التطبيع الثقافي: التعريف، المخاطر، القانون، المعايير، الذرائع، المسؤولية*
12-10-2017

 

تتناول مداخلتي التطبيعَ الثقافيّ. لكنْ أجد لزامًا عليّ، بحكم وجودي للمرّة الأولى في بدنايل، أن أعرّف قليلًا بحملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان، وبمبادئ عملها.

1) انطلقتْ الحملة عقب مجازر جنين، رسميًّا، ربيعَ العام 2002. وهي حملة غير رسميّة، تعتمد معلوماتٍ موثّقة تفضح تواطؤَ شركاتٍ معيّنةٍ مع الكيان الصهيونيّ. تتألّف الحملة من متطوّعين، لا متفرِّغ بينهم، يجمعهم هدفٌ واحد: الإسهامُ في عزل الكيان الصهيونيّ على طريق زواله.

2) حملتُنا لا تعترف بشرعيّة كيان العدوّ. وكلُّ ذكرٍ لكلمة "إسرائيل" في هذه المداخلة، وفي كلّ أدبيّات الحملة، يحيل على الكيان الصهيونيّ اللاشرعيّ الغاصب.

3) المقاطعة ومناهضةُ التطبيع ليستا بديلًا من المقاومة المسلّحة، بل كلُها آليّاتٌ مشروعةٌ للتحرير. لكنّ المقاومة المسلّحة من صنع قلّةٍ شبابيّةٍ في الأغلب، أمّا المقاطعة ومناهضة التطبيع فيُفترض أن تكونا أوسعَ جمهورًا.

4) الحملة تدعو إلى مقاطعة كلّ شيء إسرائيليّ، وذلك بموجب مبادئنا الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، وكذلك بموجب قانوننا الصادر سنة 1955، الذي سنذكره لاحقًا.

5) أملُ الحملة أن يقاطعَ اللبنانيون وغيرُهم كلَّ شيء غير إسرائيليّ إنْ كان يَدعم "إسرائيل." لكنْ، في حال تعذُّرِ ذلك، فإنّها تقترح مبدأيْن عمليّيْن: أ) قاطعوا ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا. ب) قاطعوا الأسوأ قبل السيّئ. [1]

6) معيارنا للمطالبة بمنع أيّ منتوج استهلاكيّ أو ثقافيّ إسرائيليّ هو: "قانون مقاطعة إسرائيل." أما معاييرُنا لطلب مقاطعة أيّ شركة داعمة لـ"إسرائيل" فأبرزُها: 1) بناؤها لمصانعَ و"مراكزِ بحثٍ وتطوير" في أراضٍ "طُهّرتْ" من الفلسطينيين. 2) شراؤها لشركاتٍ إسرائيليّةٍ أو لأسهمٍ فيها. 3) تقديمُها دعمًا ماليًّا مباشرًا إلى جمعيّات "خيريّة" وصهيونيّة.[2]

7) معركتُنا مع "إسرائيل" وداعميها تشمل القيمَ الأخلاقيّةَ والإنسانيّة. ولهذا فحملتُنا لا تواجه العنصريّةَ والطائفيّةَ بعنصريّةٍ وطائفيّةٍ مضادّتيْن.

8) معركتُنا مع "إسرائيل" معركة ثقافيّة وأكاديميّة وإعلاميّة وفنّيّة، لا عسكريّة واقتصاديّة فقط. و"إسرائيل" هي أكثرُ مَن يدرك ذلك؛ ولهذا تَجْهد في طمس وجهها الدمويّ من خلال إبراز وجوهها العلميّة والفنّيّة والأكاديميّة و"الإنسانيّة" (خصوصًا الداعمة لحقوق المهمَّشين والأقليّات).[3] ومن هنا فإنّ الدعوة إلى مقاطعة أيّ مشاركةٍ فنيّة أو ثقافيّة عالميّة في "إسرائيل" هي دعوةٌ من أجل صون الفنّ والثقافة من الاستغلال الإسرائيليّ.[4]

 

التطبيع: التعريف والهدف

التطبيع هو السعيُ إلى ترويض عقولنا على تقبّل الفكرة الآتية: لا إمكانيّةَ لعيشنا إلّا بقبول القامع وشروطِه. وهذا التقبّل ناجمٌ عن قناعتنا بأنّ القامع أقوى منّا الآن، وربّما إلى الأبد؛ أو هو ناجمٌ عن جهلِنا بلحظاتِ قوةٍ وفَخارٍ وانتصارٍ في تاريخنا القديم أوالحديث.

