رَمْل الماية*
29-05-2016

 

جهد النُّحاةُ الأوائلُ في تنخيل المُدوّنة اللغويّة الأولى من أجل فرز الحالات الشاذّة عن القاعدة. وأزعُمُ أنّه لم يَدُر في خلدهم أنّ المتن العربيَّ سيجتاحُه اللحْنُ فيُعجَم، مذ خُطّ على رقعة سايكس ــــ بيكو، وسادَ فينا الشاذُّ عوضَ القاعدة.

مذّاكَ تاه المتنُ العربيُّ عن سندِه. صار عاريًا يبحث عن رداءٍ في أسواق الأسانيد العالمية. وولج الكاتبُ والمكتوبُ في ذيول خبر كان؛ "كان" التامّة التي لا تَعشقُ اسمًا وخبرًا، على عكس ربيبتها "كان" الناقصة التوّاقة إلى الكمال الاقتصاديّ والعلميّ والفكريّ والاجتماعيّ.

ولمّا تمطّى الأمدُ على المتن العربيّ، فسدت العباراتُ. فجُملة "الديمقراطيّة" المتعدّدة الألوانِ على مائدة التغيير صارت مالحةً بفعل فاعلٍ من بني جلدته. وجملةُ "الكرامة" جفّ ماءُ تُفّاحها، فباتت صناعةً بلاستيكيّة على خِوانٍ مَنسيّ. وتزاحمت الأضدادُ والمترادفات والمجازات في جوف المتن العربيّ، فلم يعُد يُطيق نفسَه، فتحرّكت المدّاتُ والضمّاتُ والفتحاتُ والكسراتُ تبحث عن وقودٍ وعود ثقاب. ولذلك تَجدُ الحرائق تشتعل في أطراف المتن العربيّ، وتأكل آخرَ أصابعه القادرة على إعادة نسْخِ ما احترق من طُرسِه، فتُمسي الدواةُ والأقلام في عِداد اليتامى، لِيتكفّل بها نُسّاخٌ من خارج حارة النسّاخين والكُتبيّين.

لقد أُدخل المتنُ العربيّ غرفة العمليّات على عجلةٍ من أطبّاء وجرّاحين شِدادٍ غِلاظ. وهناك، وراء الأبواب المغلقة، سيصْلى ألمَ المشارِط على سرير بروكوسْت،** إلى أن يصير على "المقاس،" فيُخرَج نصًّا سويًّا وفق الاستراتيجيّات التي تليق به" نصًّا تتنازع كلماتُه بين الحِلّ والحِرمَة والولاءات الطائفيّة والمذهبيّة.

لقد جاء في المأثور بأنّه على رأس كلّ مائة عام يظهر نصٌّ أصليّ، تتناسخ منه كلُّ النصوص. إلّا أنّ المتن العربيّ فوّض أمرَه إلى غيره ثانيةً، وخرج عن أبجديّته، ليدخل ألفبائيّة سايكس ــــ بيكو الجديدة، فيُعاد ترتيبُ أوراقه وفق مشيئة العولمة. ولو اجتمع اليوم نُحاةُ العرب، ووضعوا خلافاتهم جانبًا، ليتداولوا أمرَ الفاعل في هذا المتن العربيّ الذي فتّتتهُ أَرَضَةُ العُجمة، لخرجوا ببيانٍ مفادُه أنّ الفاعل صار مغلوبًا على أمره، وتعملق المُستترُ فأصبح ظاهرًا.

كُتِب على المتن العربيّ الاسثناءُ في البدء وفي المَعاد، مُتوالِيةٌ يعشقها في عالَمٍ يُغيّر قواعدَه كلّ يوم، بينما هو قاعدٌ يُطرّز خصوماته، ويدفع فواتيرَها، ويغنّي على مقام "رَمْل المايَة" مُتوالية الاستثناء.

المغرب

*رمل الماية من طُبُوع الموسيقى الأندلسيّة. والماية بمعنى عفو الخاطر.

** بروكست: من الشخصيّات الأسطوريّة الإغريقيّة. وكان يشوّه الأجساد التي لا تتلاءم مع مقاييسه، التي تشكّل الكمالَ في رأيه.

محمد الشغروشني

كاتب ومخرج مغربيّ. نشر العديد من المقالات والدراسات في المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونيّة. شارك في العديد من المهرجانات المسرحيّة والسينمائيّة الوطنيّة والعربيّة والدوليّة. من أعماله المسرحيّة مُخرجًا: فاوست والأميرة الصلعاء (1988)، حكاية العربة (1989)، سيدي عرجون (1990). من أعماله المسرحيّة مؤلّفًا: طلاسم وتراتيل: نصّان مسرحيّان (2015). من أعماله السينمائيّة الروائيّة والوثائقيّة: أحلام هاينة (2004)، بارشمان، الدائرة 70، تافرنانت (2011)، قصبة الأوداية (إخراج مشترك 2012)، أنا قبالة أنا (2013)، أوجاع الظلّ (2013).