أكثر قصيدةٍ قُرئتْ خطأً في أميركا*
15-10-2015

ديفيد أور

ترجمة: يزن الحاج

يعرف الجميعُ قصيدةَ روبرت فروست "الطريقُ التي لم تُسلَكْ" ــــ ويُخطئ الجميعُ تقريبًا فهمَها.

شابٌّ يتنزّه عبر غابة، فيُباغتُه مفترقُ طرق. يتوقّف، يداه في جيبيْه، يَنظر خلفًا وأمامًا، مقلّبًا خياراتِه. أثناء تردّده، تَرِدُ في مخيّلته صورٌ لاحتمالات المستقبل: شابًّا يخوض في المحيط، متنقّلًا بين السيّارات العابرة، يَركب حافلةً، يُقبّل امرأةً جميلةً، يَعمل، يَضحك، يأكل، يركض، يبكي. تتلاشى الصّورُ أخيرًا لتستحيلَ مشهدًا لشابّ آخرَ  يرفع إبهامَه على جانب الطريق. حالما تقترب سيّارةٌ لتُقِلّه، ندرك أنّ السائق هو الشابّ الذي رأيناه في مشهد مفترق الطرق، ولكنّه الآن برفقة امرأةٍ جميلةٍ وطفل. يبتسم الرجلُ قليلًا، كما لو أنّه واثقٌ بالحياة التي اختارها، ومسرورًا بنقل تلك الثّقة إلى مسافرٍ آخر. بعد أن تبتعدَ السيّارةُ وتُضاءَ الشاشةُ بلونٍ ذهبيّ ــــ إذ كان ما شاهدناه إعلانًا تجاريًّا ــــ يَظهر شعارُ "شركة فورد موتور" لفترة وجيزة.

 

عُرض الإعلانُ الذي وصفْتُه للتوّ  في نيوزيلاندة في العام 2008. وإنّه، من معظم الجوانب، نموذج طبيعيّ عن إعلانٍ ترويجيٍّ صيغَ بذكاء، ويتّسم بتلاعبٍ هادئ. لكنْ في الإعلان بعدٌ غيرُ مألوفٍ على الإطلاق. هاكم ما يقرأه الفنّانُ راوي الإعلان، باللهجة المميَّزة لنيوزيلاندة، بينما الشابّ يقلّبُ خياراتِه:

 

"طريقان تشعّبتا في غابةٍ صفراء،

وإنّي لآسَفُ لعجزي عن عبورهما معًا.

ولأنّني مسافرٌ وحيدٌ، فقد وقفتُ طويلًا،

ومددتُ ناظريّ وسعَ طاقتي إلى إحداهما،

إلى حيث تنعطف عند الشجيْراتِ الدُّنْيا؛

ثم اخترتُ الطريقَ الأخرى ــــ وهذا خيارٌ  لا يقلُّ إنصافًا،

بل لعلّه الخيارُ الأصحّ،

إذ كانت معشوشبةً وتحتاجُ إلى أن تُطأ؛

رغم أنّ العبورَ عليهما

قد أنهكهما بقَدْرٍ مماثلٍ تقريبًا،

وكلتاهما امتلأتْ ذلك الصباح

بأوراقٍ لم تُسوِّدْها الخُطى.

أوه، لقد تركتُ الطريقَ الأولى ليومٍ آخر!

لكنْ، إذ كنتُ أعْلم كيف تفضي طريقٌ إلى طرقٍ أخرى،

فقد شككتُ في ضرورة الرجوع.

سأروي كلّ هذا بحسرة

في مكانٍ ما بعد أزمانٍ وأزمان:

طريقان تشعّبتا في غابةٍ، وأنا ــــ

اخترتُ الطريقَ التي سُلِكتْ أقلّ،

وهذا هو ما شكَّلَ الفارقَ كلّه."

