ حتّى هنا يظلّ الاعتراضُ قويًّا على وجهة نظر الربيعي القائلة "إنّ الإله فلس إله الفلستيين، حيث لا يوجد كلمة فلسطين مطلقًا بالتوراة بل فلستيين والفلست، رغم وجود حرف الطاء بالعبريّة، وهم من بني كِنانة[10] (كنعان)، أحدِ بطون مُضر،[11] وليست مصر كما تذكر التوراة."[12] ومع ذلك، فلنستمرَّ في مناقشة هذه النقطة بخصوص اسم فلسطين، ولنتساءلْ: كيف وردتْ لفظةُ "فلسطين" بحرف الطاء في النسخة المترجمة إلى العربيّة من التوراة، وبحرف التاء في اللغة العبريّة؟

في رأيي أنّ حرف الطاء موجودٌ في العبريّة فعلًا، ولكنّه لم يُستعمل في إملاء كلمة "فلسطين" في الكتاب المقدّس؛ أي إنّها موجودة ولكنْ بلفظة "فلشتيم." والأسئلة هنا كثيرة، ومنها:

- لماذا استمرّت فلسطين بهذا الإملاء العبريّ، أيْ بالتاء، حتى الآن؟ وهل حرفُ الطاء العبريّ (ט) كان يُلفظ ويكتب في التوراة بالعبريّة القديمة، أمْ أنّه كان قليلَ الاستعمال قديمًا ثمّ انقرض في العصر الحديث؟

- وإذا كان اسمُ الفلسطينيّين نسبةً إلى الإله اليمنيّ القديم فلس، كما يقول الربيعي، فلماذا لم تأتِ النسبةُ إليه "الفلسيّين" واسمُ منطقتهم "الفلسة" أو "الفلسيّة"؟ وما معنى التاء في "الفلستيون؟" الربيعيّ يقول إنّ هذه التاء هي التاءُ اللاصقة، ويضرب لها مثالًا في "قريش التي تكون بها قرشت." فأيّ معنى لهذا التفسير؟

- ولماذا يسكت الربيعي عن أنّ كلمة "فلسطين" في العبريّة لم تأتِ بالسين (ש) لو كانت النسبةُ فعلًا إلى إله "فلس" اليمنيّ، بل جاءت بالشين (שׁ)؟ وإذا كانت الميم في العبريّة تفيد الجمعَ (فيكون "الفلسطينيّون" في العربيّة "فلشتيم" في العبريّة)، فماذا عن النون في المقابل العربيّ للاسم مفردًا "فلسطين"؟ وهل هذه هي الكلمة الوحيدة التي تُكتب بالعبريّة بقلب السين شينًا، والطاءِ تاءً، أمْ أنّ الأمثلة كثيرة على ذلك ("ملكة سبأ" تُكتب بالعبريّة "ملكت شفا" מלכת שבא مثلًا)؟

كلّ هذه الأسئلة تجعل وجهةَ النظر التي تردّ اسمَ فلسطين إلى الإله فلس اليمنيّ القديم، وتربط بين الفلستينيّين ويهودِ الفلاشا في أثيوبيا، فكرةً هشّةً، خصوصًا أنّها نُقضتْ بالأدّلة الآثاريّة القاطعة، كما سنبيّن بعد قليل.

أمّا خارج التوراة، فقد ورد اسمُ "فلسطين" في كتابات المؤرِّخ والرحّالة الإغريقيّ هيرودوت في القرن الخامس ق.م. فقد أشار إلى بلاد الشام باسم "سوريا،" وإلى جنوبها بـ"فلسطين" (Παλαιστινη پَلَيْسْتِينِيه)، وأحيانًا بـ"فلسطين السوريّة." ويبدو أنّ هيرودوت استعار هذا الاسمَ من "پَلَشْت" نسبةً إلى شعب البلستة/الفلسطة، في القرن الثاني عشر ق.م، الذين استقرّوا في ساحل فلسطين الجنوبيّ، وأقاموا خمسَ ممالك - مدن في الساحل الجنوبيّ ما بين يافا ووادي العريش؛ علمًا أنّ اسم فلسطين كان شائعًا قبل هيرودوت بعدّة قرون: ففي سنة 750 قبل الميلاد ورد اسمُ "بلست" باللغة العبريّة، ثم ورد اسمُ بلادهم "فلستيا" (Philistia) بعد ذلك؛ كذلك ورد اسمُ "بالستين" أو سوريا الفلسطينيّة (Palestine Syria) الذي كان يُطلق في وثائق أخرى على الجزء الساحليّ والداخليّ من فلسطين الحاليّة حتى الصحراء العربيّة.

