هل يأخذ التعليمُ الخاصّ في لبنان مكانتَه الطبيعية؟
17-09-2020

 

يكاد لبنان أن يتفرّدَ في المكانة التي يحظى بها قطاعُ تعليمه الخاصّ، من حيث قدرتُه على استقطاب أكثر من 70% من المتعلّمين من مستوى الروضات حتى البكالوريا. وتكتسب المدارسُ الخاصّة، مجتمعةً، قوّةَ ضغطٍ كبيرةً على القرار الرسميّ في كلِّ ما يتعلّق بالشأن التربويّ عامّةً.

فما الذي أعطاها هذه المكانةَ؟ وهل بدأنا نشهد اليومَ، مع تفاقم الأزمات الاقتصاديّة والنقديّة والاجتماعيّة، تراجعًا في هذه المكانة؟ وهل نشهد على تحرّر النظام التربويّ اللبنانيّ من ضغط طوائفيّته في القطاع الخاصّ؟

 

نظرة تاريخيّة

يتميّز لبنان عن معظم الدول في أنّ التعليمَ الحديث نشأ فيه بجهود المجتمع الأهليّ، المتلوِّنِ بألوانٍ دينيّةٍ طائفيّة. وقد كان الموارنة هم المبادرين إلى ذلك، بل ساهموا في تعميم التعليم الحديث في مناطقِ انتشارهم في لبنان. ولعلّ المحطّةَ البارزةَ في هذا الشأن كانت المَجْمعَ اللبنانيّ الذي عُقد في اللويْزة سنة 1736، وكانت أبرزُ مقرَّراته تعميمَ المدارس بجانب الأديرةِ والكنائس، وذلك بمساعدة الإرساليّات الأوروبيّة والمدرسةِ المارونيّة في روما. فكان ذلك بمثابة تشريعٍ ينصّ على إلزاميّة التعليم الأساسيّ وشبهِ المجّانيّ.[1]

وما لبثت الطائفةُ السنّيّةُ أن التحقتْ بالرَّكْب، فأنشأتْ جمعيّةَ المقاصد بهدف فتح مدارسَ حديثةٍ في مناطقِ وجود أبناء الطائفة. وأنشأ الإنجيليّون، بدورهم، مدارسَ أُلحقتْ فيما بعدُ بالمدارس الإنجيليّة التابعة للإرساليّات الإنجيليّة الأميركيّة تحديدًا. أمّا المدارسُ الرسميّة التابعة للدولة العثمانيّة التي كانت تَحْكم لبنانَ في تلك الحقبة، فقد تأخّر إنشاؤها حتى نهايةِ القرنِ التاسع عشر. ومع إعلان دولة لبنان الكبير، أُلحقتْ هذه المدارسُ الرسميّةُ بوزارة المعارف،[2] فعُرفتْ باسم "مدارس المعارف" للدلالة على أنّها رسميّة.

إذن، سبق التعليمُ الخاصُّ التعليمَ الرسميَّ ما يقارب القرنيْن؛ ما مكّن الأوّلَ من امتلاك قدراتٍ وخبراتٍ هائلة، بشريّةٍ وإداريّةٍ وتجهيزيّةٍ ومنهجيّة، في مقابل التعليمِ الثاني الذي أخذ ينتشر مع نشوء الدولة الحديثة في المناطق التي لم يصلها التعليمُ الخاصّ. وقد عملتْ سلطةُ الانتداب على تعزيز التعليم الخاصّ، الكاثوليكيّ منه تحديدًا بسبب ارتباطه بها ثقافيًّا، من خلال الإرساليّات اليسوعيّة التي تولّت إدارةَ المدارس التي أنشأها الموارنة.[3] ومنذ ذلك الحين تُشكِّل المدارسُ الخاصّة، وتحديدًا الكاثوليكيّة أيضًا، قوّةَ ضغطٍ (لوبي) في الدوائر الرسميّة لتعزيز مصالح تلك المدارس، ولو على حساب التعليم الرسميّ، الذي لم يرتقِ إلى مستوى التعليم الخاصّ.

