صحفيّة ومعدّة أفلام وثائقيّة. حاصلة على ليسانس في الإعلام، وماجستير في المسرح. تعدّ أطروحة دكتوراه في المسرح السياسيّ في جامعة باريس الثامنة.
في السنة الخامسة على انطلاق الحراكات الشعبيّة العربيّة، لا يبدو المشهدُ ورديًّا كما أراده المتظاهرون، الذين ضحّى بعضُهم بحياته وحرّيّته من أجل تحقيق الشعار المرفوع في غير بلدٍ عربيّ: "الشعب يريد إسقاط النظام."
ربّما كانت قلّةُ القراءات النقديّة العميقة لما جرى، أو ضعفُ تداولها، من أسباب مراوحة الحراكات العربيّة مكانها، أو إنتاجِها واقعًا مظلمًا. لذا فإنّ الإصرار على محاولة الفهم ضروريّ، انحيازًا إلى ثورة الياسمين وثورة اللوتس وما تلاهما. "المشهد ليس ورديًّا": هذا هو التوصيف الذي يُجمع عليه كلُّ مَن ساند أو عارض هذه الحراكات. فأين نحن ممّا جرى؟ أين أصبنا؟ ثمّ أين أخطأنا؟
الأسئلة التي ترتبط بالأحداث والتحرّكات التي سبقت المظاهراتِ الكبيرة، ثمّ الأحداث التي أشعلتْها، ضروريّة. والبحث عن إجاباتٍ عنها يرتبط بقراءة مساراتٍ وخطاباتٍ غلَبتْ على "المسار الثوريّ،" إنْ صحّ هذا التعبير. مثلًا، عندما يكون الشعار الأبرز للمتظاهرين هو "الشعب يريد إسقاط النظام،" فهذا يعني أنّ الفاعل هو الشعب، والشعب جزء من السيادة الوطنيّة. لم يقل المتظاهرون لقوًى خارجيّة "أعينينا لنُسقط النظام،" بل عبّروا عن قوّة الإرادة الذاتيّة بالفعل السياديّ الوطنيّ. فكيف يمكن مَن يدْعون إلى قبول أيّ عونٍ خارجيّ أن يحجزوا مكانَهم بين "الثوار"؟
في موضوع الثورة والعون الخارجيّ دارت نقاشات في فرنسا، وبشكلّ خاصّ على صفحات اللوموند، شارك فيها عددٌ من المفكّرين علّقوا على التدخّل الفرنسيّ في الثورة الليبيّة على القذّافي.(1)وقد عارض مفكّرون كثيرون العنوان المتعلّق بـ "الحقّ في التدخّل الخارجيّ،" لافتين إلى أنّ الثورة الفرنسيّة العظيمة ما كانت لتنجحَ لو جرت تدخّلاتٌ خارجيّةٌ كبرى في تحديد مساراتها. كما نشير إلى كتاب فرنسيس فوكوياما، بناء الدولة،*الصادر بعد الاحتلال الأميركيّ للعراق، وفيه أقرّ فوكوياما نفسُه بخطأ الفكرة القائلة إنّ الديموقراطيّة تصنعها قوّةٌ خارجيّة.
بهذا المعنى، فإنّ القابلين بأيّ تدخّلٍ خارجيّ لقلب أنظمةٍ قمعيّة وفاسدة ودمويّة إنّما يُشاركون تلك الأنظمة نهجَها في تغييب القوى الشعبيّة وشلِّ قدرتها على الفعل. هم يزيحون "الشعب" ـــــــ الفاعلَ من معادلة إسقاط النظام، ليتحوّل في أحسن الأحوال إلى شريكٍ في الفعل، ذي دورٍ ثانويّ، يُنفّذ ولكنّه لا يُخطِّط أو يوجّه. والأمر المقلق ليس وجودَ مثلِ أصحاب هذا الخطاب في أيّ مشهدٍ ثوريّ أو تغييريّ (فهذا أمرٌ طبيعيّ)، بل تصدّرُهم لهذا المشهد، وطغيانُ خطابهم على حساب التجارب والتيّارات والخطابات الأخرى الأكثر استقلاليّةً.