 

في سنة 750 قبل الميلاد ورد اسمُ "بلست" باللغة العبريّة، ثم ورد اسمُ بلادهم "فلستيا" 

 

وكلمة فلسطين بالعبريّة هي פלשתים (پلشتيم)، وبالأكديّة الأقدم زمنًا هي پالاستو. ومن الأدلّة الآثاريّة على وجود الفلسطيين  أو "الفلسطة" (التي تقول موسوعةُ الكتاب المقدّس إنّها تعني "المهاجرين،" وهم مهاجرون فعلًا من جزر البحر المتوسّط) ورودُ ذكرهم على إحدى الجداريّات الفرعونيّة بوادي الملكات (في الأقصر)، وهي تعود إلى زمن الملكة حتشبسوت (1479 -1458  ق.م). ويرفض الربيعي قصّةَ هجرة شعوب البحر المتوسّط، ولكنّه لا يردّ على الأدلّة المادّيّة التي تؤكّدها، ومنها الجداريّةُ المذكورة التي تقول إنّ هؤلاء المهاجرين "حطّوا برحالهم عند ساحل مريوط، قرب الإسكندريّة حاليًّا، فقام الفراعنة بإجلائهم عن مصر، فانقسموا لجماعتين: الجزء الأكبر حطّ رحالَه بجنوب فلسطين التاريخيّة، أما الجزء الأصغر فتوجّه غربًا واستقرّ بمدينة درنة الليبيّة وحولها."[13]

ويرفض الربيعي أنْ يكون القضاءُ على مملكتيْ إسرائيل ويهوذا، من قِبل الجيوش الآشوريّة، والكلدانيّة بعدها، وتدميرُ أورشليم وهيكلِها، وسبيُ قسمٍ كبيرٍ من سكّانها، قد حدث في فلسطين. بل هو يُنْكر أيَّ وجودٍ لليهود العبرانيين فيها قبل القرن الثاني قبل الميلاد، أو قبل 130 سنةً ق.م، على ما يقتبس عنه بكر أبو بكر[14] ومحمّد علي إبراهيم،[15] أو كما يقول هو نفسُه.[16] ولكنّنا سنأخذ بما وثّقناه في كتابه من أنّ "بدايةَ تدفّق القبائل العربيّة العاربة، بما فيها بقايا قبيلة بني إسرائيل، من يهود اليمن وسواحل البحر الأحمر وتُهامة ونجد اليمن واليمامة، نحو جنوب بلاد الشام (فلسطين)، لن يتجاوزَ حدودَ العام 200 ق.م. إذ بدءًا من هذا التاريخ، تدفّقتْ على شكل موجاتٍ متعاقبة، وتحت ضغط الحروب والحملات العسكريّة المدمِّرة، جماعاتٌ وقبائلُ وشعوبٌ مُنهكةٌ تقلّصتْ، إلى حدٍّ كبير، إمكاناتُها القتاليّةُ والحربيّة..."[17] والواقع أنّ أحدًا من الباحثين القائلين بجغرافيا عسيريّةٍ أو يمنيّةٍ للتوراة واليهوديّة لم يَبلغ به الحماسُ هذه الدرجة من المبالغة في الاستنتاج. فكمال الصليبي نفسُه، في معرض رفضه لاعتماد مخطوطات البحر الميّت، قال إنّها قد تفيد لدراسة مرحلة اليهود في العصر الرومانيّ؛ أي إنّه كان يعترف بوجود اليهود في ذلك العصر وإنْ لم يتطرّقْ بالتفصيل إليه.

