كثيرون من مثقّفينا اليوم يستعذبون البكائيّاتِ والتحسّرَ على "وضع العرب." يقولون: ليس لدينا كذا، وليس لدينا كيت، وانظروا إلى الغرب: الرقيّ، والنظافة، والحضارة، والعلم، والجمال، والسلام ...
طيّب، فهمْنا، وبعدين؟
لقد عِبْتم على المثقّف أن يَحمل رسالةً، وسخرتم من الكاتب "الثورجي،" وشجبتم أدبَ الالتزام، وسخطتم على الإيديولوجيا. فماذا كان بديلُكم؟
القرف!
لم تُنتجوا إلّا القرف. بل أنتجتم ما يستتبع القرفَ: فنشرتم مشاعرَ الدونيّة الأبديّة العربيّة، والهوان العربيّ المحتوم.
بعضُكم لم يختلفْ في شيءٍ عن أدنى مراتب المستشرقين، فلم يتورّعْ عن إلصاق تهمة التخلّف بالمسلمين ما داموا على دينهم (وكأنّ الصهاينة والإمبرياليّين كفَرةٌ بالضرورة).
وبعضُكم ذهب في الاتجاه المعاكس، فترحّم على الماضي المجيد، مُعْربًا عن قرفٍ من "عرب اليوم" لا يختلف في حدّتِه عن قرف الفريق الأول.
وفي الحاليْن، غاب التحليلُ الهادئ لأسباب الضعف العربيّ الراهن، ولا سيّما دوْرُ الاستعمار، ودعمُه للكيان الصهيونيّ، ولـ"نُخبٍ" حكمتْ بلادَنا بمزيجٍ من القمع والاستنسابيّة والعشائريّة والزبائنيّة والتبعيّة.
لكنّ القرف، في ذاته، لا يكفي لاستيلادِ النهوض، يا سادة. ولا نخفيكم القولَ إنّنا بتنا نشكّ في أنّكم تريدون لأمّتكم النهوضَ فعلًا، خصوصًا مَن "يحنُّ" منكم اليومَ إلى الاستعمار، ويتوق إلى عودته لاستكمال بناء مقوّمات الدولة العربيّة!
والقرف، بالمناسبة، ليس ضدّ الإيديولوجيا، التي تشتمونها صباحًا ومساءً، وإنّما هو في صميمها، إنْ لم نقل إنّه أحطُّ أنواعها. فهو الحليفُ الأقوى لصنّاع الهزيمةِ والاستنقاع (من عربٍ وغيرِ عرب)، وهو الذي يكرِّس القعودَ ويبرِّره إلى الأبد.
صحيح أنّ عددًا من "مثقفي الرسالة" عزّزوا الظلمَ والقهر، وسوّغوا قمعَ المثقفين والأحرار بشعارات الضرورة والمرحلة والمعركة والوحدة الوطنيّة. لكنْ ماذا كان ردُّكم أنتم؟
ردُّكم كان "رسالةً" من نوعٍ آخر، لا تقلّ بؤسًا: إنّها رسالةُ اليأسِ العميم، والانسحاقِ المطْلق، والاغتراب (الغربة عن البيئة العربيّة والهجرة إلى "الغرب" وقيمِه)، والاعتراب (الهجرة إلى زمنٍ ذهبيٍّ عربيّ لا يمكن استرجاعُه بحَرْفيّته).
ومنعًا لأيّ التباسٍ نقول: وضعُنا مقرفٌ فعلًا، لا ريْب في ذلك. فأغنى بلدٍ عربيّ يدمِّر أفقرَ بلدٍ عربيّ. العدوّ يحجُّ إلى أقطارنا، فيما هو يواصل القتلَ والتهجيرَ والتهويدَ والاستيطانَ في فلسطين. إمارةٌ عربيّة تموّل إنشاءَ خطّ أنابيب لنقل الغاز الإسرائيليّ (الفلسطينيّ المسروق!) إلى أوروبا. مستوى المطالعة والنشر إلى تدنٍّ مريع. معدّلاتُ الفقر إلى صعود. وقائمةُ القرف تطول، ولن تسعَها كلُّ الصفحاتِ والمواقع.