 

هذه هي، بالطبع، قصيدةُ "الطريق التي لم تُسلَكْ" لروبرت فروست. في الإعلان التجاريّ، لم يُصرَّحْ بهذا الأمر؛ إذ يُتوقَّع من الجمهور معرفةُ القصيدة من دون مساعدة. لكنْ أن يميِّز أيُّ جمهورٍ كبيرٍ قصيدةً ما، فذلك أمرٌ غيرُ اعتياديّ (لو شئنا التلطيفَ). أمّا أن يميّز جمهورٌ من زبائن السيّارات في نيوزيلندة قصيدةً كُتبتْ قبل مئة عامٍ، وفي بلدٍ يَبْعد ثمانية آلاف ميلٍ عنهم، فذلك أمرٌ مختلفٌ كلّيًّا.

ولكنّ هذه ليست أيّةَ قصيدة. إنّها قصيدة "الطريقُ التي لم تُسلَكْ،" التي تلعب دورًا فريدًا لا في الأدب الأميركيّ فحسب، بل في الثقافة الأميركيّة ـــ وفي ثقافة العالم ــ أيضًا. ولقد انتشرتْ عباراتُها الجذّابةُ، بل أمست جزءًا من كلّ شيء ــــ من أكواب القهوة الخزفيّة إلى المغناطيسات المعلّقة على البرّاد إلى خطابات التخرّج ــــ حتى بات من الممكن نسيانُ أنّ القصيدةَ قصيدةٌ حقًّا. وعلاوةً على الإعلان التّجاريّ الخاصّ بشركة فورد، فقد استُخدمتْ عبارةُ "الطريق التي لم تُسلَكْ" في إعلاناتٍ تجاريّةٍ تخصّ أقراصَ النعناع "منتوس،" وشركةَ "نيكوريت،" وشركة التأمين الملياريّة AIG، وموقعَ البحث عن عمل Monster.com الذي وَظَّف القصيدة بنجاحٍ كبير في المباراة النهائيّة لكرة القدم الأميركيّة في دورتها الرابعة والثلاثين [عام 1999]. كما اقتُبستْ أبياتُها في حفلات الموسيقيّين، ومنهم (ضمن كثيرين آخرين): بروس هورنسْباي، وميليسا إيثريدج، وجورج سترايت، وطالب كويلي. وقُدّمت القصيدةُ عناوينَ لحلقاتٍ تلفزيونيّةٍ في أكثر من عشرة مسلسلات، من بينها: تاكسي، وذا توايْلايْت زونْ، وباتلستار غالاكتيكا؛ علاوةً على اقتباس اسمها في لعبة فيديو واحدةٍ على الأقلّ، هي رود ناتْ تيْكِن لشركة سبراي فوكس ("فيديو للعبة ألغاز عن النجاة من مفاجآت الحياة"). وكما قد يتوقّع المرءُ، فقد كان تأثيرُ "الطريق التي لم تُسلَكْ" أكبرَ بكثير لدى الصحافيّين والمؤلّفين: فخلال الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية وحدها، ظهرتْ مقتطفاتٌ من قصيدة فروست في حوالى ألفيْ قصّةٍ خبريّةٍ في أرجاء العالم كافّةً، أيْ بمعدّل أكثر من ظهورٍ واحدٍ أسبوعيًّا. كذلك ظهرتْ عنوانًا، أو عنوانًا فرعيًّا، أو ترويسةَ فصلٍ، في أكثر من أربعمئة كتابٍ لمؤلّفين (بخلاف روبرت فروست) يتناولون مواضيعَ تتراوح بين النظريّة السياسيّة ورؤيا الزومبي الوشيكة. وقد نجح مثالٌ واحدٌ منها على الأقلّ في أن يصبح الأكثرَ  مبيعًا على مستوى العالم وبشكلٍ ساحق: وهو الدليلُ الإرشاديُّ لـ م. سكوت بِكْ،الطريق التي سُلِكتْ أقلّ: سيكولوجيا جديدة عن الحبّ والقيمِ التقليديّة والنماءِالروحيّ، الذي صدر بطبعته الأولى سنة 1978، وبيع أكثرُ من سبعة ملايين نسخة منه في الولايات المتحدة وكندا.