هناك عدّةُ عوامل تُقوّي هذا المسارَ، أبرزُها:

أوّلًا: تركيبةُ الدولةِ اللبنانيّة ونظامِ الحكم الطائفيّ فيها. فكثير من المسؤولين لا يستمدّون شرعيّتَهم، بشكلٍ أساسٍ، من انتخاباتٍ ديمقراطيّة، وإنّما من مرجعيّتهم الدينيّة وانتمائهم المذهبيّ. وهذا ما يجعلهم دائمي الخضوع لمصالح الطوائف، وأبرزُها في مجال التعليم.

ثانيًا: ما جاء في دستور سنة 1926. فهذا الدستور لم يَعتبر الدولةَ مسؤولةً عن تأمين التعليم لجميع مواطنيها، وإنّما جاء نصُّ المادّة العاشرة فيه ليؤكّد حرّيّةَ الطوائف في إنشاء مدارسها الخاصّة.[4] لكنْ، إذا كان مضمونُ هذه المادة يُفْهم ويُقْبل في سياقه التاريخيّ، فما الذي يبرِّر استمرارَه كما هو، من دون أيّ تعديل، بعد ما يُقارب مئةَ عام؟! لقد عُدّل الدستورُ مرّاتٍ عديدةً منذ الاستقلال. فما الذي يجعل هذه المادّةَ عصيّةً على أيّ تعديل، على الرغم ممّا يعتريها من شوائبَ لا تتوافق مع التطوّرات العالميّة، ولا مع شرعة حقوق الإنسان، التي ترى التعليمَ حقًّا من حقوق الإنسان، تلتزم حكوماتُ الدول الموقِّعةُ عليها (ومنها لبنان) احترامَه وتأمينَه؟

الجواب، في رأيي، يعود إلى قوّة لوبي التعليم الخاصّ، الذي يمتلك من القدرات والمفاتيح ما يمكِّنه من فرضِ ما يريد. وقد أعطته المادّةُ العاشرةُ قوّةً دستوريّةً لا يمْكنه التفريطُ فيها تحت أيّ مسمًّى.

ما يَدعم هذا الرأيَ هو أنّ المجتمعين في مؤتمر الطائف سنة 1989 لم يجرؤوا على طرح أيّ تعديلٍ على هذه المادّة، مع أنّ النظامَ التربويّ اتُّهِم خلال الحرب الأهليّة بتأجيج الصراع المذهبيّ واندلاع الحرب. أكثر من ذلك: أَقَرّ المجتمعون بنودًا تُعطي التعليمَ الخاصَّ الأولويّةَ، فسبقت البنودُ المتعلّقةُ بتأكيد حريّة التعليم وحمايةِ التعليم الخاصّ بندَ إصلاح التعليم الرسميّ وتطويره.[5]

ثالثًا: بعضُ القوانين والأنظمة الإداريّة التي تدعم الدولةُ، من خلالها، القطاعَ الخاصَّ. ومنها أنّ الدولة تقدِّم إلى موظَّفيها في القطاع العامّ، وضمْنهَم معلِّمو التعليم الرسميّ، مِنَحًا ماليّةً تمكّنهم من تعليم أولادهم في المدارس الخاصّة! إنّها لمفارقةٌ عجيبةٌ يَصْعب فهمُها. هذا بالإضافة إلى مئات المدارس الخاصّة المجّانيّة، التي تتولّى الدولةُ اللبنانيّةُ تكلفةَ التعليم فيها، علمًا أنّ المدارس الرسميّة موجودةٌ إلى جنب هذه المدارس على امتداد الوطن.

 

تأزّمُ الأوضاع الاقتصاديّة يهدِّد التعليمَ الخاصّ

استمرَّ التعليمُ الخاصّ معزَّزًا، وقويًّا، ويواكب التطوّرات، وقادرًا على فرض رؤيته ومصالحِه على صانعي القرار. ثمّ بدأتْ مؤشِّراتُ الأزمة الاقتصاديّة تُرْخي بثقلها على القطاعات كافّةً. واشتدّ الوضعُ تأزُّمًا مع إقرار "سلسلة الرُّتَب والرواتب" (2017)، التي عمل القطاعُ الخاصُّ (التربويُّ وغيرُ التربويّ) على عدم إقرارها بالشكل الذي أُقِرّت به. فأخذت المدارسُ الخاصّةُ تواجه مشكلةً حقيقيّةً في تأمين رواتب موظّفيها، وفقًا لمقتضيات قانون "السلسلة" الجديدة؛ بل إنّ بعضَ هذه المدارس لم يلتزمْ تطبيقَ هذا القانون حتى اليوم، أو طبّقه بشكلٍ مجتزأ.

