قصة قصيرة

  حين عدتُ من حربهم إلى غرفتي تاركًا قدمَيّ خلفي، كان كلُّ شيء تمامًا كما كان: سريري يلتصق بجدار الغرفة على يمين الشبّاك، وبصعوبةٍ يفسح المجالَ لكرسيٍّ صغيرٍ من خشب أسود، وخزانة، ومنضدة، ولا أحد. لم يمضِ وقت طويل حتّى كانت قناعةٌ قديمةٌ قد حفرتْ...
  لطالما عشقتُ البحر. وعلى الرغم من أنّني لستُ سبّاحةً ماهرة، فإنّني أحبّ الجلوسَ على الشاطئ والاستمتاعَ بألوان الغروب الخلّابة. أمّا رائحة الماء صباحًا فكانت تُشعرني بأنّني في عالم آخر مليء بالحياة والحريّة. ولأنني ترعرعتُ على بعد بضعة مئات من...
    لم أكد أفتحُ عينيّ وأتمطّى بتلذّذٍ حتّى سمعتُ صوتَ ضجّةٍ آتيةٍ من الشارع. كانت الشمس تخترق نسيجَ الستارة المخرّمة، وترمي بظلالها على رفوف المكتبة المعلّقة فوق الجدار. لطالما جعلني هذا المشهدُ أبقى في السرير دقائقَ إضافيّة، أتأمّل تلك التشكيلات...
    فوهةُ مسدَّس لسَعتْ صدغي المُلتهبَ قبل لحظات، فاستفقتُ. لكنْ كيف لي أن أمِّيز فوهةَ مسدّس من بندقيّةٍ، من رشّاش، من أيّ شيء آخر، والظلامُ المُطبِقُ يخيّمُ على المكان كليًّا؟! أفتحُ عينيَّ على اتّساعهما، أو هكذا يخيَّلُ إلي، ولا ألتقطُ أيَّ هيئةٍ...
    كان قلبها ينقبض دومًا حين تلتفُّ خلف المنزل عبر الطريق المرصوف، وصولًا إلى باحة الدار الخلفيّة المفضية إلى الحديقة والتنّور والمستودعات. وهذه المرّة أحسّت بذلك أيضًا، كما لو أنّ القلب يُمسي ــــ فعلًا ــــ عضلةً محسوسةَ الأبعاد، تكبر وتصغر على...
  ابتدأت القصّةُ عندما أردتُ أن أبكي، فضحكتُ. عندها، قال لي أستاذُ الرسم إنّ دالي وبيكاسو هما مَن شوّها الذوقَ البشريَّ للجمال، وجعلاه يستطيل كأفعى ميّتة. وتذكّرتُ عندما تبعتْنا القطّةُ الصغيرةُ من أوتوستراد العدوي، مرورًا بكورنيش التجارة حتّى ساحة...
  "أوعى تاكلوا أو تدقروا السمّاقات!" أكاد أجزم أنّها أكثرُ جملةٍ سمعتُها من جدّتي في مواسم القطاف. لكنْ لا حياة لمن تنادي. كُنّا صغارًا على كلّ شيء، وهذا الصغر كان يجعلنا ننصت إلى الكلام ولا نتقيّدُ به. على العكس، كنّا ننتظر دخولَها المطبخَ القابعَ...
  صفعة في نوبةِ هذيان، أخذتُ أجلد الورقة بقلمي، وهي تتضرّع وتتوسّل. لكنّني لم أتوقّف إلّا عندما صفعتني كلمةٌ انزلقتْ من اللاوعي.   إرهاب مرّت بالمقهى، فساد الصمت. ابتعدتْ، فامتلأتْ جماجمُ الجالسين برائحة عطرها، ثمّ انفجرتْ.   مجاهد! قبل عشرة أعوام...
  أحمد، صديقي في الكلّيّة، إنسانٌ مناضل وذو مبادئ. لا يكفّ عن الصراخ طوال الأسبوع. ما يعجبني في نضاله أنّ شَعره كثيف وينمو بسرعة. لا بدّ له من ارتياد دكّان الحلّاق مرّتين في الشهر على مضض. في ذلك الصباح الخريفيّ، حين كان ينتظر دورَه للتخلّص من كومة...
    في كلّ مرّةٍ تحكي صديقتي عن فتاها الوسيم، أتلهّفُ إلى رؤيته. سيرتُه مثيرة للشغف والفضول والحسد والغيرة. صديقتي الممتلئة قصيرةُ القامة، تشبهُ ناسكًا منتفخَ الأوداج، تسير الهوينى بين صفوف المدرج. تزهو بحبيبها الذي تخبّئ صورتَه بين صفحات الكتب، ولا...
  (إلى سميرة عزّام، صاحبة قصّة "الفلسطينيّ") أخذ يفرك راحتيه بسرعة، كدأبه عندما يعبّر عن سروره، والسعادةُ تفيض من وجهه وحركاتِ جسده: ــــ ستحْضر ابنتي من براغ اليوم، فهيّا إلى المطار! يلّا، دعنا نستفِد من سيّارتك، ونُشْعر البنتَ التي ستزورني لأوّل...
    "شبّيك لبّيك، عبدك بين إيديك. فنجان قهوة تعدِّل به مزاجَكَ؟ أمرُك مطاع. جنّيُّ الأمنيات بين يديْك؟ بماذا يأمرني مولاي؟ أحلى سندويشة، وكأس شاي كرمى لعينيْك!" لعنة الله على هذا العمر. قهوة وشاي وسندويش؟! أهذه أعاجيبي الجديدة!؟ لو عثرتُ على سيّدي...
    "عملي شاقّ جدًّا، أقضي معظمَ نهاري في خلط الإسمنت وحملِه إلى الطيّان. إنّه الشقاءُ بعينه. ورغم ذلك لا أحصل إلّا على القليل. وفاةُ والدي ومرضُ أختي الصغيرة فَرضا عليّ هذا العمل. لن أتركَ أمّي وأختي للجوع. هذا ما عاهدتُ نفسي عليه حين رأيتُ جسدَ...
    البارحة، احتفل عبد الفتّاح بعيد ميلاده للمرّة الخامسة عشرة على التوالي، في المكان ذاته، والعتمة ذاتها. لم يضئ الشموعَ الكثيرة، بل اكتفى ببضع شموع صُنّعتْ محليًّا من القطن والأعواد، وببضع قطراتٍ من الزيت. احترقت الشموعُ فوق طبقٍ صغيرٍ من البرغل،...
    كيف وَجدتْ صورتُه الأخيرةُ طريقَها إلى عينيَّ، فشغلتْني كلَّ يومي، وما بعده من أيّام؟ هل مشت إلى الأوراق المُتكوّمة في درفة الخزانة، ودنت من المكان الذي سأقصده كما دنت ذكرى رحيله؟ أكانت تريدُني أن أحملها وأتملّى فيها حتّى زوغانِ البصر واختناقِ...