ونظرًا إلى شيوع أبيات فروست، فلن يكون من المفاجئ أن نعرفَ أنّ رواجَ قصيدة "الطريق التي لم تُسلَكْ" قد فاقَ رواجَ أيّة قصيدةٍ أميركيّةٍ شهيرةٍ أخرى في القرن العشرين، بما في ذلك القصيدةُ التي غالبًا ما تُعدّ أكثرَ القصائد مركزيّةً في الحقبة الحديثة (والحداثيّة). من المسلَّمات أنّه يَصْعب الحكْمُ على شعبيّة الشعر: فالقصائد التي تَجذب المربّين قد لا تستهوي القرّاءَ، لذا فإنّ ورودَ قصيدةٍ بعينها في المختارات والمناهج الدراسيّة لا يَكشف الكثيرَ بالضرورة؛ أما مبيعاتُ الدواوين فتؤشّر على رواج شاعرٍ بعينه أكثرَ من كونها دليلًا على رواج قصيدةٍ بعينها. ولكنْ ثمّة سببان على الأقلّ للاعتقاد أنّ "الطريق التي لم تُسلَكْ" هي القصيدة الأميركيّة الأكثرُ قراءةً واستحضارًا في القرن الماضي (وربما يمكن حذفُ صفة "الأميركيّة"). السبب الأول هو موقع "مشروع القصيدة المفضَّلة،" الذي أطلقه الشاعرُ الأميركيّ المُتوَّج السابق، روبرت بِنسكي. فقد استثمر بِنسكي دورَه العموميّ ليطلبَ إلى الأميركيّين ذكْرَ قصيدتهم المفضّلة؛ فكانت القصيدةُ المفضَّلةُ، التي حصدتْ أكثرَ من ثمانية عشر ألف صوت، هي "الطريق التي لم تُسلَكْ."

أما السبب الثاني، الأشدّ إقناعًا، فيأتي من غوغل. إذ ثمّة أداةٌ اسمُها "غوغل إنسايتس للبحث،" كانت، حتى توقُّفها عن الخدمة أواخرَ العام 2012، تتيح لأيّ شخصٍ معرفةَ مدى استخدام تعابير محدَّدةٍ في كافّة أرجاء العالم عبر الزمن، وتقارِن أيضًا بين رواج هذه التعابير. وقد طوّعَ غوغل المعطياتِ لتأخذَ في الاعتبار اختلافاتِ السكّان المناطقيّة، وحوّلها إلى مقياسٍ يتدرَّج من 1 إلى100، ثمّ أعلن النتائجَ بحيث يمكن تبيّنُ الفوارق النسبيّة في مجال البحث. إليكم النتيجةَ التي أوردها غوغل عند مقارنة "الطريق التي لم تُسلَك" و"فروست" من جهة، بعددٍ من القصائد الحديثة الأشهر وبمؤلّفيها من جهة ثانية ــــ علمًا أنّ جميعَ هذه القصائد غالبًا ما تُدرَّس إلى جانب أعمال فروست في المناهج الجامعيّة الخاصّة بالشعر الأميركيّ في النصف الأول من القرن العشرين:

 

مُدخَلات البحث

حجم البحث المَقِيس عالميًّا

“Road Not Taken” + “Frost”

48

“Waste Land” + “Eliot”

12

“Prufrock” + “Eliot”

12

“This Is Just to Say” + “Carlos Williams”

4

“Station of the Metro” + “Pound”

2

 

 

تبعًا لغوغل، إذًا، بُحث عن "الطريق التي لم تُسلَكْ،" حتى منتصف العام 2012، على الأقلّ أربعة أضعافِ ما بُحث عن [قصيدة إليوت] "الأرض اليباب،" وهي النصّ المركزيّ في الحقبة الحداثيّة، وعلى الأقلّ أربعةً وعشرين ضعفَ ما بُحث عن ["محطّة المترو"] قصيدةِ باوند الأكثر حضورًا في المختارات. وبالمقارنة، فإنّ هذا أكبرُ من الفارق بين عبارة "كرة القدم الجامعيّة" من جهة، و"الرماية بالسّهام" و"بولو الماء" من جهةٍ أخرى. ونظرًا إلى علاقة فروست الشّائكة عمومًا بجميع أقرانه تقريبًا (وَصَفَ فروست باوند مرّةً بأنّه يحاول أن يصبح مبتكرًا عبر "تقليدِ شخصٍ لم يُقلَّدْ مؤخّرًا")، فإنّ بإمكان المرء تخيُّلَ البهجة التي كانت ستمنحه إيّاها هذه الأخبارُ.