ويتفاقم خطرُ هذا التفكير إلى حدّ اعتبار القمع الذي نتعرّض له أمرًا "طبيعيًّا،" لا مجرَّدَ استسلامٍ للواقع. وقد يذهب بعضُنا إلى القول بأنّنا "نستحقّ" هذا القمعَ لعلّةٍ فينا، في "عقلنا العربيّ" أو تاريخنا أو ديننا أو تركيبتنا الاجتماعيّة.

في هذه الأثناء، يواصل القامعُ قمعَه، ولكنّه يسعى ـ ـ بالتوازي مع ذلك ـ ـ إلى تلميع صورته، بحيث يبدو: حارسًا لقيم الحداثة، ومنقِذًا من الضلال، وقاطرةً لتحرير الشعوب الضعيفة. هنا يحرص القامعُ على "الحوار" مع المقموع بهدف تشريبه قيمَه "الإنسانيّة"؛ أيْ إنّه يحاول ألّا يفرضَها عليه بالقوّة بل بأسلوب الندوات ووِرش العمل المشتركة، كي تصبح في النهاية مذوَّتةً (internalized)، راسخةً في ذات المقموع بشكلٍ آليّ، بحيث يستطيع المقموعُ "المقتنعُ حديثًا" أن ينشرَها بين المقموعين الآخرين وفي العالم.

هل من نتائجَ إيجابيّةٍ يحصدها المقموعُ من هذا الحوار أو التطبيع؟

أحيانًا يحصل المقموعُ على بعض المكاسب، لكنّها مكاسبُ لا تغيّر كثيرًا في بنية القمع نفسِها. فقد يحصل على سلطةٍ ذاتيّةٍ يدير بها "أحياءَه" أو "مَعازله": فينظّمُ السيرَ، ويقمعُ المخالفات، ويَجْمع الزُّبالة، ويوزِّع على أزلامه ما غنِمه من فُتاتِ "سلامِه" مع القامع. وقد يحصل على فرص السفر إلى "الغرب الحضاريّ" بمعيّة القامع، حيث يتحدّثان عن "همومٍ مشتركة" مثل: مقاومة الذكوريّة في "المجتمعيْن،" أو تأمين "عدالة انتقاليّة" تفيد المقموعَ قليلًا في تسيير شؤونه اليوميّة من دون أن تؤثّر في القامع البتّة. وفي المحصّلة، تكون نتيجةُ التطبيع: طمسَ القمع الأصليّ، وإدامتَه، وقبولَ المقموع به، بل تبريرَه.

 

التطبيع والقانون

بعد أن اطّلعنا على منطق التطبيع وخطره، من المفيد أن نَعْلم أنّ مقاومتَنا إيّاه عملٌ يَكفله القانونُ اللبنانيّ، بل يَفرضه أيضًا. والقانون المقصود هو "قانون مقاطعة إسرائيل،" الصادرُ عن جامعة الدول العربيّة سنة 1955، وتبنّاه لبنانُ وما يزال. وهو ينصّ في مادّته الأولى بشكلٍ صريحٍ على الآتي:

"يحظَّر على كلّ شخصٍ، طبيعيٍّ أو معنويّ، أن يَعْقد، بالذاتِ أو بالواسطة، اتّفاقًا مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ، مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيّتهم، أو يعملون لحسابِها أو لمصلحتها، وذلك متى كان موضوعُ الاتفاق صفقاتٍ تجاريّةً أو عمليّاتٍ ماليّةً أو أيَّ تعاملٍ آخرَ مهما كانت طبيعتُه..."[5]

لاحظوا أنّ الكلمات الأخيرة لم تَحْصر الحظرَ بالتعامل التجاريّ فقط، وإنْ لم يرِدْ بالحرف ذكرُ أنواع التعامل الأخرى. والسبب، بحسب أستاذ القانون د. عصام نعمة إسماعيل، أنّه لم يكن "في واردِ أيّ لبنانيّ أو عربيّ" آنذاك "أن يَقبلَ بإسرائيل أو أن يقيمَ أيَّ تعاونٍ ثقافيٍّ أو حضاريٍّ أو فكريٍّ" معها، وإنّما كانت الخشيةُ محصورةً في أن يَعمد بعضُ "محبّي جمع الأموال" إلى إبرام "صفقاتٍ تجاريّةٍ مع أشخاصٍ أو شركاتٍ تحمل الجنسيّةَ الإسرائيليّةَ..."[6]