"نحن" والآخرون
في "المشهد الثوريّ" المذكور أيضًا، ثمّة استقطابيّةٌ حادّةٌ في موضوع العلاقة بالغرب كقيمةٍ حضاريّة. ففي مقابل الخطاب المعادي لهذا الغرب، ثمّة خطابٌ آخر، انبطاحيٌّ، مُنبهرٌ بالغرب بشكلٍ أعمى. لكنْ، إذا كان العداءُ المطلقُ وهميًّا وانتحاريًّا، فإنّ الانبطاح هو الوجهُ الآخر للاتكاليّة القاتلة للتفكير والفعل المستقلّيْن؛ فبدلًا من الحاكم الديكتاتور يمكن أن "يفكّر" الغربُ المتحضّر و"يعمل" عنّا ولنا. لكنْ، لو أسقطنا من حساباتنا معادلة تفوّق المصلحة الذاتيّة لدى الأجنبيّ أيًّا كان (إيرانيًّا أو غربيًّا أو تركيًّا أو...)، فهل يمكن أن نُسقط معادلةَ الاختلافات الاجتماعيّة والحضاريّة التي تميّز أيَّ شعبٍ في هذه الدنيا؟
نحن كعرب جزءٌ من هذا العالم، ومن هذا العصر. نعيش قضاياه وأحداثه وتطوّراته. ولكنّ لنا أيضًا مشاكلنا الخاصّة، قضايانا الخاصّة التي ــــــ على الأغلب ـــــــ لا يعانيها آخرون، ولا يفهمونها، بل لا يمكن أن ترِدَ في خواطرهم. فلماذا لا نسهم في التفكير فيها انطلاقًا من أسئلة محليّة وذاتيّة، غيّبها بعضُنا لحساب طروحاتٍ عالميّة؟ لماذا يحصر بعضُنا مشاكلنا الكبرى بالأنظمة، أو الدين، أو المؤامرات الخارجيّة؟ هل نذكّر بأنّ ثمّة مسؤولين داخليّين عن موتنا تحت وصايةٍ خارجيّةٍ أو احتلالٍ أجنبيٍّ مباشر؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تعني دراسة تاريخنا المعاصر بدقّة، بعيدًا عن عقدة كره الذات، وبعيدًا عن محاولات المقارنة العمياء بتجارب الدول الأخرى. والأهمّ، هل نجتهد في محاولة البحث عن أسئلة حقيقية وغير تقليدية للأسباب العميقة وراء حالنا المتردّية؟
في علاقاتنا الخارجيّة، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، نحن العربَ في معسكريْن متناقضيْن، يعرّضاننا لأن نكون مجرّدَ "مفعولٍ به" في لعبة الأمم الجديدة. وإذا كان المرتاحون إلى الأنظمة القائمة معذورين في كسلهم الفكريّ، فإنّ تكاسُلَ "الثوريين" الجدد يجعلهم الوجهَ الآخر للعملة السائدة.
