"إنْ لم تحبّني اليومَ فستحبّني غدًا": هذا ما وجدهُ وسيم ذات يوم مكتوبًا على قصاصةٍ ورقيّةٍ في جيب سترته. كانت حياتُه خاليةً من الإثارة والمفاجآت؛ حتّى عيدُ ميلاده كان يمرّ مرور الكرام. لذا فتحت الرسالةُ شهيّتَه على تخيّل القصص الرومانسيّة والعيشِ في الأحلام. بقي أسبوعًا على هذه الحال: هائمًا، حالمًا، بانتظار حصول شيء استثنائيّ. وخلال هذا الأسبوع تحوّل إلى مهووسٍ يتفحّص عيونَ الصبايا في ممرّات الجامعة وحدائقها بحثًا عن إشارة أو تلميح يساعده على حلّ هذا اللغز. وبلغ به الأمر أن أطلق اسمًا على صاحبة الرسالة، ورسم لها صورةً افتراضيّةً في ذهنه، ممنِّيًا النفسَ بنهاية سعيدة كما في الأفلام.
كان عالَمُ المرأة بالنسبة إلى وسيم كوكبًا سحريًّا يلفّه الغموض. وقبل دخوله الجامعةَ لم يكن قد لمس أنثى قطّ. ولم يعرفْ من الجنس سوى ممارسة العادة السرّيّة وهو يتلصّص على أشباح النساء اللاتي كنّ يخطرن بعباءاتهنّ المغبرّة خلف سور منزله، الواقعِ في أسفل حيّهم الشبيهِ بالقريّة، حيث تتراكم البيوتُ بعضها فوق بعض كأنّها مكعّباتٌ اسمنتيّة رُميتْ بعشوائيّة فوق أرضٍ قاحلةٍ تفصلُ بينها زواريبُ ضيّقة وساحاتٌ صغيرةٌ سيّئة الحال. في هذا المكان وُلد وعاش وسيم، حيث يهيمن الفقرُ على الحجر والبشر، فاسحًا المجالَ لكلِّ ما يشوِّه الروح، ناهيك بأمراض الأبدان.
حدّثني مرّةً قائلًا: "إنّ الدافع الحقيقيّ لاجتهادي ونيلي الشهادةَ الثانويّة هو رغبتي في الخروج من محيطي البائس بحثًا عن المرأة، لا عن أيّ شيءٍ آخر." كما أخبرني عن شاهين ـــ شريكِه في السكن ــــ الذي دعاه بعد أيّام قليلة من التحاقه بالجامعة إلى ماخورٍ سرّيّ قريب. هناك، فقد وسيم عذريّتَه، وبات هذا المكانُ مزارًا يقصده كلّما ضاق جسدُه بروحه المثخنة بالجراح. ولكنّه لم يستطع محوَ آثار تلك الرسالة، وبقيتْ كلماتُها تدور في رأسه، إلى أن قرّر أخيرًا مفاتحةَ أصدقائه بالأمر، خشية أن تكون دعابةً قام بها أحدُهم. لكنهم ضحكوا، وأقسموا أنّهم أبرياء.
***
هكذا بدأتْ حكايةُ القصاصات الورقيّة، التي أطلقوا عليها لاحقًا اسمَ "حكمة الجَيْب." وصار ورفاقَه يتباروْن في كتابتها ليدسّوها خلسةً في جيوب بعضهم البعض، طلبًا للتسلية والضحك. ولم يَعُدْ مُستغرَبًا أن يمدَّ واحدُهم يده إلى جيبه ليجد قصاصةً من هذا النوع. كانت جميعُها من النمط ذاته؛ يغلب عليها طابعُ الطرافة مثل: "إنْ لم تعضّ لسانَكَ اليوم فستعضّه غدًا"؛ أو كانت جملًا غريبةً غير مفهومة كهذه: "إنْ لم تصرصور اليوم ستصرصور غدًا!" ثمّ راحوا يدسّونها في جيوب طلّاب الجامعة، من غير رفاقهم، مستمتعين بالإثارة التي كانوا يشعرون بها أثناء قيامهم بهذا الفعل.