ولكنْ كما يعلم الجميعُ، فإنّ الشعر ، في ذاته، ليس مقروءًا على نحوٍ  واسع. لذا فأنْ تكونَ قصيدةٌ ما هي الأكثرَ انتشارًا، فذلك يماثِل أن تكونَ سَلَطةٌ ما هي الأكثرَ طلبًا في مطعمٍ يقدّم لحمَ الستيك. فكيف كانت حالُ "الطريق التي لم تُسلَكْ" إزاء منافسةٍ أقسى قليلًا؟ الجواب: أفضلَ ممّا قد تعتقدون: 

 

مُدخَلات البحث

حجم البحث المَقيس عالميًّا

“Road Not Taken” + “Frost”

47

“Like a Rolling Stone” + “Dylan”

19

“Great Gatsby” + “Fitzgerald”

17

“Death of a Salesman” + “Miller”

14

“Psycho” + “Hitchcock”

14

 

بل إنّ النتائج أعلاه ستغدو  أكثرَ  إثارةً للإعجاب حين نعْلم أنّ عبارة "الطريق التي لم تُسلَكْ" تعرّفُ خطأً في العادة على أنّها "الطريقُ التي سُلِكتْ أقلّ،" الأمرُ الذي يقلّل حجمَ البحث المُدرج تحت عنوان القصيدة الفعليّ (مثلًا، أنتَجَ البحثُ عن "قصيدة فروست الطريق التي سُلِكتْ أقلّ" أكثرَ من مئتيْ ألف نتيجة، لم يُحتسبْ أيٌّ منها في   البحث أعلاه). لقد زعم فروست مرّةً أنّ هدفَه، كشاعر، هو "أن يَنقشَ عدّةَ قصائد يَصْعبُ التخلّصُ منها"؛ ويبدو أنّه في حالة "الطريق التي لم تُسلَكْ" قد نقَشَ أبياتَه في حجرٍ من الغرانيت! وبالاستناد حرفيًّا إلى هذا الأساس، فقد تكون هذه القصيدةُ هي أشهرَ نصٍّ أدبيٍّ كتبه أميركيٌّ على الإطلاق.

***

لقد أخطأ الجميعُ تقريبًا فهمَ المسألة. فالنقطة الأبرز بشأن "الطريق التي لم تُسلَكْ" ليست رواجَها الواسعَ (اللافتَ في ذاته)، بل رواجها للأسباب الخاطئة على ما يبدو. وإنّه لمن الجدير التوقّفُ هنا للتشديد على حقيقةٍ هي من الوضوح بحيث إنّنا غالبًا ما نستخفُّ بها: وهي أنّ معظمَ المشاريع الفنيّة التي حظيتْ بالحفاوة مشهورةٌ لأنّها تُحقّق ما زعمتْه أساسًا. فعندما نستمع إلى أغنية "عيد الميلاد الأبيض" في كانون الأول (ديسمبر)، نفترض محقّين أنّها أغنيةٌ عن الذاكرة والحنين تتركّز على صورة الثلج المنهمر في عيد الميلاد. وعندما نقرأ يوليسيز لجويس، نَفترض محقّين أنّها قصّةٌ مركّبةٌ عن رحلة حول دبْلن، تَرْشَحُ عبر أصواتٍ وأساليبَ كثيرةٍ. قد تكون "الوجبة" الثقافيّة بسيطةً أو مركّبةً، مطبوخةً أو نيّئةً، ولكنّ جمهورَها يعْلم دائمًا تقريبًا نوعَ الطعام المُقدَّم.

ديفيد أور:

كاتب عمود عن الشعر في مجلّة نيويورك تايمز بوك ريفيو. نال جائزة نونا بالاكيان التي تمنحها لجنةُ نقّاد الكتاب القوميّ الأميركيّة. نُشرتْ مقالاتُه في نيويوركر، وبويتري، وسليت، ويال ريفيو.