انطلاقًا من روح هذا القانون، اقترحنا في حملة المقاطعة في لبنان تعديلَه قليلًا، أو بالأحرى توضيحَه، لجهة النصّ صراحةً على حظر أشكال التعامل الفنيّة والثقافيّة والأكاديميّة والمهنيّة مع العدوّ، وعبر الوسائل التكنولوجيّة والإلكترونيّة والإعلاميّة التواصليّة كافّةً.[7] كما اقترحنا إضافةَ تعديل يفيد استثناءَ فلسطينيّي 1948 من المقاطعة ما داموا لا يعملون جسرًا للتطبيع مع العدوّ. لكنّ المسألة الأخيرة تحتاج إلى كلامٍ خاصّ نورده لاحقًا.

الخلاصة في المسألة القانونية من التطبيع: القانون اللبنانيّ في روحيّته، بل قانونُ جامعة الدول العربيّة كلِّها، ضدّ التعامل من أيّ نوعٍ كان مع "إسرائيل." ومن المهمّ أن نستندَ إلى ذلك القانون، الذي يجرِّم، بموجب مادّته السابعة، كلَّ مَن يخرقه، بعقوباتٍ أهمُّها "الأشغالُ الشاقّة الموقّتة من ثلاث إلى عشر سنوات" ـ ـ [8] بدلًا من أن نستندَ إلى قانون العقوبات، المادّة 285، التي لا تخصّ العدوَّ الإسرائيليَّ بشكلٍ صريح.[9]

 

التطبيع مع "إسرائيل": اختلافٌ وتقاطعٌ في المعايير

قبل عشر سنوات، أقرّ ممثّلو الأحزاب والهيئات الشعبيّة والنقابيّة في فلسطين وثيقةً تطرح الحدودَ الدنيا في تعريف التطبيع بهدف عزل الكيان الصهيونيّ دوليًّا. فاقتصرتْ معاييرُها على كلّ ما يَضربُ "الحقوقَ الفلسطينيّة غيرَ القابلة للتصرّف" بموجب القانون الدوليّ، وتحديدًا: "الحقّ في تقرير المصير، بما فيه حقُّ اللاجئين في العودةِ والتعويضِ طبقًا لقرار الأمم المتّحدة رقم 194، وكافّة القرارات المتعلّقة بعروبة القدس وبعدم شرعيّة الاستيطان..." وعليه، فقد عرّفت التطبيعَ بالآتي:

"إنّه المشاركة في أيّ مشروعٍ... مصمَّمٍ خصّيصًا للجمع... بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أو مؤسّسات)، ولا يهدف صراحةً إلى مقاومة أو فضحِ الاحتلال وكلِّ أشكالِ التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطينيّ. وأهمُّ أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلميّ أو الفنّيّ أو المهنيّ أو النسويّ أو الشبابيّ، أو إلى إزالة الحواجز النفسيّة. وتُستثنى من ذلك المنتدياتُ والمحافلُ الدوليّة التي تُعقد خارج الوطن العربيّ [و]يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين..."[10]
غير أنّ هذه المعايير، على كونها طرحًا متقدّمًا بالنسبة إلى السياق الدوليّ، قد لا تنسجم مع معايير لبنان. فوطنُنا معادٍ لـ"إسرائيل" منذ نشوئها، وله قانونٌ يحظِّر التعاملَ معها، ويعاقب مَن يَخرق ذلك بالسجن والأشغال الشاقّة كما رأينا، وألغى في الثمانينيّات من القرن الماضي اتفاقَ 17 أيّار معها، وطردها من غالبيّة الأراضي اللبنانيّة التي احتلّتها، بل تعهّدت المقاومةُ بالدخول إلى الجليل في حال حصول أيّ اعتداءٍ إسرائيليّ جديد على لبنان. ومؤخّرًا نصح أمينُ عام حزب الله، السيّد حسن نصر الله، الصهاينةَ بمغادرة فلسطين "إلى البلدانِ التي جاءوا منها، حتى لا يكونوا وَقودًا في أيّ حربٍ تأخذهم إليها حكومةُ نتنياهو الحمقاء..."[11]

