كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.
منذ إعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركيّة مساءَ الثامن من نوفمبر الماضي، وهو لم يتوانَ عن التذكير بأنّ العشرين من يناير (وهو يومُ تسلّمِه مقاليدَ الحكم) "قادم."
وقد حصل ذلك التذكيرُ (أو التهديد) ردًّا على بعض قرارات أوباما الذي سترْحل إدارتُه في غضون أيّام. وهذا ما نجدُه، بشكل خاصّ، في موضعيْن: 1) تطمين ترامب لـ "إسرائيل" بعد امتناع إدارة سلفِه عن تعطيل قرارٍ عن مجلس الأمن يدين المستوطناتِ الصهيونيّة؛ 2) تطمين روسيا بعد أن فَرض أوباما عقوباتٍ جديدةً ضدّها وطَردَ عددًا من دبلوماسيّيها بتهمة التدخّل في الانتخابات الأميركيّة.
فماذا ينتظر الولاياتِ المتّحدةَ حين يحلّ 20/1/2017؟
يستحيل التنبّؤُ بما يمْكن شخصيّةً شعبويّةً وشديدةَ النرجسيّة، كشخصيّة ترامب، أن تُقْدِمَ على فعله في أيّ ظرف. فكيف إذا كان الحديث يدور عن وعود انتخابيّة جرت تهيئةُ الناخب الأميركيّ (على مدى عقود) لقبولها؟ ما يزيد من صعوبة التنبّؤ، أيضًا، أنّ بعض تلك الوعود محضُ شعاراتٍ فارغة (مثل "لنجعلْ أميركا عظيمةً من جديد" أو "سوف نجفِّف المستنقع" أيْ بيروقراطيّةَ الإدارات السابقة)؛ وأنّ بعضَها الآخرَ متناقض (مثل الوعدِ بتقليص الضرائب والوعدِ ــــ في الوقت نفسه ــــ بإعادة تأهيل البنى التحتيّة الباهظة الثمن)؛ ناهيك بأنّ بعضها غيرُ ضروريّ أصلًا (مثل "إعادة بناء ترسانة أميركا النوويّة" التي يُجْمع العسكريّون على أنّها تكفي لتدمير العالم عدّة مئاتٍ من المرّات).
لكنّ ما لا يحتاج إلى تنبّؤ بما سيحصل في 20 يناير هو الآتي:
1 ــــ شخصيّة الرئيس الأميركيّ الجديد. قد لا يكون ترامب أوّلَ رئيسٍ أميركيّ يثير التساؤلاتِ حول قدراته الفكريّة والذهنيّة، وحول صلاحيّته لقيادة أقوى دولةٍ في العالم ليؤتمَن على "الزرّ النوويّ،" أيْ على سلامة العالم. فرونالد ريغان، الممثِّلُ الهوليووديّ الثانويّ الذي وصل إلى سدّة الرئاسة سنة 1980، وعانى بعضَ عوارض الألزهايمر أثناء حكمه (على ما كُشف لاحقًا)،(1) كان يرى العالمَ من منظارٍ هوليووديّ، ويؤمن بأنّ الحياة مثلُ أفلام السينما. كذلك جورج بوش الابن صرّح بأنّه يتشاور مع ربّه بشأنِ ما يتوجّب عملُه كلّما واجهَه قرارٌ صعبٌ، كغزو العراق وأفغانستان!(2)
إلّا أنّ ترامب يَجمع في شخصيّته ما هو أخطرُ من هذا وذاك. فهو يتباهى بأنّه لا يقرأ الكتبَ لأنّ "لديه من الخبرة في عالم البزنس ما يجعله يحلّ كلَّ المشاكل بمفرده،" لكونه "رجلَ أعمالٍ جيّدًا جدًّا،" ولهذا فهو "ثريٌّ جدًّا جدًّا جدًّا."(3) أضف إلى ذلك تصريحاتِه التي تعبِّر عن موقفه من المرأة،(4) ومن الأميركيين ذوي الأصول غير الأوروبيّة، لتحصل على شخصيّة رئيسٍ ذي نرجسيّة مرضيّة يصعب التكهّنُ بما يمكن أن تقولَ أو تفعلَ في السنوات الأربع القادمة.