غير أنّ قصيدة فروست تَقْلب هذا التوقّعَ رأسًا على عقب. ففي حين يَعتبر معظمُ القرّاء قصيدةَ "الطريق التي لم تُسلَكْ" تسبيحًا بالتأكيد الانتصاريّ للذات ("لقد اخترتُ تلك[الطريقَ] التي سُلِكتْ أقلّ")، فإنّ المعنى الحرْفيّ لأبيات القصيدة ذاتِها يبدو متعارضًا كليًّا مع هذا التأويل. فراوي القصيدة يُنبئنا بأنّه "سيروي،" في لحظةٍ ما من المستقبل، كيف اختار الطريقَ التي سُلِكتْ أقلّ؛ لكنّه كان قد أقرَّ من قبلُ بأنّ الطريقيْن "كلتيْهما امتلأتْ/ بأوراق..." وبأنّ " العبورَ عليهما قد أنهكهما بقَدْرٍ مماثلٍ تقريبًا." إذن فإنّ الطريق التي سيَعْتبر لاحقًا أنها سُلِكتْ أقلّ هي، في الحقيقة، الطريقُ التي سُلكتْ بالقَدْر  ذاته [الذي سُلكتْ به الأولى]! وعليه، فإنّ الطريقيْن قابلتان لأن تُستبدلا إحداهما بالأخرى.

بحسب هذه القراءة، إذًا، سيدّعي الراوي "بعد أزمانٍ وأزمان" أنّ قرارَه لم يشكّل "الفارقَ كلّه" إلّا لأنّ هذا هو نمطُ الادّعاء الذي نُبْديه عندما نريد إراحةَ أنفسِنا أو لومَها عبر  الافتراض أنّ وضعَنا الحاليّ إنّما هو نتاجُ خياراتنا (لا ما اختِير لنا أو خُصّص لنا بالمصادفة). القصيدة، إذن، ليست احتفاءً بفردانيّة القدرة على الفعل؛ وإنّما هي تعقيبٌ على ما نمارسُه من خداعٍ للذات عندما ننسج قصّةَ حيواتنا. قد تكون قصيدةُ "الطريق التي لم تُسلَكْ،" بحسب صياغةٍ جديرةٍ بالتذكّر للناقد فرانك لنتريتشيا، "المثالَ الأفضلَ في الشعر الأميركيّ بأسْره عن الذئب الذي يرتدي ثوبَ الخروف." ولكنْ في وسعنا الذهابُ أبعدَ من ذلك: فقد تكون المثالَ الأفضلَ في الثقافة الأميركيّة بأسْرها عن الذئب الذي يرتدي ثوبَ الخروف.

وبهذا فإنّ هذه القصيدة تشبه مبدعَها بقوّة. ففروست هو الشخصيّة الأدبيّة البارزة الوحيدة في التاريخ الأميركيّ التي تملك جمهورَيْن متمايزَيْن، يَفترض أحدُهما عادةً أنّ الثاني مخدوع. الجمهور الأول صغيرٌ نسبيًّا، ويتكوّن من الناذرين أنفسَهم للشعر، الذين يَسْكنون الشكلَ الفنيّ للثقافة الفرعيّة الأكاديميّة. بالنسبة إلى هؤلاء القرّاء، فإنّ فروست هو عمدةُ المناهج والحلقات الدراسيّة، وموضوعٌ دائمٌ في المقالات البحثيّة (بالرغم من أنّه يبتعد كثيرًا عن إثارة الانتباه التي يتمتّع بها إزرا باوند ووالاس ستيفنز). إنّه يُعتبَر كئيبًا، سوداويًّا، معقّدًا، وتلاعبيًّا؛ شاعرًا أصيلًا، لا أثرًا تاريخيًّا مثل لُونْغْفيلو، أو غنائيًّا شعبيًّا ككارل ساندبرغ.  فروست ليس الشاعرَ الأكثرَ اعتبارًا بين شعراء بدايات القرن العشرين، بل ثمّة قلّةٌ قليلةٌ جدًّا من قرّاء الشعر المتحمّسين تعتبره مجرّدَ كاتبٍ لبطاقات المعايدة.

