التعليم للجميع، وتكافؤ فرص التعليم الجيّد، في مرمى سهام كورونا
26-02-2021

 

مقدّمة

على مدى عقود، عملتْ دولُ العالم جاهدةً، بالتعاون مع المنظّمة الدوليّة للتربية والتعليم (اليونسكو)، في سبيل تحقيق ديمقراطيّة التعليم أو "التعليم للجميع."

كانت الانطلاقة في "المؤتمر العالميّ للتربية للجميع" (جومتين، تايلند، 1990)، الذي انعقد برعاية اليونسكو، وبرنامجِ الأمم المتحدة الإنمائيّ، وصندوقِ الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، والبنك الدوليّ. وخرجتْ عن المؤتمر وثيقتان أساسيّتان: الإعلان العالميّ حول التربية للجميع، وهيكليّة العمل لتأمين حاجات التعلّم الأساسيّة. تضمّن الإعلان رؤيةً تشمل: 1 - تعميم الالتحاق بالتعليم والنهوض بالمساواة. 2 - التركيز على اكتساب التعلّم. 3 - توسيع نطاق التربية الأساسيّة ووسائلها. 4 - تعزيز بيئة التعلّم. 5 - تقوية المشاركات.[1] وتمّ التشديدُ على "أنّ تلبيةَ حاجات التعلّم الأساسيّة تُعتبر مسؤوليّةً إنسانيّةً مشتركةً وعالميّةً، وتتطلّب تضامنًا دوليًّا."[2] ووضع المؤتمرُ خطّةَ عملٍ لمتابعة تنفيذِ ما اتُّفق عليه، على أن يتمّ تقويمُه في نهاية سنة 2000.

في العام 2000 عُقد "المنتدى العالميّ للتعليم للجميع" في دكار لتقويم التقدّم وتبيانِ أسباب القصور خلال التسعينيّات في مجال توفير التعليم للجميع. وخرج المنتدى بـ"إطارٍ عامٍّ عالميّ من أجل تأمين حاجات التعليم الأساسيّة في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين." فقام بتوسيع أبعاد مؤتمر جومتين إلى "أهداف في مرحلة التنفيذ، واستراتيجيّات تساعد في إنجاز الأهداف." ومن أبرز هذه الأهداف الهدفُ الثاني: "تأكيد حصول جميع الأطفال على تعليمٍ أساسيّ ذي نوعيّةٍ جيّدةٍ وشامل، وتعميم تساوي الفرص، وإتمام التعليم الأساسيّ لجميع الأطفال، وضمان مجّانيّته، وخاصةً للبنات الأكثر فقرًا."[3]

منذ العام 2002، عمدت اليونسكو إلى متابعة التعليم للجميع ومراجعتِه على مستوى العالم، وإلى الدفع بذلك قُدمًا،[4] من خلال إصدار تقرير سنويّ حمل حتى العام 2015 اسمَ التقرير العالميّ لرصد التعليم للجميع، وبات منذ العام 2016 يَصْدر تحت عنوان التقرير العالميّ لرصد التعليم. لذلك سُمّيت الحقبة (1990-2015) "عصرَ التعليم للجميع."

وفي العام 2016 أطلقت الأممُ المتحدة خطّة الأمم المتحدة للتنمية الشاملة والمستدامة 2030 (سنشير إليها فيما بعد بـ خطّة 2030). وتضمّنتْ 17 هدفًا، خُصّص الرابعُ منها للتعليم، ونصُّه: "ضمان التعليم الجيّد الشامل والمتكافئ وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع."[5] ومن أجل تحقيق الهدف الرابع، وُضعتْ 7 غايات، أُولاها "ضمانُ أن يتمتّعَ جميعُ الفتيان والفتيات بتعليم ابتدائيّ وثانويّ مجّانيّ ومنصف (متكافئ) وجيّد، يؤدّي إلى تحقيق نتائج تعليميّة ملائمة وفعّالة بحلول عام 2030."[6]

إلى أين وصلت الدولُ في تحقيق التعليم للجميع؟ وكيف أثّر، أو سيؤثّر، انتشارُ وباء كورونا في مسار تحقيق هذا الهدف؟

 