في إطار الحديث عن الكسل، قد لا نقع على أبحاثٍ جدّيّةٍ كثيرةٍ عن استمراريّة الأنظمة التي حكمتْنا لعقود؛ فقسط كبير من الخطاب "المعارض" المسيطر في العالم العربيّ يستعير، في مرتكزاته، من أدوات الأنظمة القائمة. لكنْ، ألا يجوز مثلًا أنّ هذه الأنظمة استمرّت لأنّها تقوم على سندٍ شعبيّ صامت؟ هل تعمّقْنا مثلًا في أسباب حلول مرشّح السلطة (المعزولة) في مصر أحمد شفيق في المرتبة الثانية خلال السباق المحموم الأوّل إلى الرئاسة بعد ثورة 25 يناير؟ هل كانت القدرة على التنظيم والحشد الماليّ السبب الوحيد لذلك؟
المسألة الاقتصاديّة
انطلقتْ ثورة الياسمين في تونس بعدما أحرق البائعُ المتجوّل محمد بوعزيزي نفسَه احتجاجًا على منع السلطة إيّاه من ممارسة عملٍ يمكّنُه من تأمين الحدّ الأدنى للعيش. الثورة المصريّة، بدورها، رفعتْ في 25 يناير شعار "عيش، حرّيّة، عدالة اجتماعيّة،" وهو شعارٌ يطغى عليه مطلبُ العدالة الاقتصاديّة. أمّا الثورة السوريّة فشهدتْ بداياتُها (برغم مساراتها اللاحقة) زخمًا شعبيًّا بفعل تكاثر أعداد العاطلين عن العمل إثر اعتماد سياسات اللبرلة الاقتصاديّة: ذلك أنّ توجّه الدولة السوريّة الاقتصاديّ (الذي سيطرتْ عليه حفنةٌ من رجال الأعمال الجدد) أدّى إلى تحرير التجارة على حساب القطاع الصناعيّ، فأقفلتْ آلافُ المصانع والورش أبوابَها، وضُربتْ مشاريعُ إصلاح القطاع العامّ الصناعيّ، وزادت نسبةُ العاطلين عن العمل سنة 2009 عن 16،5% (ما يعادل 3،4 مليون)، وارتفع عددُ الذين باتوا تحت خطّ الفقر أو على حافّته إلى 6،7 مليون نسمة (أيْ نحو 34% من الشعب السوريّ)،(2) فيما أدّت أزمةُ الجفاف إلى نزوح عشرات الآلاف إلى المدن الرئيسة بحثًا عن فرص عملٍ لم تتوفّر.
ورغم ذلك فإنّ الخطاب "الثوريّ" الطاغي حاليًّا يركّز فقط على الـ"معركة" ضدّ استمراريّة الأنظمة (بإسقاط رجالها فقط أو رؤسائها فقط) ويهمّش المسألةَ الاقتصاديّة الاجتماعيّة، مستبعدًا قطاعاتٍ واسعةً من الشعب. في لبنان مثلًا، تحتلّ الاحتجاجاتُ (المحقّة) ضدّ توقيف أيّ ناشطٍ وضدّ محاكمته حيّزًا مهمًّا من اهتمامات "الثوريين" الحاليّين، لكنّ هؤلاء لا يفْردون أيَّ اهتمامٍ يُذكر ـــ خارج إطار "التضامن الفسبكيّ" ـــ للدفاع عن طفلٍ فقيرٍ مات أمام أبواب المستشفيات الخاصّة التي مَنعتْ عنه العلاج.
وهكذا تتسع الهوّةُ بين الثوريّين الحاليّين والطبقات الشعبيّة، فيتحوّلون إلى "أقليّةٍ" غيرِ قادرةٍ على فرض مطالبها (المحقّة). وقد لا يتنبّه الخطابُ "الثوريّ" إلى أنّ انحياز جزءٍ من تلك الطبقات إلى النظام القائم ليس قائمًاعلى الخوف من القمع، بل من الموت جوعًا، ومن العجز عن تأمين القوت والمدرسة والطبابة. خوفُ الناس مبرّر، وقد ساهمت الأنظمة في صناعته وتجذيره، ولكنّ الخطاب "الثوريّ" القائم حاليًّا لا يقدّم أملًا أو حلولًا حقيقيّة لمعالجته.
هذا ناهيكم بأنّ بعض "الثوريين" ينْظرون إلى أفراد الطبقات الأخرى كأنّهم رعاعٌ لا يعرفون مصلحتهم!
