محمّد علي في عزّه سيُعتبَر "متطرّفًا" في بريطانيا اليوم*
19-06-2016

 

دِلِي حسين

ترجمة: يزن الحاج

 

يوم السبت تفجَّعَ ملايينُ الناس في العالم على وفاة أعظم بطل ملاكمة في الوزن الثقيل في العالم، محمّد عليّ، الذي توفّي عن أربعة وسبعين عامًا. كان محمّد عليّ يعاني مرضَ پاركنسن مُزمنًا، ورحل أخيرًا نتيجةً لقُصورٍ تنفّسيّ.

صدرتْ كتبٌ وأفلامٌ هوليووديّة عن هذه الشخصيّة الأسطوريّة، التي عاشت حياةً لامعةً فوق حلبة المصارعة وخارجها. وُلد لعائلةٍ معمدانيّةً في الجنوب الأميركيّ المتّسم بالفصل العنصريّ، وكان اسمُه قبل إسلامه كاسْيُسْ كلاي، قبل أن ينضم إلى "أمّة الإسلام" بعيْد تغلّبه على سوني ليستِنْ، ليصبح بطلَ العالم في الوزن الثقيل سنة 1964.

تميّزتْ مسيرةُ الملاكمة عند محمّد عليّ بالحركة السريعة، واللكماتِ الجبّارة، وغرورٍ [أو زهوٍ] شاعريٍّ لا ينتهي. وصار نجاحُه الرياضيّ مرادفًا لذيوع صيته في وصفه "سُلطة ثقافيّة،" مكتسبًا قلوبَ الملايين وعقولَهم بحديثه الفصيح وأفعالِه الحازمة. فقد قاده رفضُه القتالَ في ڤيتنام إلى السجن، وإلى حرمانِه لقبَ بطولة الوزن الثقيل للعام 1966. كما ناضل من أجل الحريّات المدنيّة وحقوقِ الإنسان، وأدّى دورًا محوريًّا في حركة الحقوق المدنيّة السوداء الأميركيّة، وجال جميعَ أرجاء العالم خاطبًا ودَّ الناس على اختلاف مواقفهم، وطبقاتِهم، وألوانِهم، وعقائدِهم.

لكنْ، مع كل تلك الذكريات المثيرة المرنطْقة التي نحفظها عن محمّد علي، لم يكن ثمّة شكٌّ في أنّ مرضه المُزمن أرخى بشدّةٍ على شخصيّته الناريّة. بل الحقّ أنّ محمّد علي الذي تتذكّره غالبيّةُ الناس وتُجلّه كان محمّد عليّ الشابَّ الذي كان يقول الأشياء كما هي، بلا وجل، متجاهلًا المفاهيمَ الاعتباطيّة لـ"الصراط السياسي المستقيم" (political correctness) التي كانت تفرضها عادةً بُنى السُّلطة البيضاء في زمنه.

دِلِي حسين:

نائب رئيس التحرير في الموقع الإخباريّ الإسلاميّ البريطانيّ 5Pillars، ويكتب أيضًا في هفنغتن پوست، والجزيرة (الموقع الإنكليزي)، وفورين بوليسي.

وكانت للمسلمين، في المملكة المتّحدة وخارجها، صلةٌ خاصّةٌ بمحمّد عليّ، هي صلةُ الإيمان والأخوّة الإسلاميّة. فقبل بزوغ "الحرب على الإرهاب" والإسلاموفوبيا الممأسسة بفترةٍ طويلة، كان قد عارضَ وكشف العنصريّة الدولتيّة التي تسم أكبرَ قوّةٍ عظمى في العالم: الولايات المتّحدة الأميركيّة. وبلا ريب، فلو أنّ محمّد علي الشابّ، الذي يتذكّره الجميع بحنينٍ كبير، قال وفعل في بريطانيا اليوم ما قاله وفعله آنذاك، فسيُصنَّف حتمًا "متطرّفًا غيرَ عنيف" (a non-violent extreme). قد يبدو ما أقولُه على شيءٍ من الشَّطَط، ولكن اسمحوا لي بأن أشرح السبب.

 

المنع (Prevent): كانت آراءُ محمّد عليّ الدينيّةُ والسياسيّةُ بغيضةً بالتأكيد بالنسبة إلى بُنى السُّلطة الإمبرياليّة البيضاء في عصره. بل الواقع أنّ بإمكان المرء أن يُحاجج، بثقةٍ، أنّ هذه الآراء ذاتها ستكون اليومَ مُدانةً وخاضعةً لرقابةٍ شديدةٍ من قِبل بعض المؤسّسات الليبراليّة الغربيّة.