1 - تعميم التعليم العامّ في العالم حتى العام 2019/2020

يبدو جليًّا، وفقًا للأرقام والتحليلات التي يقدّمها سنويًّا التقريرُ العالميّ لرصد التعليم، أنّ الوصولَ إلى تعميم التعليم الأساسيّ والثانويّ الجيّد أمرٌ بعيدُ المنال. إذ يؤكّد التقرير العالميّ لرصد التعليم 2019 أنّ "المعدّل الإجماليّ للقيد في التعليم الابتدائيّ، وصافي معدّل الالتحاق والمعدّل الإجماليّ للالتحاق في الصفّ الأخير، شهد ارتفاعًا حتى عام 2008، ثم توقف التقدّم."[7] كما يؤكّد أنّ على جميع الأطفال "الالتحاقَ بالمدرسة بحلول العام 2018 لتحقيق إتمام الدراسة الثانويّة في العالم بحلول 2030، علمًا بأنّ معدّلَ الالتحاق في البلدان المنخفضة الدخل بلغ 73% في العام 2016."[8] وبحسب تقرير 2020، فإنّ معدّلَ الالتحاق في العام 2018 بلغ عالميًّا 92% في التعليم الابتدائيّ، و84% و65% في المرحلة الدنيا والعليا من التعليم الثانويّ على التوالي.[9] وفي البلدان المتوسّطة الدخل، 75% من الطلاب فقط ملتحقون بالمدارس عند بلوغهم الخامسة عشرة.[10]

هذا في ما خصّ الالتحاقَ بالتعليم. أمّا في ما يتعلّق بالتعليم الجيّد، فإنّ الواقع أيضًا يُظهر صعوبةً بالغةً في تحقيق الهدف الرابع من خطّة 2030. فقد بلغتْ نسبةُ مَن لم يصلْ إلى مستوى الكفاءة الأدنى في القراءة 56% ممّن هم في سنّ التعليم الابتدائيّ، و61% ممّن هم في سنّ التعليم الإعداديّ.[11]

فإذا كان هدفُ التعليم للجميع، وهو يتعلّق بضمان حصول الأطفال على التعليم الإبتدائيّ وإتمامه، لم يتحقّق بحلول العام 2015، ولا تزال الفئاتُ السكانيّةُ الضعيفة في العالم، بمن فيهم المهاجرون واللاجئون، تُحْرم حقَّها في التعليم،[12] بالإضافة إلى ما بيّنته أرقامُ أحدث تقريريْن لرصد التعليم العالميّ في العاميْن 2019 و2020، أفليس من المستحيل تحقيقُ الهدف الرابع من خطّة 2030؟!

 

2 - انعكاس كوفيد-19 على الواقع التعليميّ

ما تقدّم كان قبل أن تستجدَّ أزمةُ كوفيد-19، التي أرخت بثقلها وما زالت على العالم بأسره، وبشكلٍ أثقلَ على مستوى البلدان المتوسّطة والمنخفضة الدخل، التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على مساعدات والتزامات الدول المرتفعة الدخل من أجل تحقيق أهداف التعليم للجميع قبل العام 2015، وحاليًّا من أجل تحقيق أهداف خطّة 2030، ومن ضمنها الهدفُ الرابع. والواقع أنّ انتشارَ الفيروس أثّر سلبًا، وبشكل كبير، في اقتصادات العالم بأسره؛ ما يحتّم طرحَ التساؤلات عن إمكانيّة استمرار الدول المرتفعة الدخل بالوفاء بالتزاماتها تجاه الدول الفقيرة: ألن تعيدَ ترتيبَ أولويّاتها وتنصرفَ إلى معالجة أزماتها الاقتصاديّة المستجدّة الخاصّة، بسبب الخسائر الهائلة التي نجمتْ عن الإغلاق التامّ الذي فرضه انتشارُ الفايروس، عدا عن الخسائر المرتبطة مباشرةً بالفايروس في الأرواح والإمكانات الطبّيّة وغيرها؟ وهذا الأمر سيؤدّي إلى التراجع في ما تحقّق على مستوى تعميم التعليم، إذ ستجد البلدانُ المنخفضةُ الدخل نفسَها أمام صعوبة تمويليّة تعرقل الاستمرارَ في محاولاتها تأمينَ التعليم لجميع أبنائها. فبحسب تقرير اليونسكو لرصد التعليم 2020، لم يتّخذ زهاء 40% من هذه البلدان، والشريحة الدنيا من البلدان المتوسّطة الدخل، "أيَّ تدابير لدعم المتعلّمين المعرَّضين لخطر الاستبعاد خلال الأزمة الناجمة عن الجائحة..."[13]

 

لم تولِ إجراءاتُ التصدّي للأزمة الناجمة عن كوفيد-19 اهتمامًا كافيًا لمسألة شمول جميع المتعلّمين

 

ولكنّ الأمر لا يقتصر على مسألة التمويل، وإنّما يتجاوزها إلى إمكانيّة التعليم خلال فترة انتشار الوباء التي لا تزال مستمرّةً. فقد عرّت هذه المرحلةُ العديدَ من أنظمة التعليم في العالم، وبخاصّةٍ في الدول المتوسّطة والمنخفضة الدخل، بسبب الاعتماد الكامل على تكنولوجيا التعليم عن بُعد. "فالنهوج القائمة على التكنولوجيا تنطوي على تحدّيات؛ فهي تتطلّب عادةً استثمارًا كبيرًا مسبّقًا، وليس لدى جميع الفئات المستهدَفة ما يكفي من الكهرباء وإمكانيّةِ الاتصال الإلكترونيّ."[14] وهذا ما يُظهره تقرير 2020 الذي جاء فيه:

"لم تولِ الإجراءاتُ التي اتُّخذت للتصدّي للأزمة الناجمة عن جائحة كوفيد-19...اهتمامًا كافيًا لمسألة شمول جميع المتعلّمين. فقد اعتَمدتْ نسبةُ 55% من البلدان المنخفضة الدخل أسلوبَ التعلّم عن بعد عبر الإنترنت في التعليم الابتدائيّ والثانويّ، بينما لا يملك سوى 12% من الأُسر المعيشيّة في أقلّ البلدان نموًّا اتصالًا بشبكة الإنترنت في المنزل. ولا يمكن حتى للنهوج القليلة الاعتماد على التكنولوجيا أن تَكفلَ استمراريّةَ التعلّم. فلا يملك سوى 7% من بين أفقر 20% من الأسَر المعيشيّة في أثيوبيا مذياعًا، ولا يملك أيٌّ منها تلفازًا..."[15]

وواقعُ الحال أنّ الكهرباء، وهي الشرطُ الأول لاستخدام التكنولوجيا التعليميّة، لا تزال منقطعةً عن قسمٍ كبيرٍ من المدارس. فعلى الصعيد العالميّ، "جُهّزتْ بالكهرباء 52% من المدارس الابتدائيّة، و67% من المدارس الإعداديّة في عام 2016. وفي البلدان المنخفضة الدخل، بلغتْ تلك المعدَّلاتُ 15% في المدارس الابتدائيّة و35% في المدارس الإعداديّة."[16]

هذا من ناحية الدول التي تعاني الفقرَ والأزمات الاقتصاديّة. أمّا في الدول التي تعاني النزاعاتِ المسلّحة والحروب، فإنّ الواقعَ أكثرُ سوداويّة. ففي اليمن نحو "مليونيْن و500 ألف طفل يمنيّ أصبحوا خارج المنظومة التعليميّة منذ بدء الحرب عام 2015. وهناك أكثرُ من 2500 مدرسة لا تعمل، إذ دُمِّر حوالي ثلثيْها، وأغلق 27% منها، وتُستخدم 7% في أغراض عسكريّة أو لإيواء النازحين."[17] وتوقّعت اليونسكو أن لا يتمكّن 7.8% من الأطفال في سنّ الدراسة من الالتحاق بالمدرسة في السنوات القادمة إذا لم يحصلوا على المساعدة.[18] يُضاف إلى ذلك كلّه ما يفرضه انتشارُ الوباء المستجدّ من قيودٍ على فتحِ ما تبقّى من مدارس، وما يتطلّبه من إجراءاتٍ وقائيّةٍ مكلفة؛ ما يضع اليمنَ في أسوأ حالٍ بين دول العالم. كما تعاني سوريا أيضًا صراعاتٍ مسلّحةً شرّدتْ ملايينَ الأطفال، وحرمتهم الوصولَ إلى تعليم جيّد.