كما وَجهّت الرئيساتُ العامّاتُ والرؤوساء العامّون للرهبانيّات في لبنان كتابًا مفتوحًا إلى رئيس الجمهوريّة بتاريخ 19/5/2020، كان بمثابة إشعارٍ بأنّ "أكثريّة المدارس التابعة لرهبانيّاتهم (ما لا يقلّ عن 80% منها) متّجهةٌ حُكمًا نحو الإقفال القسريّ نتيجةَ الوضع الاقتصاديّ وإهمالِ الدولة لواجباتها." وفي تصريحٍ لـ أساس ميديا، نُشر بتاريخ 21/5/2020، تؤكّد الدكتورة غنى البدوي، المديرةُ العامّةُ لإدارة الشؤون التربويّة في جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة، أنّ الوضع سيّئ جدًّا في مدارس المقاصد، وأنّ هناك توجّهًا إلى إغلاق عددٍ من المدارس المجّانيّة تصل إلى عشر، وتضمّ ثلاثةَ آلاف متعلّم، ما لم تتحرّك الوزارة.

إذًا، تواجه المدارسُ الخاصّةُ مشكلةً ماليّةً كبيرةً تُنْذر بانهيار هذا القطاع الذي خدم في المجال التربويّ لأكثر من ثلاثمئة عام، خصوصًا ونحن اليوم نعيش في عين الانهيار الاقتصاديّ الشامل في البلاد: إذ تدهورت العملةُ الوطنيّة، وسُرّح آلافُ المواطنين من وظائفهم، وانخفضت القدرةُ الشرائيّةُ بشكلٍ كبير. وجاءت جائحةُ كورونا لتزيد الطينَ بلّةً، وتُدخلَ البلادَ أحيانًا في حالة التعبئة العامّة. ومع أنّ المدارس، الرسميّةَ والخاصّة، واصلتْ إعطاءَ الدروس عبر الانترنت، مع ما شاب هذا الأمرَ من شوائب، فإنّ بعضَ الأهل يرفضون تسديدَ الأقساط المتبقّية. وتنشط الاجتماعاتُ بين مختلف الأطراف من أجل التوصّل إلى صيغةٍ تحفظ حقوقَ الجميع.

الجدير ذكرُه أنّ المدارس الخاصة ضغطتْ بشكلٍ كبيرٍ من أجل أن يعلن وزيرُ التربية والتعليم العالي استئنافَ الدراسة في المدارس، وذلك بعد أن سجّلتْ أرقامُ ضحايا كوفيد-19 انحسارًا ملحوظًا لعدّة أيّام. غير أنّ ذلك الانحسار لم يكن كافيًا لمثل هذا الإعلان. وجاءت عودةُ الأرقام إلى الارتفاع لتدفعَ الوزيرَ إلى إعادة النظر في القرار وإعلانِ إنهاء العام الدراسيّ عن بُعد، من دون أن تتمكّنَ المدارسُ الخاصّةُ من استيفاء كامل الأقساط المدرسيّة أو إنهاءِ البرامج الدراسيّة (وهذا هو شأنُ القطاع التربويّ في مستوياته كافّةً). كما ألغيت الامتحاناتُ الرسميّةُ للشهادة المتوسّطة، ولكافّة فروع الثانويّة العامّة، وتُرك لرؤساء الجامعات قرارُ تنظيم إنهاء العام الجامعيّ وتحديدُ آليّة التقويم.

 

هناك مؤشّراتٌ كثيرةٌ تدلّ على أنّ قطاعَ التعليم الخاصّ يصارع من أجل البقاء

 