كانت لعبةً مسلّيةً وطريفةً، وبقيتْ كذلك إلى أن دخل صبيحةَ أحد الأيّام الدكتور إلى قاعة الدرس وهو يقول ملوِّحًا بورقة صغيرة في يده: "انظروا ماذا وجدتُ البارحة في حقيبتي!" ثم تعمّد القراءة بصوتٍ عالٍ: "إنْ لم تضرط اليوم فستضرط غدًا!" فضجّت القاعةُ بالضحك، وأخذت الأصواتُ تخرج من هنا وهناك، معلنةً عن عثورها على أوراقٍ مشابهة.
بعد انتهاء المحاضرة اجتمع وسيم مع رفاقه في كافتيريا الجامعة، وكلٌّ منهم يسأل الآخر إنْ كان هو مَن وضع الورقة في حقيبة الدكتور. وتأكّدوا أنّ أحدًا غيرَهم فعل ذلك. بعد أيام عرفوا أن ظاهرة "حكمة الجَيْب" انتشرتْ بين الطلّاب والطالبات كالوباء، وأنّ بعض العبارات كانت تحوي تهديداتٍ أو كلماتٍ تخدش الحياء، كتلك التي وُجدتْ في حقائب الصبايا؛ ما جعلهم يقرّرون التوقّفَ عن ممارسة هذه اللعبة التي بدأتْ تأخذ منحًى آخر لا يتوافق مع البراءة التي بدأتْ بها.
***
كان وسيم يشارك رفاقَه اللهوَ والتسلية، ويقضي معظمَ وقته معهم، سواء في قاعات الدرس أو المكتبة أو السكن. إلّا أنّه لم يضع رأسه يومًا على المخدّة إلّا وكانت عبارة "إنْ لم تحبّني اليوم فستحبّني غدًا" آخرَ ما يفكّر به قبل أن يغفو. كان وسيم "جائعًا إلى الحبّ" على ما عبّر حرفيًّا. فهو لم يختبرْ هذا الشعور، وعلاقاتُه النسائيّة خلال المرحلة الجامعيّة وبعدها اقتصرتْ على الجنس. وهذا ما عرفتُه حين سألتُه مرّةً إنْ كان يُعقل أنّه لم يحبّ يومًا؟ فقال ضاحكًا:
ــــ المشكلة ليست بي. أنا أحبّ كلَّ نساء الأرض، لكنْ لم يحصل أن أحبّتني أيٌّ منهنّ.
جعلني جوابُه أُشفق عليه، وأحببتُ أن أعرف عنه أكثر، فسألته:
ــــ هل يعوّض الجنس مِن الحبّ بطريقةٍ ما؟
ــــ نعم، بالنسبة إلى الحمير، قال.
ــــ وما أدراكَ أنّ الحمير لا تهتمّ بالحبّ؟ سألتُه مازحًا.
ــــ الجنس هو علفُ الروح، والحميرُ يهمّها العلفُ، قال بمنتهى الجدّيّة.
لم أفكّر يومًا بهذه الطريقة! وتساءلتُ بيني وبين نفسي: ألا يُعتبر هذا إهانةً للجسد؟ ربّما لو استخدمَ كلمةً أُخرى لما شعرتُ هكذا. ربما لو قال "طعام الروح" أو حتى "طبيخ الروح" لمرّت كلمتُه من دون أن تثير انتباهي. ولكنّ كلمة "علف" استوقفتني لارتباطها بالحالة الحيوانيّة المطلقة. فهل العمليّة الجنسية خارج إطار الحبّ تقع ضمن هذا التصنيف حقًّا؟
بقيتُ لثوانٍ شاردًا. وحين انتبهتُ، وجدتُه ينظر إليّ كأنه يتوقّع سؤالًا جديدًا. فسألتُه بلهجة بين المزاح والجدّ:
ــــ إنْ كان الأمر كذلك، فكيف تصف علاقة الحمير بالحب؟
ــــ الحبّ غناءُ الروح، قال. ثم أضاف وهو يغالب الضحك: وكما تعلم "إنّ أنْكرَ الأصواتِ لَصوتُ الحمير."
ــــ إذًا، لا بدّ من اقتران الجنس بالحبّ، وإلّا صار سلوكًا حيوانيًّا، قلتً متجاهلًا طرفتَه.
ــــ نعم، ولكننا في النهاية، كما تعلم، كلّنا حيوانات، أجابني منهيًا الحديث.