لذلك كلّه، تدعو حملتُنا إلى رفض المشاركة مع أيّ إسرائيليّ محتلّ، في أيّ مشروعٍ مشترك. وتدعو أيضًا إلى عدم  حصر رفضنا هذا بـ"المؤسّسات الإسرائيليّة" المتواطئة مع الاستعمار الإسرائيليّ (على ما جاء في معايير رفاقنا في فلسطين) لأنّ كلَّ المؤسّسات الإسرائيليّة، في رأينا، تُسهم في إدامة الاحتلال بطريقةٍ أو بأخرى. بل إنّ حملتَنا لا تَحْصر مسؤوليّةَ الاحتلال بالمؤسّسات الإسرائيليّة وحدها، بل تحمِّل الأفرادَ (باستثناء الأطفال) الذين يحتلّون أراضي الفلسطينيين أو منازلَهم المسؤوليّةَ أيضًا.
إنّنا نتفهّم جيّدًا دواعي المرونة في الحملة الفلسطينيّة الشقيقة، وهي مرونةٌ ينبغي الإقرارُ بأنها أفضت إلى إنجازاتٍ عالميّةٍ كبرى لا سابقَ لها، وخصوصًا على صعيد الجامعات والنقابات والكنائس والبلديات. غير أنّ حملتَنا في لبنان، وللاعتبارات السابقِ ذكرُها، تتبنّى تعريفًا أعلى سقفًا، فتعرِّف التطبيعَ بأنّه: المشاركة في أيّ نشاطٍ يَجمع بين عربٍ وإسرائيليين ما دامت "إسرائيلُ" قائمةً.

وينطبق هذا على كلّ أشكال "التعاون" العلميّ أو المهنيّ أو الفنّيّ أو النسويّ أو الشبابيّ. كما ينطبق على إجراء المقابلات مع وسائل إعلام العدوّ أيًّا كانت. غير أنّه يُستثنى من ذلك، طبعًا، فلسطينيّو العام 1948، ما لم يروج بعضهم للتطبيع مع العدو.[12]

 

فلسطينيو 48

وهنا تُطرح  المسألةُ الأكثرُ تعقيدًا في مجال التطبيع، ألا وهي وضعُ أهلنا داخل فلسطين المحتلّة عام 48، أيْ أهلِنا الذين بقُوا في بلداتهم وقراهم بعد إنشاء دولة "إسرائيل." فهؤلاء يواجهون نوعيْن من التطبيع: قسريًّا وإراديًّا. التطبيع القسريّ هو اضطرارُهم إلى العمل اليوميّ في ظروف الاحتلال المتواصلة منذ سبعة عقود، واضطرارُهم إلى استخدام الخدمات الإسرائيليّة العامّة (من مستشفياتٍ ومدارسَ وجامعات الخ...). أما التطبيع الإراديّ فهو ما يمارسه بعضُهم على غير اضطرار، من قبيل التطوّع لتمثيل "إسرائيل" في منتدياتٍ أو مهرجاناتٍ دوليّة.

بحسب معايير "الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة لإسرائيل" (pacbi)، فإنّه لا يمكن أن نطالِبَ شعبَنا في فلسطين المحتلّة عام 48 بوقف التطبيع القسريّ فورًا. فالخِدمات، من صحّةٍ وتعليمٍ وغير ذلك، "تُعتبر حقًّا لفلسطينيّي 48 كدافعي ضرائب."[13]  كما أنّ الحملة الفلسطينيّة لا تَعتبر تلقّي المثقّفين والفنّانين الفلسطينيين داخل 48 تمويلًا رسميًّا إسرائيليًّا من قبيل التطبيع، إلّا إذا كان هذا التمويلُ مشروطًا بدعم "إسرائيل" (كما هي الحال في السنوات الأخيرة). غير أنّ الحملة الفلسطينيّة تَرفض التطبيعَ الإراديّ،  من قبيل تمثيل "إسرائيل" في الخارج، لانّ ذلك بمثابة تقديم "أوراق توتٍ" للتغطية على جرائمها ومؤسّساتها المتواطئة.