معارضة الفرد
التركيز على مقارعة "الحاكم" من دون محاربة كلّ التركيبة التي تشكّل أسسَ نظامه تجعلنا شركاءَ، بشكلٍ أو بآخر، في ما يجري. فأمام مشهد آلاف اللاجئين الهاربين في البحر، مثلًا، قلّما يُطرح السؤالُ عن المافيات التي تُغرقهم، وكأنّ نشاطها أمرٌ مفروغ منه أو"عاديّ." الخطاب الطاغي في هذه الحال لا يحاسِب هذه المافيات باعتبارها حلقةً من حلقات القتل الذي يمارسه النظامُ والمعارضةُ معًا، وبشكلٍ خاصّ في سوريا والعراق.
كذلك الأمر حين تغيب عن اعتباراتنا قضيّةُ محاسبة أرباب العمل، أصحابِ السلطة والحكمِ المطْلق، الذين يُفقدون عمّالهم قوتَهم. وإذا أردنا أن نفرد لائحة أمثلةٍ على تغاضينا الطوعيّ عن الفساد، فإنّ اللائحة ستمتدّ صفحاتٍ وصفحات.
الحريّة المقدّسة
العنوان الأبرز للخطاب "الثوريّ" المسيطر هو "الحرّيّة" التي كانت من أبرز ضحايا الأنظمة السابقة. وقد امتلأت سجونُ السلطات بمن عارضها، فيما دفع المئاتُ، بل الآلافُ، حياتهم ثمنًا لرأيٍ أو موقفٍ أو انتماءٍ ما.
لكنْ أين المعارضة من خطاب (وممارسة) الحرّيّة والتجارب الديموقراطيّة حاليًّا؟ هل تمكّنتْ من بلورة تجربة ديموقراطيّة قادرةٍ على استيعاب رأيٍ مخالف لها؟ هذا السؤال جدّيّ وليس سؤال تحدٍّ. فلنبحثْ عن هذه التجارب، ولنتمسّكْ بها، ولنعتبرْها دليلنا في أيّ حراك تغييريّ، ثوريّ أو هادئ. الديموقراطيّة المنشودة هي التي تقبل الرأيَ الآخر، أو على الأصح تستمع إليه وتناقشه، لا تلك التي تكتفي بتمجيد الرأي المتطابق معها. وللأسف، فإنّ أغلب ما نراه هو ديكتاتوريّات صغيرة تحمل خطابًا معاديًا لخطاب الأنظمة السائدة، وتعجز عن تفهّم أيّ عنوانٍ لا يدخل ضمن رؤيتها أو معتقداتها.
في هذا المضمار تطول لائحةُ القضايا المطروحة أمام القوى الراغبة جدّيًّا في التغيير، كي لا تكون نسخةً مكرورةً عن السلطات الحاكمة، ومنها: مسألة طغيان الخطاب الدينيّ، وطغيان خطاب الكراهية، والعنصريّة، والشوفينيّة.
إنّ إسقاط النظام هو حقٌّ لأيّ شعب، وضرورةٌ في حالة الشعوب العربيّة. إلّا أّن الإسقاط يجب أن يأتي في إطار منظومة تفكير متكاملةٍ لا تقضي على الدولة، بل تؤسّس لتحسينها وتطويرها، وتجيب عن القضايا المهمّة في الحكم والتعليم والاقتصاد والبحث العلميّ، والثقافة والعلاقات الداخليّة والخارجيّة وغير ذلك من مقوّمات الدولة. كما تؤسّس لترسيخ عقدٍ اجتماعيّ يقوم على مبادئ السيادة والاستقلال واحترام حرّيّة التعبير. والأهم أن يتأسّس التغييرُ على رغبة في تعميم الخير على المجتمع برمّته، بما يُناقض عقدة كره الذات الطاغية اليوم.
بيروت
2 - محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، جدليّة الجمود والإصلاح (المركز العربي للأبحاث والدراسات، 2012)، ص 110.
صحفيّة ومعدّة أفلام وثائقيّة. حاصلة على ليسانس في الإعلام، وماجستير في المسرح. تعدّ أطروحة دكتوراه في المسرح السياسيّ في جامعة باريس الثامنة.