هناك مؤشّراتٌ كثيرةٌ تدلّ على أنّ قطاعَ التعليم الخاصّ يصارع من أجل البقاء، بل يضغط من موقع القوّة والفرض. ومن هذه المؤشّرات ما تسرّب عن ضغوطٍ مورستْ على وزير التربية عند انحسار موجة كوفيد-19 الأولى من أجل فتح المدارس مع نهاية شهر أيّار، وذلك لتبرير مطالبة الأهل بأن يسدّدوا كاملَ الأقساط المدرسيّة، مع أنّ لجانَ الأهل تؤكّد أنّ المدارس استوفت قسطيْن من ثلاثة. وفي الموازاة، تضغط المدارسُ الخاصّةُ على الأهل لتسديد الأقساط تحت طائلةِ حرمان أولادهم التسجيلَ، مؤكّدةً في معظمها عجزَها عن الاستمرار إنْ لم تبادر الدولةُ إلى دعمها. لكنّ الدولة عاجزةٌ بدورها، بل هي شبهُ مفلسة، وتكافح للاستمرار في دعم الخبز والدواء، وترزح تحت عبء دَيْنٍ عامٍّ تخطّى عتبة المئة مليار دولار.

أمام هذا الواقع الشديد التعقيد، تتضافر الجهودُ للخروج بحلولٍ تُوفّق بين الأطراف كافّةً. وآخرُ هذه الجهود مشاريعُ قوانين يُعدّها وزيرُ التربية، وتهدف بشكلٍ أساسٍ "لمساعدة المدارس من أجل دعم القطاع التربويّ بشكلٍ عامّ.... لتقديم مساهمة ماليّة عن كلّ متعلّم ضمن الإمكانات الماليّة المتوافرة أو المِنح التي يمكن الحصولُ عليها.... ولتسديد المِنح المدرسيّة مباشرةً إلى المدارس الخاصّة... لإعفاء المؤسّسات التربويّة من بعض الرسوم والمساهمات كدعمٍ والتفاتةٍ من الدولة لقطاع التربية." وعن المدرسة الرسميّة يشير الوزير إلى أنّها "يجب أن تكون خيارًا وليس فرضًا على الأهالي،" ويشير أيضًا إلى "ضرورة الوصول لأن تصبح بمستوى المدرسة الخاصّة."

غير أنّ اللافت هو أنّ جميعَ مشاريع القوانين المقترحة تتّجه نحو إنقاذ المدرسة الخاصّة، ولا يوجد أيُّ مشروعٍ يطول المدرسةَ الرسميّة، التي يُتوقّع أن تشهدَ نزوحًا نحوها يصل إلى حواليْ مئة ألف متعلّم. وهذا ما يدفع إلى تساؤلاتٍ، من بينها:

لماذا لم يُقترحْ مشروعُ قانون توظيف حسب الحاجة، وفقًا لآليّةٍ مضبوطةٍ لمواجهة هذه الزيادة المتوقّعة؟ ولماذا عند الحديث عن ضرورة تطوير المناهج في المدارس الرسميّة، وهي مناهجُ تعود إلى العام 1997، يكون الجوابُ هو "الحاجة إلى المزيد من الوقت"؟!

إنّ هذه "الحلول" المقترحة تؤكّد أنّ القرارَ الرسميّ يخضع باستمرارٍ لضغوط لوبي المدارس الخاصّة، المتلوِّنة بالألوان الطائفيّة والمذهبيّة، والمتحكِّمةِ بكامل المشهد السياسيّ ونظامِ الحكم في لبنان. ونسأل: أليس الأجدى اجتراح مشاريع قوانين لدعم القطاع الرسميّ، موازيةٍ لتلك التي يُعمَل عليها من أجل إنقاذ القطاع الخاصّ؟ ذلك أنّ مشاكلَ القطاع الرسميّ كثيرةٌ ومزمنةٌ وأكثرُ إلحاحًا، والوضع الاقتصاديّ الضاغط على الأهل سيدفعهم مكرَهين إلى القطاع الرسميّ. فلماذا لا يقابَل ذلك بتهيئة المدرسة الرسميّة بالشكل الذي يجعلها وجهةً مرغوبةً تربويًّا ووطنيًّا؟!

إنّ قطاعَ التربية والتعليم لم يعد مجرّدَ قطاعٍ خدماتيٍّ ومكلف، إذ جعله التطوّرُ العلميُّ والمعرفيُّ والتكنولوجيّ منتِجًا بامتياز. فتقدُّمُ المجتمعات اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا لا يمكن أن يتحقّقَ من دون مجتمعٍ متعلّمٍ ناقدٍ مبتكرٍ منتِجٍ للمعرفة، وهي أمورٌ في صلب أهداف النظم التربويّة الحديثة، ويتطلّب تحقيقُها تعميمَ التعليم حتى مراحلَ متقدّمة. وهذا أمرٌ لا تقوى على تحقيقه جماعاتٌ بعينها، مهما بلغتْ من قوّة، بل يتطلّب قدراتِ دولة، بمؤسّساتها وأجهزتِها ومواردِها البشريّةِ والمادّيّة.