لذا دعت الحملة الفلسطينيّة المثقّفين والفنّانين في فلسطين 48 إلى "التحرّر التدريجيّ والمدروس" من الدعم الإسرائيليّ في المجال الثقافيّ كأولويّة. ولكنّها دعت، في موازاة ذلك، إلى "تكثيف الجهود الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة لزيادة تمويل الإنتاج الثقافيّ لفلسطينيّي 48..."[14]

أما في لبنان، فمعاييرُ حملة المقاطعة لا يمكن إلّا أن تختلفَ نوعًا ما، وذلك بحكم غياب الاحتلال الإسرائيليّ المباشر، ووجودِ مقاومةٍ مسلّحةٍ قويّة، ولأنّ قانونَ المقاطعة ما زال ساريًا كما رأينا. ولذلك، وعلى الرغم من تفهّم حملة المقاطعة في لبنان لحالة الحصار الماليّ الذي يعانيه الإنتاجُ الثقافيّ والفنيّ داخل فلسطين 48 عامةً، فإنّها لا يمكن أن توافقَ، مثلًا، ومن حيث المبدأ، على أن يُعرضَ في لبنان اليوم فيلمٌ حديثٌ مُموَّلٌ إسرائيليًّا، بصرف النظر عن مضمونه؛ ذلك لأنّ هذا الفيلم سيَعرض أسماءَ الجهات المموِّلة في نهايته، وستَظهر "إسرائيل" راعيةً للفنّ ولتعدّد الآراء![15]

وتبقى مسألةُ الزمن محكًّا مهمًّا في تقدير الموقف. فثمّة مخرجون وفنّانون فلسطينيون في فلسطين المحتلّة عام 48 قبلوا التمويلَ الإسرائيليّ قبل سنواتٍ أو عقودٍ بسبب استحالة أو صعوبة تأمين مصادر أخرى كما يقولون، ثم توقّفوا عن قبوله بعد تأمين هذه المصادر. اليوم، بل منذ سنوات، لم يعد تمويلُ الإنتاج الثقافيّ والفنيّ الفلسطينيّ داخل 48 محصورًا بالجانب الإسرائيليّ. وزاد الطينَ بلّةً ان العدوّ بات يَطْرح شروطًا سياسيّةً لهذا التمويل، ما سينفِّر فلسطينيين كثيرين ويدفعهم إلى رفض التمويل الإسرائيليّ. ومع الوقت والجهد والإصرار والمتابعة الوطنيّة الحريصة، نأمل أن يزدادَ الدعمُ الماليّ الفلسطينيّ، من خارج 48 ومن داخل 48 أيضًا، وأن يزداد الدعمُ العربيُّ والدوليّ، لهذا الإنتاج الفلسطينيّ؛ علمًا أنّ الأرقام التي وصلتنا عن التمويل الإسرائيليّ له تفيد بشحّته المذهلة (راجعوا دراسة هشام نفّاع في العدد القادم من الآداب)، وبالقدرة من ثمّ على الاستغناء عنه وإيجادِ مصادرَ بديلةٍ من دون الصعوبات السابقة الكبرى. وثمّة اليومَ تجاربُ فنيّة ومسرحيّة فلسطينيّة داخل فلسطين 48 استغنت تمامًا عن أيّ تمويلٍ إسرائيليّ، ما يؤكّد أنّ هذا التمويل ليس قدرًا محتومًا إلى أبد الآبدين.

 

ذرائع التطبيع الفنّيّ والثقافيّ

نأتي الآن إلى الحجج التي يطلقها كثيرون من أجل تبرير التواصل مع الفنّانين والمثقّفين والأكاديميين والعلماء الإسرائيليين. وهي كالآتي:

أ ـ التطبيع ضرورة وطنيّة تحتّمها معرفةُ العدوّ. كلّما تحدّثنا عن "مقاومة التطبيع الثقافيّ" انبرى البعضُ لإطلاق شعار "اعرفْ عدوَّك،" وكأنّ الشعاريْن متناقضان.