لكنْ، هل "دوْرُ" المثقف هو إطالةُ قائمة القرف، أمْ تعزيزُ عواملِ القيامة؟
وهل مهمّتُه هي توسيعُ مساحةِ العتمة، أمِ البحثُ عن نقاطِ الضوء والإسهامُ في نشرها وتعميمها؟
ونقاطُ الضوء، على قلّتها الظاهرة، مشعّةٌ أيّها السادة، وتستحقّ أن نراهنَ عليها:
مسيراتُ العودة الكبرى عبر سياج غزّة تَدخل أسبوعَها السادس والثلاثين، وهي أكثرُ تصميمًا وإبداعًا وثقةً بالنصر. فصائلُ العمل الفلسطينيّ المسلّح تتوحّد في "غرفةٍ مشتركةٍ" طال انتظارُها، لتصوغَ المعنى الحقيقيَّ والعمليَّ للوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة، بعيدًا عن أوسلو و"عمليّة السلام" الكاذبة. صواريخُ المقاومة الفلسطينيّة تَخترق "القبّةَ الحديديّة" بنسبةٍ تتجاوز 80 في المئة. صواريخُ المقاومة اللبنانيّة تتخطّى المئة والخمسين ألفًا، وهي قادرةٌ على دكّ آخرِ زاويةٍ في الكيان الصهيونيّ. تونس تساوي المرأةَ بالرجل في الميراث. مواطنو المغرب العربيّ ينتفضون ضدّ مُوقِدي الحرب الظالمة الحاقدة على شعبِ اليمن. شعبُ اليمن صامدٌ، يقاتل بأسنانِه وأجسادِه العارية، على الرغم من الجوع والمرض والفقر وجبروت الآلة العسكريّة الذابحة. الإرهاب التكفيريّ ينكفئ عن لبنان وسوريا والعراق، وبعضُ قوى الدعم الخليجيّة العربيّة تتراجع وهي تجرّ أذيالَ الخيبة. حملاتُ مقاطعة "إسرائيل" في العالم والوطن العربيّ إلى تنامٍ واضح، والكوفيّةُ الفلسطينيّةُ باتت رمزَ الأحرار في عشرات البلدان في العالم.
أليست ثمّة ضرورةٌ ملحّةٌ، إذًا، لاسترجاع القاموس "القديم": عن دوْر المثقف، ورسالةِ الثقافة، وأدبِ الالتزام، وثقافةِ الأمل، والتحريرِ الكامل، والوحدةِ العربيّة الشاملة، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي كادت تُدفن تحت ركام ترسانةٍ من المفاهيم والمصطلحات الجديدة؟
أليست ثمّة حاجةٌ لازمةٌ لنبذ المفاهيم والمصطلحات "الجديدة" حين تكون خاليةً من أيّ مضمونٍ ينطوي على القدْر الأدنى من الكرامة الشخصيّة والوطنيّة، مثل: العدالة الانتقاليّة (مع بقاء الاحتلال)، والحوار مع "الآخر" (المحتلّ)، والتسامح (مع المحتلّ)، والسلام (مع المحتلّ)، والاعتراف (بشرعيّة المحتلّ)؟
أليست ثمّة ضرورةٌ عاجلةٌ لمواصلة زمن الاشتباك الثقافيّ، الذي قاده غسان وناجي ومنيف وونّوس وسهيل ودكروب وأنيس صايغ ورضوى عاشور ولطيفة الزيّات ومئاتٌ آخرون، بدلًا من الركون إلى "ثقافة" التطبيع والاستسلام والميوعة والأبراج والشعوذةِ والندْب؟
بيروت