 

بين الواقع المأزوم ومحاولات وقف انهيار المدارس الخاصّة

عندما نشأ التعليمُ الحديثُ في لبنان بمجهود طوائفه، لم يكن يتطلّب تخصّصاتٍ عاليةً وكوادرَ واسعة. فقد كان يقوم بالخدمة التربويّة رهبانٌ أو مرسَلون مكرَّسون لهذا العمل، لا يبتغون الربحَ ولا الرواتبَ العالية. لكنّ الحالَ تغيّرتْ مع مرور أكثر من ثلاثمئة عام على انطلاقته، حتى وصلنا إلى ما بات يتطلّبه العملُ التربويُّ من تجهيزاتٍ ومبانٍ وتخصّصاتٍ متنوّعةٍ تَعْجز المؤسّساتُ الخاصةُ عن تأمينها من دون استيفاء أقساطٍ عاليةٍ لا يستطيع الأهلُ في حالاتٍ كثيرةٍ دفعَها. وهذا يضع المدارسَ الخاصّةَ في مأزقٍ يتفاقم مع تدهور الوضع الاقتصاديّ العامّ في البلاد.

هنا لا بدّ من نقطة فصلٍ تضع الأمورَ في نصابها لتُحمِّلَ الدولةَ مسؤوليّةَ تربية أبنائها، في قطاعٍ رسميّ متطوّر ومجهّز وموازٍ للقطاع الخاصّ، إنْ لم يتفوّق عليه.

لقد جاء التعليمُ الخاصّ سابقًا لقيام الدولة اللبنانيّة، وبالتالي سابقًا للتعليم الرسميّ بمئات السنين، كما قلنا. وهو قطْعًا ساهم في وضع لبنان على سكّة الحداثة قبل الدول المحيطة بمئات السنين، حتى بات يُعرف بمدرسة العرب وجامعتِهم ومستشفاهم. ولا يزال التعليمُ الخاصُّ يسهم في تأمين التربية لحوالي 70% من مجمل المتعلّمين في التعليم العامّ ما قبل الجامعيّ. ولكنْ لم يكن له أن يستمرَّ بهذه القوة والاقتدار لولا دعمُ الدولة، بأجهزتها وتشريعاتها، وذلك بضغوطٍ مستمرّةٍ من لوبي القطاع الخاصّ، ودائمًا تحت الغطاء الطائفيّ والمذهبيّ، كما ذكرنا.

لكنْ، مع استفحال الأزمة الاقتصاديّة في البلاد، منذ سنواتٍ لا تقلّ عن السبع، وصل الانهيارُ إلى قطاع التعليم الخاصّ. فتوالت مناشداتُ العاملين في هذا القطاع من أجل الإنقاذ. ولكنْ هل سيجدون صدى مناشداتهم في دولةٍ مَدينةٍ بأكثر من مئة مليار دولار، فضلًا عن أنّها تخلّفتْ عن سداد مستحقّات عليها لجهاتٍ خارجيّةٍ وداخليّة؟

هذا وقد صدرتْ في هذا الخصوص مناشداتٌ سياسيّةٌ، لا تربويّةٌ فحسب. ومنها موقفٌ عن رئيس حزب القوّات اللبنانيّة سمير جعجع بتاريخ 1/6/2020 يقول فيه "إنّ المدرسةَ الخاصّة رافقتْ لبنانَ منذ استقلاله، وكانت إحدى ميزاته البارزة. لذلك، على الحكومة عدمُ تركها تسقط تحت وطأة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة الحاليّة، [بل] تقديمُ مساعداتٍ عاجلةٍ لتأمين استمراريّتها. بالإضافة إلى واقعِ أنّه إذا - لا سمح الله - سقطت المدرسةُ الخاصّة، فسيكون على الدولة دفعُ أضعافٍ مضاعفةٍ لاستيعاب تلامذة المدرسة الخاصّة في المدرسة الرسميّة." كما تقدَّمَ النائب إدكار طرابلسي، مع زميله أسعد درغام، كممثّليْن للتيّار الوطنيّ الحرّ في البرلمان، بتاريخ 1/6/2020، باقتراح قانونٍ يقضي بإلزام الدولة اللبنانيّة بدفع مبلغ مليونيْ ليرة لبنانيّة عن كلّ متعلّمٍ في القطاع الخاصّ، تحت ذريعة أنّ الدولة مجبرةٌ دستوريًّا بتعليم أبنائها (والحقّ أنّ الدستور لا يُلْزم الدولةَ، وإنّما يعطي كاملَ الحرّيّة للطوائف بإنشاء مدارسها الخاصّة، على ما رأينا آنفًا).