الحقّ أنّ بإمكاننا معرفةَ عدونا، بل مِن واجبنا معرفتُه، ثقافيًّا وأكاديميًّا وسينمائيًّا الخ...، لكنْ من دون الاحتكاكِ به مادّيًّا، ومن دون فرضِه على الفضاء اللبنانيّ والعربيّ العامّ رغمًا عن أنف القانون والشهداء والتاريخ.[16] نستطيع، مثلًا، أن  نتعرّفَ إلى إنتاج العدوّ مقرصَنًا، أو عبر اليوتيوب، وليس من خلال دعوته إلى بلادنا، أو السماحِ له (أو لناشره أو منتِجِه أو موزّعِه) بالاستفادة من أموالنا. بل المسألة تتعدّى الاستفادة الماليّة؛ ذلك لأنّ قبولنا بالاحتكاك المباشر بالأكاديميين والمثقفين والمحامين والعلماء والفنّانين والأطبّاء الإسرائيليين هو بمثابة رسالةٍ إلى العالم تقول إنّ شعوبَنا تفْصل بين "الجيش" الإسرائيليّ الذي قتلها وهجّرها، وبين "مؤسّساته" الجامعيّة والقانونيّة والثقافيّة والعلميّة والطبّيّة. وهذا مخالفٌ للواقع والمنطق.

خذوا الجامعاتِ الإسرائيليّة أوّلًا. فهذه الجامعات تُسهم في الاحتلال والقمع من خلال أمورٍ عديدة، أكثرُها مباشرةً هو دعمُ الجيش الإسرائيليّ. فمعهدُ تخْنيون التقنيّ طوّر أنظمةً قتاليّةً، ويضمُّ أكبرَ نسبةٍ من الطلّاب العاملين في احتياطيّ الجيش، فضلًا عن مهندسين معماريين بنوْا جدارَ الفصل العنصريّ. وجامعة تل أبيب صَمّمتْ عشراتِ الأسلحة، وتضمّ "معهدَ دراسات الأمن القوميّ،" صاحبَ نظريّة "القوة غير المتوازنة" الداعيةِ إلى "تدمير البنية التحتيّة [المدنيّة] وإنزالِ أشدِّ أنواعِ المعاناة في حقّ الشعب [المدنيّ]." وجامعةُ حيفا أيّدتْ عمليّةَ "الرصاص المصبوب" ضدّ غزّة (2008 ــــ 2009)، وأستاذُ الجغرافيا فيها هو الذي اخترع فكرةَ الجدار العنصريّ، وهو صاحبُ قول: "إذا كنّا نريد أن نبقى على قيْد الحياة فعلينا أن نَقتلَ ونَقتلَ ونَقتلَ طوالَ اليوم، كلَّ يوم..." كما أنّ هذه الجامعات نفسَها  تزوّد المحاكمَ العسكريّةَ، المشاركة في جريمة قمع الشعب الفلسطينيّ ومقاوميه، بمتخرّجي القانون.[17]

أمّا المؤسّسات الطبّيّة الإسرائيليّة فتضمّ أطبّاءَ إسرائيليين يشْرفون على تعذيب الفلسطينيين، وذلك بحسب الدكتور يوران بلاشار، الرئيسِ السابقِ للجمعيّة الطبّيّة الإسرائيليّة، والدكتور إيران دوليف، رئيسِ قسم "الأخلاقيّات" فيها![18]

وفي إطار اعتبار التطبيع مع العدوّ "ضرورةً وطنيّةً،" يأتي كلامُ البعض عن لزوم الحوار مع وسائل الإعلام الإسرائيليّة من أجل "اختراق الوعي الإسرائيليّ." غير أنّ الإسرائيليّ لا ينتظر هذا المثقفَ العربيَّ أو ذاك كي "ينوّرَه" في شأنِ ما ترتكبه دولتُه أمام عينيْه منذ 7 عقود! ثمّ إنّ "الاجتهادَ" الشخصيّ لمثل هذا المثقف أو ذاك يؤثّر سلبًا في حركة المقاطعة العالميّة، أيًّا حسُنتِ النيّة، ويعزِّز كذبةَ ديمقراطيّة الإعلام الإسرائيليّ.