ولكنْ، ضمن سياق "استراتيجيّة المنع" (Prevent Startegy) المضادّة للإرهاب، والتي تُعَدّ أهمّ استراتيجيّات حكومة المملكة المتّحدة (وأشدَّها إخفاقًا)، كان محمّد عليّ سيُصنَّف، بالتأكيد، "متطرّفًا غير عنيف،" وربّما كان سيواجِه الملاحقة الاعتباطيّة والرقابة والتجريم التي يعانيها في العام 2016 كثيرٌ من المسلمين البريطانيّين ذوي الآراء المعارضة الصريحة.

فلنقارنْ بإيجازٍ بعضَ آراء محمّد علي السياسيّة والدينيّة، ولنرَ كيف تتعامل الحكومة البريطانيّة مع آراءٍ مماثلة.

 

الدّمج (Integration): في مقابلةٍ سنة 1971 مع مقدّم أحد البرامج في بي بي سي، مايكل پاركنسن، عبَّرَ محمّد عليّ عن آرائه بشأن الدمج بين السُّود والبِيض. وفي موقف يعبّر عن قناعةٍ لا تساوم ولا تهادِن، فسَّرَ محمّد عليّ كيف أنّ البشر يميلون بالطبيعة إلى العيش والتفاعل الاجتماعيّ مع "أبناء جلدتهم" ــــــ وأنّ فرضَ الدَّمج بين بشرٍ ينتمون إلى أعراقٍ ودياناتٍ مختلفة سيكون أمرًا "غيرَ طبيعيّ." قارِنوا الآن هذا الرأي مع مقاربة ديڤيد كاميرون "العضليّة" [العدوانيّة] للدّمج، ومع فرضه "القيم البريطانيّة" معيارًا لتمييز "المتطرّفين" مِن غيرهم.

 

إسرائيل: سنة 1984، قال محمّد عليّ في مؤتمر صحافيّ في بيروت إنّ "الولايات المتّحدة هي معقِل الصهيونيّة والإمبرياليّة." وفي زيارةٍ لاحقةٍ إلى مخيّميْن للاجئين الفلسطينيّين، ورد أنّه قال: "أعلن دعمي لنضال الفلسطينيّين من أجل تحرير وطنهم." إذن، في الوقت الذي تَعْتبر فيه الحكومةُ الحاليّة في المملكة المتحدة، و"أنصارُ طوني بلير" في يسار الوسط، أنّ مقاطعة البضائع الإسرائيليّة "تطرّفٌ،" ستُصنَّف تعليقاتُ محمّد عليّ عن "نضال الفلسطينيّين لتحرير وطنهم" بأنّها خطابُ كراهيةٍ "جهاديٌّ معادٍ للساميّة."

 

الحرب والدّين: عندما رفض محمّد عليّ القتالَ في صفوف الجيش الأميركيّ في حرب ڤيتنام، صرَّحَ بوضوح شديد أنّ الإسلام لا يُجيز له قتلَ أناسٍ أبرياء في حربٍ ظالمة. هذا التّعليق أسيء تأويلُه على نطاقٍ كبيرٍ حين اعتُبر محمّد عليّ من دعاة السلميّة (pacifist) ــــــ وهذه إساءةُ تمثيل فادحة لموقفه. فالحال أنّ السلميين لا يلكمون الناس في وجوههم ويكسرون أضلاعهم ليؤمّنوا قوت يومهم؛ ومضى محمّد علي ليقول إنّه يُفضّل "الموتَ في أميركا وهو يقاتل" المؤسّسةَ العنصريّةَ البيضاء على [القتال ضدّ] بلدٍ أجنبيٍّ لم يُؤذِهِ ناسُه يومًا أو ينتزعوا حقوقه أو يسمّوه(1) n***er .

تخيّلوا الآن ما سيحدث لمسلمٍ لو أنّه رفض القتالَ في صفوف الجيش البريطانيّ بحسب التجنيد الإلزاميّ، وأعلن أنّه يفعل ذلك بسبب دينه الإسلاميّ، وصرّح بأنّه يفضّل الموتَ في المملكة المتحدة وهو يقاتل حكومةَ كاميرون على قتالِ ما يُسمّى "[تنظيم] الدولة الإسلاميّة" أو "طالبان" أو صدّام حسين. على أقلّ تقدير ستذبحُه وسائلُ الإعلام، وربما سيُعتقَل ويُتَّهم بالتحريض على العنف أو حتّى بالخيانة.

 

العنصريّة: ربّما كان أكثر ما اشتُهر به محمّد عليّ هو ثباتُه على إبراز المظالم التي يواجهها الأميركيّون السود. فقد كان الصحفيون يسألونه بانتظام عن آرائه بشأن العِرق، وكان يواصل الإدلاء بتصريحات جريئة دفاعًا عن جماعته، فاضحًا بحزمٍ العنصريّةَ المتجذّرةَ للحكومة الأميركيّة، وللمجتمع الأميركيّ على نطاقٍ أوسع.