جرت العادةُ، عقب كلّ انتخاباتٍ رئاسيّة، أن يهنّئ الخاسرُ زميلَه الرابح، ويَعرضَ خدماتِه عليه من أجل مصلحة الوطن، وأن يحظى الرابحُ بـ "شهر عسل" سياسيّ لمدّة مائة يوم ليشكّلَ طلائعَ العهد الجديد. وفي المقابل، جرت العادةُ أيضًا على أن يمدّ الرابحُ يدَه إلى الخاسر، مبديًا بعضَ الاحترام لقدرات هذا الأخير على إدارة حملة انتخابيّة منهكة. لكنْ لا يبدو أنّ هذا سيحصل مع إدارة ترامب.
فالاتّهامات المتبادلة بين ترامب ومعارضيه لا تزال مستعرةً. يضاف إلى ذلك تمسّكُه بالأجندة الكاملة لحملته الانتخابيّة، من دون أن يُظهر أيَّ نيّةٍ للمساومة، أقلّه في ما يخصّ وعودَه الأكثرَ إثارةً للجدل: مثل مواقفه من المرأة، والسود، والبيئة، والمهاجرين من أصولٍ مكسيكيّة، وحظر دخول المسلمين.(5) وتتعزّز ظاهرةُ تمسّكه بمواقفه تلك عبر اختياراته لأعضاء حكومته العتيدة؛ فبحسب ما رَشَح حتّى الآن، لن يكون للمرأة أيّةُ وزارةٍ أو منصبٍ وازنٍ في إدارة ترامب (اختار إيلان تشاو، من أصولٍ تايوانيّة، لوزارة المواصلات، وامرأةً أخرى لمنصب سفيرته إلى الأمم المتّحدة).(6) لكنّ أكثرَ ما يثير مخاوفَ الحريصين على حقوق المرأة هو احتمالُ ملء المقعد الشاغر(المرجّح) في المحكمة العليا، وأيِّ مقعدٍ آخر سيشْغر خلال السنوات الأربع القادمة، بقضاةٍ يسعوْن إلى إلغاء حقّ المرأة في الإجهاض ــــ وهو ما تعتبره المرأةُ الأميركيّةُ أحد أهمّ الحقوق المكتسبة.
2 ــــ حكومة عدائيّة تجاه أكثريّة الشعب. سنكون أيضًا أمام حكومةٍ مثيرةٍ لما يتعدّى الجدل. فمثلًا، سيكون المدّعي العامّ للدولة ــــ وهو المؤتمَن على حقوق الأميركيين المدنيّة ــــ عنصريًّا معروفًا بمواقفه المعادية للسود، ولكلّ مَن يتعاطف معهم من البيض. وسنكون أمام وزيرٍ للبيئة لا يؤمن بالتغيّرات المناخيّة. كما أنّنا سنكون أمام وزيرة تعليم معادية للتعليم الحكوميّ المجّانيّ، وتسعى إلى إلغائه.(7)
تتضمّن طقوسُ الديمقراطيّة الأميركيّة أن يدعو الرئيسُ المنتخب أقطابَ المؤسّسات الإعلاميّة ــــ بما فيها المؤسّسات التي عارضتْ حملتَه ــــ إلى العمل معًا "من أجل مصلحة البلد،" وطيِّ صفحة الخلاف والعداوات التي تسبّبها الحملةُ الانتخابيّةُ ضمن العائلة الواحدة نفسِها. لكنْ يظهر من تصرّفات ترامب منذ انتخابه أنّه لن يخضع لتلك الطقوس؛ فاستمرارُه في التهجّم على منافسيه ومنتقديه الديمقراطيين لم يتوقّف؛ كما أظهر أوّلُ مؤتمر صحفيّ عقده منذ انتخابه أنّ عداوته مع الإعلام ستبقى مستعرةً. قد تكون نرجسيّتُه التي لا تَحتملُ المساءلة أحدَ الأسباب. ولا يُستبعد أيضًا أنّه استنتج أنّ علاقته العدائيّة بالإعلام، خلال حملته، قد ساعدته في تصليب قاعدته الانتخابيّة ولم تؤذه؛ فلماذا التخلّي عن استراتيجيّة "ناجحة"؟
وما لم يحصل من قبلُ أيضًا هو وصولُ أحدٍ إلى الرئاسة من دون أن يكون مَدينًا لأيٍّ من مراكز القوى السياسيّة التقليديّة. بل إنّ ترامب هاجم قياداتِ الحزب الجمهوريّ، متّهمًا إيّاها بالفشل. فكيف ستكون علاقتُهما في السنوات الأربع القادمة؟ وهل يمكن أن يتعاونَ مع الحزب الآخر في مواضيع وطنيّة شاملة، مثل التأمين الصحّيّ والتعليم والدفاع؟ صحيح أنّ فوزَ الجمهوريين بأغلبيّة مقاعد مجلسَي النوّاب والشيوخ يمنح ترامب مساحةً أكبر لتجاهل الديمقراطيّين، إلّا أنّ حدّة انقسام المجتمع الأميركيّ حول قضايا جوهريّة تزيد من صعوبة تخيّل نجاح إدارته تشريعيًّا، خصوصًا أنّه يواصل التصرّف وكأنّه مرشّحٌ، لا رئيسٌ "لكلّ الأميركيين." وقد يكون لثقته بأنّ المحكمة العليا لن تمثّل تحدّيًا لبرامجه المتطرّفة دورًا في عدم اكتراثه بالعمل مع الآخرين.
قد يساعد ما سبق أعلاه في تفسير إصرار ترامب على المضيّ في أجندته المثيرة للانقسام والضغينة بين الأميركيين. فكلُّ ما رَشَحَ عن توجّهاته المستقبليّة من تصريحات، وترشيحٍ لأعضاء طاقمه الوزاريّ، يشير إلى نيّته الاستمرارَ في الهجوم، وفي عدم الإصغاء إلى النصائح البراغماتيّة. وقد وضع نصبَ عينيه تحطيمَ إرث أوباما السياسيّ ــــ وأبرزُ ما في هذا الإرث: قانونُ التأمين الصحّيّ الذي شمل في تغطيته (منذ العام 2010) أكثرَ من عشرين مليون أميركيّ إضافيّ، فضلًا عن قوانين تهدف إلى حماية المرأة والأقليّات والمثليين والمهاجرين (الموثَّقين وغيرِ الموثَّقين). ومن غير المستبعد أن تسعى إدارتُه إلى إضعاف قوانين صُمّمَتْ خصّيصًا لمساعدة الأميركيين الأفارقة على تخطّي مساوئ مرحلة الاستعباد التي امتدّت ثلاثةَ قرون: مثل بعض التسهيلات في قبولهم في الجامعات، أو حصولهم على عقود حكوميّة بشروطٍ مسهّلة.