الواضح من المواقف والمقترَحات أنّ أصحابَها يَعتبرون الدولةَ مسؤولة بشكلٍ أساسٍ عن منع انهيار المدارس الخاصّة، غيرَ آبهين بالواقع الاقتصاديّ لدولةٍ تجهد من أجل تأمين مستلزمات العيش الأساسيّة للمواطن من طحينٍ ودواءٍ ومحروقات. نعم من واجب الدولة مساندةُ القطاعات الخاصة المتعثّرة. ولكنْ أليس الأوْلى تربويًّا مساندة القطاع الرسميّ، الذي لم يخصّه الوزيرُ بأيٍّ من مشاريع القوانين المقترحة لمواجهة الأزمة المستجدّة، مع أنّه يعاني مشاكلَ كثيرة؟

من أكثر القوانين إلحاحًا قانونٌ يستثني قطاعَ التربية من منع التوظيف، لمواجهة الزيادة المتوقّعة لأعداد التلاميذ النازحين من القطاع الخاص التي ستصل إلى نحو 100 ألف تلميذ، كما قلنا، على أن يحمل القانونُ آليّةً وضوابطَ واضحةً للتوظيف تقيه شرَّ المحسوبيّات والتدخّلات السياسيّة شأن معظم حالات التوظيف منذ سنوات.

 

كلمة ختاميّة

أخيرًا، من واجبات الدولة أن تؤمّن الحقوقَ الاقتصاديّة والاجتماعيّة لمواطنيها بالتساوي، ومن أبرزها الحقُّ في التعليم، لا حريّةُ التعليم؛ فليس في الإعلانات العالميّة والمعاهدات الدوليّة للحقوق والحريّات ما يُسمّى "حرية التعليم،" وإنّما الحقّ في التعليم. من هنا أرى أنّ الدولةَ ليست ملزمةً بدعم التعليم الخاصّ من منطلق "احترام حرّيّة التعليم" (المنصوص عليها في دستور 1926)، بل ينبغي تغييرُ ذلك بالحقّ في التعليم الجيّد للجميع، أوّلًا في القطاع الرسميّ، ثم في التعليم الخاصّ، علمًا أنّ القطاعَ الرسميّ الآن يعاني مشاكلَ متنوّعةً تعوِّقه عن أنْ يكون بديلًا سريعًا للقطاع الخاصّ من المستوى نفسه.

وللقطاع الرسميّ حديثٌ آخر.

منيارة

 


[1]- رولا بردقان، التعليم العالي العربيّ وإشكاليّات التطوير والتحديث (بيروت: منتدى المعارف، 2019)، ص 169.

[2]- المصدر نفسه، الصفحات 170-174.

[3]- المصدر نفسه، ص 175.

[4]- نصّ المادّة العاشرة من الدستور اللبنانيّ: "التعليم حرّ ما لم يُخِلَّ بالنظام العامّ، أو ينافي الآدابَ، أو يتعرّض لكرامة أحدِ الأديان أو المذاهب. ولا يمكن أن تمسّ حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصّة، على أن تسير في ذلك وفاقًا للأنظمة العامّة التي تُصدرها الدولةُ في شأن المعارف العموميّة."

[5]الجمهورية اللبنانيّة، وثيقة الوفاق الوطني، بيروت، 1989، ص7:

 https://www.presidency.gov.lb/Arabic/LebaneseSystem/Documents/TaiifAgreementn.pdf

رولا ميشال بردقان

باحثة في علم اجتماع التربية. نالت الدكتوراه في العام 2017، ونشرت الأطروحة في العام 2019. تعمل في قطاع التعليم الرسميّ الأساسيّ منذ العام 1997.