قارِنوا ذلك بالناشطين والباحثين المسلمين، وأعضاء مجالس المساجد المسلمين، الذين يعارضون "استراتيجيّة المنع" [في المملكة المتحدة] لكونها سياسةً عنصريّةً وإسلاموفوبيّة (رُهابيّة)، تستهدف المسلمين من دون تمييز. خلال السنتين الماضيتين، كانت أيّةُ معارضةٍ صريحةٍ لسياسة "المنع" [الرسميّة]، على أساس أنّها عنصريّةٌ وإسلاموفوبيّةٌ وشديدةُ القسوة، تُنتَقَد بشدّةٍ من طرف الحكومة البريطانيّة، ومن طرفِ دُماها، بالقول إنّ تلك المعارضة رطانةٌ دفاعيّةٌ يؤدّيها "أنصارُ النكوص" و"المتعاطفون مع الإرهاب."

أيّ محمد عليّ يجب أن نفتقد إليه؟

المواقف المذكورة أعلاه ليست إلّا غيضًا من فيض الآراء الأكثر مدعاةً للجدل، التي اعتنقها محمّد عليّ، وكانت ستُعتبَرُ إشكاليّةً بلا أدنى شكّ من جانب بنى السُّلطة اليوم. لكنّ الناس أحرارٌ في الاحتفاءِ بما ينتقونه من آرائه تبعًا لنظرتهم الخاصّة إلى العالم، وتبعًا لانحيازاتهم، وجهلهم المتأصّل. غير أنّ الواقع هو أنّ ما جعل محمّد عليّ "عظيمًا" وقتها هو الآراء ذاتُها التي ستصمه "متطرّفًا" في بريطانيا اليوم.

نعم، كان ملاكمًا ورياضيًّا عظيمًا. ونعم، كان خطيبًا ساحرًا وشاعرًا عظيمًا، ذا حسّ فكاهةٍ فريد. وبالطبع، كان ناشطًا مبدئيًّا ناصرَ المساواةَ والحريّاتِ المدنيّةَ عبر معارضته للعنصريّة بجميع أشكالها القبيحة. وكان، بلا شكّ، فردًا جاهرَ برأيه ضدّ الاضطهاد والحروب اللاشرعيّة. ونعم، اعتنق الصوفيّة في أواخر حياته. ولكنّ الواقع، في سياق هيمنة مجتمع المراقبة المناهضة للإرهاب بعد [تفجيرات] 11 أيلول، هو أنّ محمّد علي، المُجاهر بدفاعه عن المُضطهَدين، والمطالب بمحاسبة رجال السُّلطة، كان سيُلاحَقُ ويُطارَدُ اليوم بسبب انشقاقه السياسيّ. محمّد عليّ المبدئيّ، الذي دعم الحقوقَ المدنيّة وحقوقَ الإنسان وعارضَ العنصريّةَ، كان أيضًا مناهضًا صارمًا للصهيونيّة، وكان سيوصَمُ اليوم بأنّه "معادٍ للساميّة" من طرف الحكومة البريطانيّة وداعمي إسرائيل. لكنّ الحقيقة المرّة هي أنّ محمّد علي الذي نتذكّره جميعًا اليوم هو الذي سيُصنَّف "متطرّفًا غيرَ عنيف"  تبعًا لـ "استراتيجيّة المنع" [الرسميّة في المملكة المتّحدة].

وكما كتب الكاتبُ الرياضيُّ السياسيُّ الشهير ديْڤ زِرِنْ مؤخّرًا: "لم يكن ثمّة رياضيٌّ في أيّ زمنٍ عُرضةً لشتائم وسائل الإعلام السائدة ولمضايقات الحكومة الأميركيّة، ومحبوبًا على نحوٍ طاغٍ في كافّة أنحاء العالم، أكثر ممّا كان محمّد عليّ. لكن، الآن، يكاد لا يُذكر هذا المحمّد علي، الذي كان المُحفِّزَ على إدخال قضايا العنصريّة والحرب إلى الرياضة الاحترافيّة."

سيّداتي وسادتي، لا تسمحوا للأقوياء والجبّارين، ولمُحرّكي الاضطهاد الصناعيّ ومثيريه وفارضيه، أن يختطفوا إرثَ محمد عليّ بـ"رثاءاتهم" المنافقة التي لا معنى لها. بل تخيّلوا، للحظةٍ فقط، كيف كان هؤلاء الناس أنفسُهم سيُعامِلون محمّد علي الثائرَ والمتمرّدَ الشاب في عزّه!

 


* نُشر المقال في موقع Middle East Eye:

http://www.middleeasteye.net/columns/muhammad-ali-his-prime-would-be-ext...

1-  nigger: كلمة تحقيريّة يطلقها العنصريّون على الإنسان الأسود. (المترجم)

يزن الحاج

كاتب ومترجم سوريّ. أصدرَ مجموعةً قصصيّة، وترجم عددًا من الكتب عن الإنكليزيّة. يكتب في جريدة الأخبار اللبنانية.

له: شبابيك (قصص، 2011).