 

3 - تعميم التعليم الجيّد وتكافؤ الفرص إلى تراجع

أمام هذا الواقع المأزوم، يبدو أنّ تحقيقَ الهدف الرابع ليس بعيدَ المنال فحسب، وإنّما ما تحقّق على مستوى تعميم التعليم في السنوات السابقة مهدَّدٌ هو أيضًا بالتراجع بشكلٍ دراماتيكيّ.

من جهة أخرى عمّقتْ أزمةُ انتشار الوباء التفاوتَ الاجتماعيَّ بين مكوِّنات المجتمعات. فتأمينُ مستلزمات التعليم عن بُعد أمرٌ شبهُ مستحيل للأسَر الفقيرة أو المتوسّطة الدخل. ففي حين تمكّنت الأسرُ الغنيّةُ في لبنان، على سبيل المثال، من تأمين جهاز لابتوب أو جهاز لوحيّ، مع إمكانيّة الاتصال بشبكة الانترنت بنوعيّةٍ وسرعةٍ عاليتَي الجودة، كانت الأسرُ المحدودةُ الدخل مجبرةً على استخدام هاتفٍ ذكيٍّ واحدٍ لكافّة المتعلمين في الأُسرة، وفي أوقات محدّدة غالبًا عند عودة الأب من العمل؛ أيْ في وقتٍ لا يتناسب مطلقًا مع أوقات التركيز المناسبة للتعلّم. وهذا ما أقصاهم قسرًا عن التعلّم، وبالتالي قد يجبَرون لاحقًا على الانقطاع الكامل عن التعليم لصعوبة متابعتهم الدرجاتِ التعلميّةَ الأعلى.

بعد أن كان تعميمُ التعليم الجيّد هدفًا عالميًّا، أصبح هدفًا في مرمى جائحة كوفيد-19، التي لا تزال تستعر وتحصد آلافَ الضحايا وتعطّل العمّال وتُبعد الأطفالَ عن المدارس وتمنعهم حقَّهم في التعليم الجيّد. عسى أن يرأف اللهُ بالبشريّة من خلال اللقاحات الجديدة.

منيارة

 


[1] إبراهيم العبدالله، الإصلاحات التربويّة لمواجهة العصر وتحدّيات المستقبل (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2004)، ص 129-130.

[2] اليونسكو، الإعلان العالميّ حول التربية للجميع (جومتين، 1990).

[3] إبراهيم العبدالله، مرجع سابق، ص 131-134.

[4] اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم، https://ar.unesco.org/gem-report/node/2

[5] اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم 2016: التعليم من أجل الناس والكوكب: بناء مستقبل مستدام للجميع (باريس: اليونسكو، ص 6).

[6] المرجع نفسه.

[7] اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم 2019: الهجرة والنزوح والتعليم: بناء الجسور لا الجدران (باريس: اليونسكو، 2019)، ص 128.

[8] المرجع نفسه، ص 126.

[9] اليونسكو، ملخّص التقرير العالميّ لرصد التعليم 2020: التعليم الشامل للجميع: الجميع بلا استثناء (باريس: اليونسكو، 2020)، ص 28.

[10] المرجع نفسه، ص 10.

[11] اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم 2019، مرجع سابق، ص 126.

[12] اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم 2019،مرجع سابق، ص 127.

[13] اليونسكو، ملخص التقرير العالمي لرصد التعليم 2020، مرجع سابق، ص 11.

[14] اليونسكو، التقرير العالميّ لرصد التعليم 2019، مرجع سابق، ص 211.

[15] اليونسكو، ملخّص التقرير العالمي لرصد التعليم 2020، مرجع سابق، ص 17.

[16] نفسه.

[17] بلال الشقاقي، "التعليم في اليمن ... مأساة لا تخلو من الأمل،" موقع الجزيرة، 26/11/2019.

[18] زيد المحبش، "التعليم في اليمن أوجاعٌ لا تنتهي،" موقع شبكة النبأ المعلوماتيّة، نشر بتاريخ 24/10/2020.

رولا ميشال بردقان

باحثة في علم اجتماع التربية. نالت الدكتوراه في العام 2017، ونشرت الأطروحة في العام 2019. تعمل في قطاع التعليم الرسميّ الأساسيّ منذ العام 1997.