***
لكنْ، مهما بدت الصورةُ قاتمةً لجهة حقوق المرأة والأقليّات في عهد ترامب، فإنّ مواقفَه وسياساتِ إدارته المتوقّعة ليست قدرًا. ذلك أنّ هناك الكثير من المجالات أمام تنظيم حملاتٍ معارضةٍ على صعيد كلّ ولاية أو مدينة، وحملاتٍ عابرةٍ للولايات والقطاعات، وقد نجح بعضُها في تحقيق مكاسب لا يُستهان بها. ففي الانتخابات عينها التي نَصّبتْ ترامب رئيسًا، حقّقت المرأةُ تقدّمًا في عضويّة مجلس الشيوخ بلغ 21 من أصل مائة، وارتفع تمثيلُ المرأة من أصولٍ "ملونّة" تحديدًا من واحدة إلى أربع نساء (من أصول لاتينيّة وأفريقيّة وجنوب شرق آسيويّة). كذلك سجّلت انتخاباتُ 8 نوفمبر وصولَ أوّل نائبٍ عن نيويورك من أصول دومينيكيّة.(8) وبالرغم من أنّ التحريض ضدّ المهاجرين ساعد في إيصال ترامب إلى البيت الأبيض، فإنّ حملةً شعبيّةً ضدّ أحد أبرز المعارضين للهجرة المكسيكيّة ــــ وهو كابتن شرطة منتخب في منطقةٍ حدوديّةٍ بين المكسيك وولاية آريزونا، وسبق أن رَوّع المهاجرين والمقيمين من أصول مكسيكيّة طوال سنوات عن طريق المطاردة والاعتقال التعسّفيّ ــــ(9) قد نجحتْ في إفشال حملته الانتخابيّة لفترةٍ جديدة.
يبقى أن نذكّر بأنّ شراسة هجوم ترامب على المهاجرين قد أفلحتْ في زيادة تنظيم الجهود المتضامنة معهم. فقد أعلنتْ عدّةُ ولايات أنّها ستكون مكانًا آمنًا للمهاجرين، ولن تتعاونَ مع السلطات الفدراليّة في تعقّبهم أو القبض عليهم من أجل ترحيلهم.(10) كذلك أعلن العديد من الكنائس فتحَ أبوابها للمهاجرين لحمايتهم.
سيشهد يوم 20 يناير حفلَ تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة. ولكنّه سيشهد كذلك تظاهرةً احتجاجيّةً دعت إليها منظّماتٌ نسويّة يُتوقّع أن تضمّ أكثر من مائة ألف متظاهرة ومتظاهر.
وذلك أيضًا لم يحصلْ من قبل.
صيدا (لبنان)
1 https://www.nytimes.com/2015/03/31/health/parsing-ronald-reagans-words-f...
2 'I am driven with a mission from God'. God would tell me, 'George go and fight these terrorists in Afghanistan'. And I did. And then God would tell me 'George, go and end the tyranny in Iraq'. And I did." https://www.theguardian.com/world/2005/oct/07/iraq.usa
3-الغارديان 26 يونيو2016، فضلًا عن عدة مقابلات تلفزيونيّة جرت في العام نفسه.
4- ثمّة تسجيلات صوتيّة لترامب (تعود إلى العام 2005)، وممّا جاء فيها من تصريحات مهينة بحق النساء: "...عليكَ التقاطُهنّ من أكساسهنّ" (Grab them by the Pussy). وقد تناولتها بالتفصيل صحيفةُ الواشنطن بوست في 8 اكتوبر 2016.
5- يُنظر في ذلك إعلانُ ترشّحه في 16 يونيو 2015؛ ومقابلة مع سي.ان.ان بتاريخ 9 مارس 2016؛ ومع صحيفة نيوز داي في 9 نوفمبر 2016. وينظر أيضًا:
"Here are 13 Examples of Donald Trump Being Racist" Huffington Post 29 February 2016.
6- الواشنطن بوست 10 نوفمبر 2016؛ Vox.com November 9-2016
7- وزيرة التعليم في حكومة ترامب، بتسي ديفو. راجع: الاندبندنت البريطانية 13 يناير 2017
8- أول نائب من أصول دومينيكيّة: ادريانو ايسباييه. راجع ان. بي. سب نيوز، 8 نوفمبر 2016.
9- "Sheriff Joe Arpaino Loses bid for 7th Term," NYT 9 November 2016.
10- راجع: Centre for Immigration Studies 12-14-2016
"Hundreds of Churches Offer Sanctuary," The Guardian, Nov 27, 2016.
كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.