ثم لدينا جمهورٌ ثانٍ. وهذا هو الشريحة الكبرى من القرّاء، من جميع المراحل العمريّة، القادرين على استحضار أبياتٍ قليلةٍ من [قصائد فروست]: "الطريق التي لم تُسلَكْ،" و"متوقّفًا عند غابةٍ في مساءٍ مثلج،" وربما "ترميم الجدار" أو "البتولا،" ويَعتبرون فروست أميركيًّا نموذجيًّا بالمعنى الذي يعتبرون فيه [الأغنية الوطنيّة] "أمواج القمح الكهرمانيّة" أغنيةً أميركيّةً نموذجيّة. بالنسبة إلى هؤلاء القرّاء (أو هذا ما يَفترضه الجمهورُ الأوّلُ غالبًا)، فإنّ فروست ليس كئيبًا أو  تهكّميًّا، بل رمزٌ  لرواقيّة اليانكي والحكمةِ الريفيّة. هذا الجمهور كبير. بل تشير النماذجُ البحثيّة لمستخدمي غوغل إلى أنّ الأقرانَ الفعليّين لفروست، في ما يخصّ الرّواجَ، ليسوا باوند أو ستيفنز أو إليوت، بل شخصيّات كبابلو بيكاسو وونستون تشرشل. فروست ليس ذلك الطائرَ النادرَ فحسب، أو مجرّدَ شاعرٍ  رائج؛ إنّه من أشهر الشخصيّات في الأعوام المئة الماضية في أيّ مجالٍ ثقافيّ. في التاريخ الأميركيّ كلّه، كان الكاتبان الوحيدان اللذان استطاعا موازاةَ حضوره، أو  فاقاه، هما مارك تويْن وإدغار آلن بو؛ وكان الشاعرُ الوحيدُ الذي استقطب اهتمامًا أكبرَ منه في تاريخ اللغة الإنكليزيّة هو وليم شكسبير.

هذا المستوى من الحضور يسبّب شعورًا بعدم الارتياح لدى قرّاء الشعر. فالشعراء، كما نَفترض، ليسوا رائجين ـــ على الأقلّ بعد العام 1910 تقريبًا. ولئن أصبح أحدُهم رائجًا، فهو [في نظر قرّاء الشعر] إمّا أن يكون صاحبَ موهبةٍ من الدرجة الثانية، فهو يتملّقُ الذائقةَ العامّةَ (كما يُعتبَر ساندبرغ في أغلب الأحيان)؛ وإمّا أنّه لا بدّ أن يكون في الأمر خَلْطٌ أو خداعٌ ما. وينطبق التفسيرُ الأخيرُ عمومًا على رواج فروست. وقد وصفه روبرت لويل  ذات مرة [بعد أمسية شعريّة] فقال: "روبرت فروست عند منتصف الليل، وقد تبخّر الجمهورُ، فاستلقى العرضُ العظيمُ على الرفّ [محفوظًا بين كُراتِ العثّ]."(1)

 "العرض العظيم" هو من أجل "الجمهور" من القرّاء العاديّين، ولكنّ معجبيه الحقيقيّين يدركون الأمرَ على نحوٍ  أعمق. إنّه ذئبٌ حقًا، كما قد نقول، ووحدَها الخرافُ تُخدَع. وإنّه لتفسيرٌ شجّعه فروست نفسُه أحيانًا، مثلما اعتاد على التّباهي، في مراسلاته الخاصّة، بالحيلة الكامنة في "الطريق التي لم تُسلَكْ" (كتب إلى صديقه لويس أنترماير مثلًا: "أراهنُ أنّ حفنةً قليلةً بإمكانهم تحديدُ مَنْ اهتدى، وأين اهتدى، إلى مغزى الطريق التي لم تُسلَكْ"). بهذا المعنى، فإنّ القصيدة مُرمَّزة. ومثلما أنّ ملايين الناس يَعرفون كلامَها عن الطريق التي "سُلِكتْ أقلّ" من دون أن يفهموا ما يعنيه هذا الكلامُ فعلًا، فثمّة ملايين من الناس يَعرفون مؤلّفَها من دون أن يفهموا ما كان يفعله حقًا.