ب ـ  التطبيع ضرورة فنيّة. هنا نتذكّر، بشكل خاصّ، ذرائعَ المُخرج زياد دويري لتصوير فيلمه (الصدمة) طوال 11 شهرًا في تل أبيب، وهي تكاد تَجمع كلَّ مبرِّرات التطبيع الثقافيّ أو الفنيّ:

1) الفنّ يتطلّب عرضَ "الروايتين" ــ ــ وكأنّ الرواية الفلسطينيّة، المشبعةَ بالعدالة والمظلوميّة والثورة، يمكن أن توازي الروايةَ الإسرائيليّة، القائمة على الظلم والتزوير والتهجير.

2) الضرورة الفنّيّة هي التي "تحتِّم" أن يذهب الفنّانُ إلى كيان العدوّ، وأن يستعينَ بممثّلةٍ إسرائيليّة لأنّها "قبلتْ أن تتعرّى" في الفيلم ــ ــ وكأنّ على مخرجي أفلام الخيال العلميّ عن سطح القمر أن يسافروا إلى القمر، أو كأنّه يستحيل على دويري إيجادُ نساءٍ غيرِ إسرائيليّات "يَقْبلن التعرّي."[19]

3) الفنّان "لا يُسأل" عن أساليبه ــ ــ والحقّ أنّ الفنّان هو أكثرُ مَن ينبغي أن يُسأل لأنه يُفترض أن يَحملَ مسؤوليّةً اجتماعيّةً وسياسيّةً تفوق مسؤوليّاتِ غيرِه من البشر!

ج ـ التطبيع ضرورة إنسانيّة. المرء، بحسب منطق التطبيع، لا ينبغي أن يكونَ ضدَّ الأديان والأعراق "الأخرى." هنا يتعمَّد المطبِّعون، أمثال دويري، إظهارَ خصومهم وكأنّهم ضدّ التواصل مع "اليهود" كأتباع ديانة سماويّة، لا ضدّ التطبيع مع "إسرائيل" ككيان احتلاليّ تهجيريّ دمويّ. [20]

وهنا لا يتردّد المطبّعون أحيانًا في التبجّح بأنّ مَن يطبّعون معهم "إسرائيليّون يساريّون،" وكأنّ الهويّة الإيديولوجية تَنْزع عن المحتلّ صفةَ الاحتلال.[21]

ج ـ التطبيع ضرورة ثقافيّة وأكاديميّة. هنا يشدّد التطبيعيون على أنّ "العالم قرية كبيرة" وأنّه مليء بالإسرائيليين، وأنّ المؤتمرات العالميّة تحديدًا تضمُّ إسرائيليين. ويتساءلون بتذاكٍ: هل تريدوننا، أيّها المقاطِعون، أن ننقطع عن العالم؟

المطبِّعون يجهلون أو يتجاهلون أنّ العالمَ يتغيّر. فنحن اليوم أمام "مجتمع دوليّ جديد" إذا جاز التعبير، بدأ منذ أعوامٍ يعمل على مقاطعة "إسرائيل" وسحبِ الاستثمارات منها ما دامت تحتلّ أراضيَ عربيّةً من العام 67 وتمارس التمييزَ العنصريّ داخل فلسطين 48 وتمنع الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم بموجب القرار الأمميّ رقم 194. وهذا المجتمع الدوليّ الجديد ماثلٌ في مئات النقابات والكنائس والاتحادات الطلّابية والجمعيّات الأكاديميّة والبلديّات والعاملين في صناديق التقاعد، وكلّها تبنّى "نداءَ" المقاطعة الصادر عن غالبيّة منظّمات المجتمع الأهليّ الفلسطينيّ صيف العام 2005،[22] إلى حدّ أنّ الرئيس الإسرائيليّ ريفين روفلين اعتبر أنّ إنجازات حملة المقاطعة العالميّة (BDS) "تهديدٌ استراتيجيٌّ من الطراز الأول لإسرائيل."[23]

