حوار مع رئيس اتحاد كتّاب المغرب الدكتور عبدالرحيم العلّام
15-10-2015

س: شكّلت "المناظرة الوطنيّة للثقافة" (يناير 2015) منعطفًا أساسيًّا في تاريخ اتحاد كتّاب المغرب، حيث إنّها، بخلاف المناظرتيْن السابقتين اللتين سهرتْ مؤسّساتُ الدولة على تنظيمهما وتوجيههما، تُعتبر المناظرةَ الأولى التي أشرف عليها الاتحادُ . فما هي الحصيلة التي انتهى إليها مسؤولو الاتحاد؟ وما هو الدور الحقيقيّ الذي انخرط فيه بعد صياغة بيان طنجة الثقافيّ؟ وأيّ أفق ثقافيّ صار الاتحاد يرنو إليه؟

ج: بالفعل، نظّم الاتحاد، ولأوّل مرة في تاريخه، "المناظرة الوطنيّة حول الثقافة المغربيّة" بتاريخ 9 و 10 يناير 2015، في بيت الصحافة بمدينة طنجة، وذلك بعد مناظرتيْن سابقتيْن من تنظيم وزارة الثقافة: الأولى سنة 1986 بتارودانت، والثانية سنة 1992 بفاس. فشعورًا من الاتحاد، باعتباره من أهمّ مكوّنات المجتمع الثقافيّ المدنيّ منذ أزيد من خمسين سنة، بضرورة مواصلة الانخراط الفعّال في صلب أسئلة الثقافة المغربيّة، فقد ارتأى أن يبادر، وهو يحتفي بـسنة 2015 "سنةً للثقافة المغربية،" إلى تنظيم مناظرة وطنيّة حول الثقافة المغربيّة، بمشاركة عديد الفاعلين والمهتمّين في الشأن الثقافيّ الوطنيّ من داخل المغرب وخارجه، فضلًا عن تمثيليّة المؤسّسة التشريعيّة وعديد القطاعات والهيئات والمراكز والجمعيّات الوطنيّة. كما واكب فعّاليّاتِ هذه المناظرة ضيوفُ الاتحاد، من موريتانيا والجزائر وتونس ومصر وفرنسا والتشيك وروسيا. وتمّ التوقيع على وثيقة إحياء الاتحاد بما يخدم الثقافة في بلداننا المغاربيّة وفق مشروع ثقافيّ مغاربيّ نهضويّ داعمٍ للتحوّل الديموقراطيّ، ومستجيبٍ لتطلّعات المجتمعات المغاربيّة.

جاء تنظيمُ هذه المناظرة الجديدة في سياق عامّ يتعلّق بالتحوّلات التي عرفها مجتمعُنا في السنوات الأخيرة، وبما أفرزته من إصلاحاتٍ معزِّزةٍ لخياراتٍ تحديثيّةٍ مهمّة، وخصوصًا ما يتعلّق بالإعلاء من شأن مختلف مكوّنات الثقافة المغربيّة، والعناية بمؤسّسات المجتمع المدنيّ ودعم أدواره في تقوية العمل المؤسّسيّ. وهذا ما دفع بمنظمتنا إلى الانخراط في تقييم محصِّلة العمل الثقافيّ المغربيّ، وفي الجدل القائم حول أسئلة عديدة ومتشابكة بغاية بلورة التصورات التي قد تُسعِفنا بالمخارج المناسبة لمستقبلنا الثقافيّ.

الدكتور عبد الرحيم العلاّم

 

 هذا التناظر حول معضلات الثقافة المغربيّة جعلنا نقف على جملة توصيات من شأن أجرأتها أن تعمل على تحويل المشروع الثقافيّ الوطنيّ إلى قاطرةِ إسنادٍ لاستكمال تحديث مجتمعنا، موازاةً مع اللحظة التاريخيّة التي تعيشها بلادُنا اجتماعيًّا وسياسيًّا. وقد دعا الاتحاد، في هذا الإطار، إلى الاستمرار في بناء هويّة مغربيّة تتّسم بديناميّة التنوّع والتعدّد والتأثّر والتأثير، وطنيًّا وجهويًّا وكونيًّا، مؤكّدًا الاهتمامَ بالثقافة المغربيّة والنهوض بمختلف أشكال التعبيرات الثقافيّة والفنيّة، وفق مقاربة تشاركيّة فعّالة بين الحكومة والبرلمان والمجتمع المدنيّ. وطالب بالإسراع في إعمال المقتضيات الدستوريّة الجديدة المرتبطة بقضايا الهويّة والتعدّد الثقافيّ واللغويّ والشباب والمرأة والمجتمع المدنيّ، والإسراع بتفعيل المقتضيات الدستوريّة المتصلة بالجهويّة الموسّعة. وأكّد ضرورة النهوض بالدبلوماسيّة الثقافيّة لما لها من أهميّة في خدمة القضايا الوطنيّة والدوليّة في أبعادها الثقافيّة والسياسيّة.