***
تعرّفتُ إلى وسيم حين سكن في الشقّة المقابلة لبيتي. وكلُّ ما قرأتموه الآن كنتُ قد سمعتُه عن لسانه، مع الكثير من التفاصيل، أثناء جلساتنا على سطح بيته، وصوتُ أمّ كلثوم يشاركنا سِحرَ ليالي الصيف وضوء القمر ونشوة الخمر. في ذلك الوقت كان قد دخل عقدَه السادس من العمر وأحيل على المعاش. وكانت له زوجةٌ تشبهه بشكلٍ يدعو إلى العجب، وابنةٌ وحيدة تُدعى "وصال" ــ ــ وهو الاسم الذي أطلقه على صاحبة "حكمة الجيْب" الوهميّة التي حدّثتكم عنها قبل قليل.
لم يكن لأبي وصال أصدقاءُ كثر، وصديقُه الوحيد الذي كان يتردّد إليه باستمرار كان السيّد شاهين، الذي لفت انتباهي يومًا إلى عادة غريبة عند أبي وصال حين سألني:
ــــ هل لاحظتَ كيف يضع جارُكَ يدَه في جيبه باستمرار؟
وعندما أجبتُه بالنفي، قال غامزًا بخبث:
ــــ لا يزال ينتظر "حكمةَ جيْبٍ" جديدةً من وصال، سندريلّا أيّام زمان.
كان تفسير شاهين أنّ هذه الحركة صارت عادةً عنده، أو مرضًا شبيهًا بالوسواس القهريّ. لم أصدّقْه بداية الأمر، بسبب مرور زمن طويل على تلك الحادثة، لكنّي تأكدتُ من صحّة كلامه حين راقبتُ أبا وصال وضبطتُه يتحسّس جيبَ سرواله من الخارج غيرَ مرّة، ثم يضع يده داخلها ويخرجها بهدوء، مع شعور بالخيبة يرتسم على محيّاه. من يومها وأنا لا أستطيع رفعَ عينيَّ عن يديْ جاري "الجائع إلى الحبّ،" وصرتُ أهتمّ به أكثر وأقضي معه المزيد من الوقت. وفي معظم الأحيان كان يحدّثني عن الحبّ والروح والفقر والخيبات، فأستمع إليه، ولا أقاطعه، حتى يتوقّف من تلقاء نفسه عن الكلام.
ثم حصل أنْ سافرتُ خارج البلاد بغاية الدراسة. في هذه الأثناء نشبت الحربُ وانقسم الناس، وسالت الدماء، وتلوّثت الأيدي ومعها العقول، ولم يعد للصلح مكان. فاستعصتِ الحلولُ حتى تقطّعتْ خيوطُها بين أيدي أبناء البلد، وصار الغرباء ينهوْن ويأمرون، وذاق الجميعُ طعمَ المهانة، ولم يعد أحد يعرف إلى أين ستؤول الأمور.
في خضمّ هذه الأحداث كنتُ أحرص على لقاء جاري خلال إجازاتي القصيرة. وبدأتُ ألاحظ ميلَه إلى الأحاديث الدينيّة. كذلك شعرتُ أنّه لم يعد يرغب في قضاء الوقت معي كما كنّا نفعل سابقًا، فاحترمتُ رغبتَه، وصرتُ لا أزوره إلّا إذا دعاني وأصرّ على الدعوة. وفي الكثير من زياراتي كنتُ أجد عنده بعضَ رجال الدين، فأسمع منهم أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان. لكني احترامًا له كنتُ أكتفي بالاستماع، ولا أبدي رأيًا، إلى أن يفيض بي الكيلُ، فأغادر مجلسَهم بأدب كما أتيت. وهكذا بدأتْ تتسعُ الهوّة بيننا مع تقدّمه في العمر واهتمامِه بالطقوس الدينيّة تقرّبًا من الربّ الذي اهتدى إليه أثناء غيابي عنه.
لم يعد أبو وصال الشخصَ الذي كان: ثيابُه أصبحتْ مختلفة. صوتُه صار غريبًا. نظراتُه صارت مليئةً بالشكّ. وغابت ضحكتُه، ليحلّ مكانَها عبوسٌ دائم ونحنحةٌ متكرّرةٌ توحي بالاختناق. أمّا ما لم يتغيّر فيه، وبقي يلازمه إلى أن مات، فهو حركات يديه المرتجفتين وهما تتحسّسان جيوبه لتقبضا في كلّ مرّة على الريح.
اللاذقيّة