والمطبِّعون يجهلون أو يتجاهلون أنّ بإمكاننا الذهابَ إلى غالبيّة المؤتمرات العالميّة، إنّما ضمن شروطٍ تمليها علينا واجباتُنا تجاه قانوننا ووطننا وأمّتنا وإنسانيّتنا. فإذا دُعينا إلى مؤتمر عالميّ، فإنّ علينا، قبل الموافقة على الدعوة، أن نتأكّدَ من عدم حصوله على تمويلٍ أو رعايةٍ من السفارة الإسرائيليّة أو من أيّة مؤسّسةٍ إسرائيليّة أخرى، رسميّةً كانت أو خاصّةً. ثم نتأكّد من خلوّ جلستنا من المحاضرين الإسرائيليين؛ وإلّا طلبنا قبل سفرنا نقلَنا إلى جلسةٍ لا إسرائيليين فيها. ثم علينا أن نتجنّبَ الاحتكاكَ بالإسرائيليين هناك، ولو من موقع معارضتهم، رافضين أن "نضعَ خلافاتِنا السياسيّةَ معهم جانبًا" تحت أيّة حجّة؛ ذلك لأنّ "عزلَ الثقافة والفنّ عن السياسة" هو تمامًا ما يريده العدوُّ من أجل تغليف احتلاله البشع بورقٍ علميٍّ وحضاريٍّ لمّاع.[24]

 

خاتمة: المسؤوليّة الفرديّة

إنّ مقاومةَ التطبيع، ومقاطعةَ العدوّ، مسؤوليّة فرديّة، في الأساس، اليوم. وأسبابُ ذلك تعود إلى تضعضع كيانات بعض الدول العربيّة وقوانينِها الخاصّة بالمقاطعة، وإلى تراجُعِ عمل معظم الأحزاب الوطنيّة والقوميّة واليساريّة، وإلى انهيارِ (أو شبه انهيار) جامعة الدول العربيّة التي كانت الناظمَ الرسميَّ العربيَّ للمقاطعة ومناهضة التطبيع.

المسؤوليّة اليوم، إذن، لا يمكن أن تكون على عاتق حملة المقاطعة وحدها، في هذا البلد أو ذاك، بل على عاتق كلِّ مواطن. فكلُّ مواطنٍ ينبغي أن يكون خفيرًا، كما قال ذاتَ يوم الكاتبُ الكبير سعيد تقيّ الدين.

أيّها الحفل الكريم،

أهمُّ ما أطمح إليه، الآن، هو ألّا تخرجوا من هذه القاعة كأنّ شيئًا لم يكن. كان الناشط والأستاذ الجامعيّ الباكستانيّ، الصديق الراحل إقبال أحمد، يقول لطلّابه: "كلَّ ليلةٍ، قبل أن تضعوا رؤوسَكم على المخدّة، اسألوا أنفسَكم: ماذا فعلنا من أجل فلسطين؟!"

تذكّروا قولَ إقبال أحمد كلَّ ليلة، أيّتها الصديقات وأيّها الأصدقاء!

أطمحُ، وخصوصًا من الشباب هنا، أن يتعهّدوا بعدم استهلاك منتوجاتٍ داعمةٍ للعدوّ، وعلى رأسها نسله، وكوكاكولا، وبيبسي كولا.[25]

وأطمحُ من المهندسين والبنّائين ألّا يستخدموا جرّافاتِ كاتربيلر التي جَرفتْ مخيّمَ جنين، وتجرف اليومَ بيوتَ أهلنا ومقاومينا في فلسطين، وقتلت الناشطة الأميركيّة الشهيدة رايتشل كوري.

وأطمحُ من أصحاب الشركات ألّا يوظّفوا شركةَ جي 4 اس التي تدرّب الشرطةَ الإسرائيليّة.

وأطمحُ من أصحاب المدارس ألّا يزوِّدوا مدارسَهم بطابعات هيوليت باكارد وحواسيبِها الداعمةِ للاحتلال والعنصريّة الإسرائيليّة.

وأطمحُ إلى أن تشكّلوا لجانًا، ولو صغيرةً، في كلّ بلدة، ثم تتّصلوا بنا لكي نتعاون معًا على بدء العمل في المدارس والجامعات والمنتديات.

أيّها الحفل الكريم،

كونوا جزءًا من المقاطعة ومناهضةِ التطبيع؛ فلا نجاحَ لهما إلّا بكم.

بدنايل

*النصّ الكامل لمحاضرة رئيس تحرير مجلة الآداب بدعوة من نادي المشعل في بدنايل، قضاء بعلبك، وذلك بتاريخ 6/10/2017.

[1] http://www.boycottcampaign.com/index.php/ar/wathika

(وتحديدًا الفقرات: 1، 2، 8).

[7] المصدر السابق.

[14] المصدر السابق.

[15] المصدر السابق.

[18] المصدر السابق.

[20] المصدر السابق.

[21] المصدر السابق.

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.