ولكنْ هل هذا الرأيُ في "الطريق التي لم تُسلَكْ" وفي مبدعِها دقيقٌ تمامًا؟ القصائد، في نهاية المطاف، ليست محاجّات ــــ إنّها تُؤوَّل ولا تُبرهَن، وتحتمل عمليّةُ التأويل تلك مروحةً واسعةً من الاحتمالات، يَدعم بعضَها الأسلوبُ، وبعضَها النبرةُ، وبعضَها انعطافاتُ الشكل والبنية. ومن المؤكّد أنّ من الخطإ القولَ إنّ "الطريق التي لم تُسلَكْ" احتفاءٌ مباشرٌ  ووجدانيٌّ بالفردانيّة؛ فهذا التأويل يتعارض مع أبيات القصيدة ذاتها. ومع ذلك، فليس من الصحيح تمامًا القولُ إنّ القصيدة مجرّدُ نكتةٍ أدبيّةٍ فطنةٍ متخفّيةٍ في بيتِ شعْرٍ في مجلةٍ ناصلةِ اللون، وإنّ هذا البيت قد تمكّن بطريقةٍ ما من خداع ملايين القرّاء طوال مئة عام. إنّ دورًا منتحَلًا بدهاءٍ أكبرَ ممّا ينبغي يتوقّف عن كونه دورًا ليصبح نوعًا من الهويّة ــــ وهذه ملاحظةٌ تنطبق على روبرت فروست نفسه. كتب أحدُ أعظم المدافعين عن فروست، الباحث ريتشارد بوارييه، في ما يخصّ رواجَ فروست بين القرّاء العاديّين، أنْ "لا مغزى من محاولة التقليل من شأن الرّواج، كما لو كان اعتقادًا خاطئًا يعزّزُه التكلّفُ." وللسبب ذاته، فلا مغزى من محاولة التقليل من شأن القراءات الخاطئة لـ "الطريق التي لم تُسلَكْ" كما لو كانت هذه القراءاتُ خطأ تعزّزُه الحيلةُ. إنّ هذه القصيدة تدور حول الفردانيّة ولا تدور حولها في آن، كما أنّها تدور حول تسويغ [أفعالِ البشر] ولا تدور حوله في آن. إنّها ليست ذئبًا بثوب الخروف بقدْر ما هي ذئبٌ هو خروفٌ أيضًا على نحوٍ ما، أو خروفٌ هو ذئبٌ كذلك. إنّها قصيدةٌ عن ضرورة الاختيار، ولكنّها،  شأن مؤلّفها، لا تُقْدِمُ على خيارٍ قطّ ـــ بل تعود بنا مرارًا وتكرارًا إلى مفترقِ الطرق المُلغِز ذاتِه، المظلَّلِ بأوراق الشجر.

 

 

 

*نُشر المقال في باريس ريفيو (11 أيلول/سبتمبر 2015). وهو مُجتزأ من أحدث كتب ديفيد أُور، الطّريق التي لم تُسلَكْ: إيجاد أميركا في القصيدة التي يحبّها الجميع، ويخطئ الجميعُ تقريبًا فهمَها (مجموعة بنغوين للنشر، 2015).

(1) هامش المترجم: لويل هنا يصف فروست بعد ندوة شعريّة أمام جمهوره، مشيرًا إلى  قدرته على سحْر الجمهور وإبهارهم، لينتهي مفعولُ القصائد مع انتهاء العرض. راجع: https://wordrustler.wordpress.com/2010/08/14/the-case-for-the-poetry-of-...

 

يزن الحاج

كاتب ومترجم سوريّ. أصدرَ مجموعةً قصصيّة، وترجم عددًا من الكتب عن الإنكليزيّة. يكتب في جريدة الأخبار اللبنانية.

له: شبابيك (قصص، 2011).