إنّ كلامَ الربيعي ذاك يعني شطبَ تاريخ الشرق طوال القرون التي سبقت الهجرةَ اليهوديّة من اليمن إلى فلسطين شمالًا، والتي يُعتقد بحدوثها في القرن الثاني ق.م. وهو يعني شطبَ عمليّات السبي، ومنها السبيُ الآشوريّ الأوّل لسكّان أورشليم/القدس في القرن السابع ق.م، والسبيُ الكلدانيّ الثاني لهم في القرن السادس ق.م، وكلّها موثّقٌ في المسلّات والوثائق الرافدينيّة. كما يعني شطبَ الحروب المصريّة الرافدينيّة والمصريّة الحيثيّة في فلسطين وعموم بلاد الشام. ويعني شطبَ معاهداتِ السلام، ومنها معاهدةُ قادش (تل النبي مندو) بين مصر الفرعونيّة والحيثيّين سنة 1258 ق.م، أيْ قبل أكثر من ألف سنة من هذه الهجرة اليهوديّة المزعومة، وهي معاهدة موثّقة بكلام التوراة وبمسلّات وبردّيات وجداريّات ما تزال قائمةً حتى اليوم على نهر العاصي. وعن قادش هذه كتب هيرودوت ما يَنسف أطروحةَ الربيعيّ عن الإله اليمنيّ "فلس" وأصلِ الفلسطيّين: "هنالك مدخلٌ واحدٌ معروف إلى مصر من فينيقيا إلى حدود مدينة كاديتس التي تعود إلى السوريّين، ويُدعَوْن الفلسطينيّين، ومن كاديتس، وهي مدينة أعتقدُ أنّها ليست أقلّ [حجمًا] من مدينة أخرى تدعى سارديس. من هذه المدينة تمتدّ محطّاتُ التجارة على ساحل البحر إلى حدود مدينة لينيسوس."[18] وكان رعمسيس الثاني أوّلَ مَن خلّد انتصاراتِه الحربيّة على نصبٍ صخريّ ما يزال باقيًا عند مصبّ نهر الكلب في لبنان الحاليّ، ضمن مجموعةِ نُصبٍ ومنقوشاتٍ تشمل ثلاثَ مسلّاتٍ مكتوبةٍ بالهيروغليفيّة، وستَّ لوحات مسماريّة رافدينيّة من العصريْن الآشوريّ والبابليّ الأخير. وهنا نتساءل عن سبب عودة المنفيين اليهود في بابل إلى مدنهم المدمّرة بسبب الحروب في فلسطين، ولا يعودون إلى مملكتهم اليهوديّة المزعومة في اليمن أو عسير؟ لماذا لم يُعثرْ حتى الآن على رقيمٍ فردٍ، أو أثرِ أركيولوجيّ واحدٍ وحاسم، بالعبريّة أو غيرها، يدعم روايةَ القائلين بجغرافيا عسيريّةٍ أو يمنيّةٍ للتوراة واليهوديّة؟

ويحاجج الربيعيّ بأنّ هيرودوت، الذي جال في المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد وكتب ملاحظاته، لم يسمعْ، ومن ثمّ لم يسجِّلْ، كلماتٍ تشير إلى أورشليم ويهوذا وإسرائيل والسامرة وهدمِ الهيكل والسبي، على الرغم من أنّه تحدّث عن "مواقع وأقوامٍ تبعد عن خطّ رحلته آلافَ الأميال."[19] هنا نحيل القارئَ على الفصل السابع من كتابي موجز تاريخ فلسطين الصادر حديثًا:

"إنّ دويْلة يهوذا الثانية، والتي كانت محميّةً فارسيّةً بالمعنى الحصريّ للكلمة، ليست إلّا بقعةً ضيّقةً جدًّا من الأرض، في أورشليم/القدس وحولها، قد لا يتجاوز عرضُها 24 ميلًا، ومساحتُها (كما يذكر... رولي خاريش)[20] حوالي 17 هكتارًا مربّعًا... أما عددُ سكّانها فلا يزيد على عشرة آلاف نسمة، كما يقول فنكلشتاين. لنقرأْ ما كتبه المؤرّخ هربرت جورج ولز...: ’كانت حياةُ العبرانيين تشبه حياةَ رجل يصرُّ على الإقامة وسط طريقٍ مزدحم، فتدوسه الحافلاتُ والشاحناتُ باستمرار... لم تكن ’مملكتُهم‘ سوى حادثٍ طارئٍ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية، ذلك التاريخ الذي هو أكبرُ منهم ومن مملكتهم.[21] ويضيف ظفر الإسلام خان... أنّ هيرودوت تجاهل ذكرَ اليهود ودولتِهم ما عدا القدسَ، وبعضَ الأماكن التي لم تكن تبعد عن القدس أكثرَ من عشرة أميال. ويعلّق على موقف هيرودوت هذا د. فوكس جاكسون... قائلًا: ’لقد كانت يهوذا - اليهودية غايةً في الصغر، وكان سكّانُها من التفاهة من حيث العدد لدرجة أنّ... هيرودوت كان يزور ما كان يُسمّى فلسطين السوريّة، أو سوريّة الفلسطينيّة، وقد لا يسمع عن اليهود شيئًا أبدًا. ولا بدّ أنّ القدس كانت في أيام حاكمها نحميا، المعاصرِ لهيرودوت، مدينةً خاملةَ الذكر جدًّا، بحيث لا تُغري سكّانَ المناطق المجاورة لها بسكنها إلّا بشقّ الأنفس. والأجدر بالملاحظة من تفاهة عدد اليهود في فلسطين في زمن نحميا (445 – 432 ق.م) هو أنّ رقعتَهم ظلّت ضيّقة، كما لا يبدو أنّهم تكاثروا في البلاد لما يَقرب من ثلاثة قرون... ولكنّ اليهود لم يصبحوا قوّةً في البلاد إلّا حوالي منتصف القرن الثاني ق.م خلال فترة حكم الميكابيّين. وما من شكّ في أنّهم كانوا عديدين في بابل ومصر، أمّا في فلسطين فكانوا قلّة تافهة.‘"[22]

***

تلك كانت بعضَ العناوين الرئيسة للأطروحة المركزيّة للباحث فاضل الربيعي، وقد توقّفنا عندها بالتحليل النقديّ. وسنتوقّف في مناسبة قادمة عند الجانب الآثاريّ (الأركيولوجيّ) للموضوع،  لنرى كيف جرى إهدارُ هذا الركن الحيويّ والحاسم في كتابات القائلين بعسيريّة أو يمنيّة الجغرافيا التوراتيّة، وغضُّ الطرف عن مئات الأدلّة الماديّة التي يقدّمها هذا العلمُ من قلب الجغرافيا الفلسطينيّة. بل جرت، أحيانًا، قراءاتٌ مقلوبةٌ ومحرَّفة، أو موظَّفة بشكل خاطئ، من قِبل بعض الباحثين العرب، ومنهم الربيعي، لأهمّ كتاب صدر في هذا الميدان، وهو كتاب التوراة اليهوديّة مكشوفةً على حقيقتها، للباحث فنكلشتاين وزميله سلبرمان، وهو كتابٌ هزَّ الرواسخَ  والمقولاتِ غيرَ العلميّة والشديدةَ الخرافيّة في السرديّة التوراتيّة التقليديّة.

*خلاصات مكثّفة من دراسة مطوّلة ستُنشر كاملةً في كتابي الذي يصدر قريبًا بعنوان: نقد الجغرافيا التوراتيّة العسيريّة واليمنيّة.

 جنيف

 


[1] فاضل الربيعي، القدس ليست أورشليم: مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين (دمشق: دار الفكر، 2009)، ص 12.

[2] المصدر السابق، ص 3.

[3] علاء اللامي، موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربيّ الإسلاميّ (رام الله: دار الرعاة، وعمّان: جسور ثقافيّة، 2019)، الفصل 13.

