يقاس الحضورُ الحضاريّ للأمم بما تمتلكه لغتُها من قدراتٍ تفتح لها أفقَ الإبداع والتطوّر. فكيف السبيلُ إلى إحداث ثورةٍ لغويّةٍ على أساس التخطيط اللغويّ التي تأخذ بها كافةُ الأمم المتقدّمة؟
هذا السؤال كان وراء اختيارنا لملفّ أزمة السياسات اللغويّة في الوطن العربيّ، مع التركيز على الحالة المغربيّة. فالمتأمّل للوضع اللغويّ العربيّ، منذ الاستقلالات الوطنيّة، يقف على واقع الأزمة التي خلقتْها الاختياراتُ اللغويّةُ في المشاريع الوطنيّة، ويلمس حجمَ التبذير الذي واكب هذه المرحلة على مستوى المقدّرات الماديّة والكلفة التخطيطيّة والبيئيّة والنفسيّة.
عاشت اللغة العربيّة على إيقاع تجاذبيْن استنزفا مقدّراتِها. فمن جهة، كان دعاةُ إحلال العربيّة المكانة الأسمى في الاختيارات اللغويّة الوطنيّة مدفوعين بالحماس القوميّ والدينيّ، من دون تبصّرٍ علميٍّ يُخضع المطلبَ لمقوّمات التخطيط اللغويّ. ومن جهةٍ ثانية، كان دعاةُ التغريب، أو "الانفتاح" على اللغات الحضاريّة، إمّا مدفوعين بحماسةٍ منبهرةٍ بالإنجاز الحضاريّ الغربيّ، أو مجرّد منفّذين لمشاريعَ إمبرياليّة. وبين التجاذبيْن تأجّل مشروعُ التوافق الوطنيّ الديمقراطيّ على تبنّي سياسةٍ لغويّةٍ تأخذ في الاعتبار الحاجاتِ القوميّةَ والاجتماعيّةَ والنفسيّةَ والحضاريّةَ للأمّة.
اليوم ازداد وضعُ اللغة العربيّة تأزّمًا. فمن داخل منطق الاحتراب المذهبيّ والجهويّ والعرقيّ، انتصبت اللغةُ العربيّةُ هدفًا لكلّ طامعٍ في تعميق الانقسام الوطنيّ والانتقامِ من المكوِّن الحضاريّ العربيّ. وراحت سهامُ النقد توجَّه إلى اللغة العربيّة لتحميلها كلَّ الأزمات التي تعيشها الأمّةُ ــــ من السياسات التنمويّة الفاشلة، إلى سياسة التعليم المأزومة، مرورًا باتهامها بتنمية الشعور العقديّ المغذّي لمنظومة الإرهاب الدوليّة!
أمام هذا الوضع، لا بدّ من الارتكاز إلى التفكير المتّزن، والابتعادِ عن ردود الأفعال المنفعلة. والملفّ الذي نقدّمه اليوم نريده أن يكون لبنةً في مشاريع التخطيط اللغويّ، التي تعيد الاعتبارَ إلى اللغة العربيّة في وصفها اللاحمَ الأخيرَ لكينونتنا الحضاريّة العربيّة.