[4] فاضل الربيعي، القدس ليست أورشليم، مصدر مذكور، هامش 8، ص 36.

[5] (280 - 336 هجريّة): شاعر وجغرافيّ عربيّ كبير. كانت له إحاطةٌ بعلوم الفلك والحكمة والفلسفة والكيمياء.

[6] فاضل الربيعي، فلسطين المتخيّلة - أرض التوراة في اليمن القديم (دمشق: دار الفكر،   ط 1، 2008)، المجلّد 1، ص 14.

[7] المصدر السابق.

[8] المصدر السابق، ص 16.

[9] فلسطين المتخيّلة، مصدر سابق،  ص 19.

[10] قبيلة خندفيّة مُضريّة عدنانيّة، يوجد معظمُها اليوم في السعوديّة حيث تُعتبر موطنها الأصليّ، كما تتوزّع على بلدان عربيّة أخرى.

[11] مُضر: الجدّ السابع عشر للنبيّ محمّد، وكان يكنّى بابنه إلياس، ويُقال له مُضر الحمراء، وهو أحدُ القسميْن اللذين ينقسم إليهما جذمُ القبائل العربيّة العدنانيّة (إلى جانب ربيعة).

[12] هذا النصّ اقتبسه بكر أبو بكر في مقالته "فلسطين بين المفكّر العربيّ فاضل الربيعي والباحث الآثاريّ الإسرائيليّ إسرائيل فنكلشتاين." المقالة تقريضيّة خالية من القيمة العلميّة، ولكنْ حين عدتُ إلى الصفحة 286 من نسختي من كتاب الربيعي لم أجد هذا المقتبس، بل وجدتُ على الصفحة ذاتها هامشًا يربط اسمَ فلستين بإله "فلس" الذي كانت تعبده قبيلةُ طيّ في طورها اليمنيّ كما يقول، ويربط بينهم وبين يهود الفلاشا في أثيوبيا قبل نقلهم إلى الكيان الصهيونيّ، ويعتبرهم من بقايا الفلستينيين.

[13] موسوعة المعرفة والموسوعة الحرّة، نسخة رقميّة.

[14] بكر أبو بكر، مجلة آمد للإعلام (رقميّة)، عدد 27/4/2014 .

[15] محمد علي إبراهيم، جريدة الجسر الإلكترونية، 25 مارس 2017.

[16] مدوّنة آفاق المعرفة المتجددة، عدد 8/10/2010، نسخة رقمية.

[17] فاضل الربيعي، فلسطين المتخيّلة، مصدر مذكور، المجلّد 2، الجزء 5، ص 561 .

[18] ترجمة شخصيّة لفقرات من النسخة الإنكليزيّة من كتاب هيرودوت، التواريخ، ص 258.

[19] مقالة في صفحة حزب الشعب الفلسطينيّ، عدد 2/5/2011.

[20] د. عفيفي البهنسي، تاريخ فلسطين القديم من خلال علم الآثار (دمشق: منشورات الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، ط 1، 2009)، ص 67.

[21] هربرت جورج ولز، موجز التاريخ، اقتبسه ظفر الإسلام خان في كتابه: تاريخ فلسطين القديم، ص 99.

[22] المصدر السابق، ص 99.

علاء اللامي

 

كاتب عراقيّ يقيم في سويسرا. له العديد من المؤلَّفات في الأدب والبحث العلميّ في التاريخ والتراث واللغة، منها: دليل التنشيز، سيرة اليمامة البابليّة (شعر)، قصائد حب باتجاه البحر (شعر أجنبيّ مترجم)، إيجابيّات الطاعون (نصوص مسرحيّة)، نصوص مضادّة دفاعًا عن العراق، نقد المثلّث الأسود (مقالات)، السرطان المقدّس: الظاهرة الطائفيّة في العراق من المتوكّل العباسيّ إلى بوش الأمريكيّ (دراسات)، المبسَّط في النحو والإملاء (لغة)، موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربيّ الإسلاميّ (تاريخ)، نقد الجغرافيا التوراتيّة خارج فلسطين (تاريخ).