 

كما دعا الاتحادُ كافّة المسؤولين إلى الإسهام في تنزيل نتائج المناظرة الوطنيّة وتوصياتها بما يخدم المشروعَ الديموقراطيّ الحداثيّ المنشود. ونحن في صدد وضع اللمسات الأخيرة لإصدار كتاب المناظرة الوطنيّة حول الثقافة المغربيّة، لعرضه على مختلف الجهات المعنيّة ببلادنا. كما أنّنا في صدد التنسيق مع الاتحادات المغاربيّة لوضع النصوص التنظيميّة الكفيلة بإعلان انطلاق قطار الثقافة المغاربيّة، لعلّ ما أفسدتْه السياسةُ تصلحه الثقافة.

 

س: حين يخرج الاتحاد من شرنقة النشاطات المناسباتيّة، تُطرح بجدّيّةٍ أكبر مسألة أفقه التنظيميّ.  فهل مراجعة البنية التنظيميّة  مطلبٌ مشروعٌ في هذه المرحلة؟

ج: كان الاتحاد في جلّ مؤتمراته يضع البنية التنظيميّة محطّ مراجعة وتعديل. والمؤتمر الثامن عشر الأخير خير دليل على المجهود الكبير الذي بذلته اللجنةُ التحضيريّة للمؤتمر، والمساهمون في أشغال المؤتمر نفسه، في إدخال التعديلات اللازمة على القانون الأساس للاتحاد، بما يساير التطور العامّ الذي تعرفه منظمتنا، في سياق يشهد بدوره منعطفاتٍ جديدةً ومؤثّرة.

ومن مظاهر النجاح القويّ الذي حقّقه المؤتمرُ الأخير انتخابُ رئيس الاتحاد في الجمع العامّ، من منطلق مراهنة الجميع على تحصين الاتحاد من الهزّات، كتلك التي تعرّض لها في الماضي، على اعتبار أنّ الرئيس، في هذه الحالة، سيكون مسنودًا بثقة المؤتمرين، ومطوّقًا بأمانة المنظمة والمحافظة عليها؛ وهذا يساهم في ترسيخ قيم الثقافة الديموقراطيّة على مستوى تدبير شؤون منظمتنا، ويتماشى وروحَ المطالب المجتمعيّة المتطلّعة إلى الديموقراطيّة والعدالة.

هذا فضلًا عما حقّقه المؤتمرُ على مستوى اعتماد تمثيليّة لافتة للمرأة في أجهزة الاتحاد (30 بالمائة) لأول مرة في تاريخه. وهو ما يحثّ الكاتبات على أن يكتبن وينشرن وينخرطن في العمل الجمعويّ ويتحمّلن المسؤوليّة فيه.

ورغم أنّ المؤتمرِين ذوو خلفيّات فكريّة وحزبيّة مختلفة، فإنّ النقاش انصبّ على المسألة الثقافيّة، وعلى مآل الاتحاد كمنظمة ثقافيّة مستقلّة. وكشاهدٍ ومشاركٍ في هذا الخضمّ أقول إنّ المؤتمر الأخير قد أحدث قطيعة مع الأساليب التقليدية، وتُعتبر لحظةُ انتخاب الرئيس محطّةً فاصلةً مع أسلوب التوافق الذي كان يتمّ بطرق ملتوية. غير أنّ الأمر لا يتعلّق بالبنية التنظيميّة بقدر ما يتعلّق بضرورة مراعاة التطورات التي حدثتْ في واقعنا العامّ.  فنحن ما زلنا نتحدث عن الاتحاد بالمنظور الذي كان سائدًا في سبعينيّات القرن الماضي، علمًا أنّ تحولات كثيرة قد طرأتْ على مشهدنا الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، ما يستدعي منا مواكبتَها بما يلزم من وفاء للمبادئ العامة التي تأسس عليها الاتحاد، من قبيل الحفاظ على استقلاليّته والوفاء لقيمه ولتوصيات مؤتمراته وقرارات مجالسه الإداريّة.

 

س: مسألة العضويّة في الاتحاد كانت تخضع منذ التأسيس لشروط صارمة، وكان الفوز بالعضويّة حلمًا لكلّ مَن انخرط في الشأن الثقافيّ. لكنّنا بدأنا نلاحظ في الآونة الأخيرة سهولةً في الانتساب. فهل هذه السياسة راجعة إلى رؤية جديدة قائمة على روح الانفتاح، أمْ أنّ الأمر متعلّق بخلق قاعدة انتخابيّة ينتفع بها يومَ المؤتمر كما يرى البعض؟

 

ج: بالعكس، أضحى الانتساب إلى الاتحاد أصعبَ من ذي قبل، خصوصًا بعد المراجعات المتتالية التي لحقتْ بالموادّ المتعلّقة بالعضويّة وشروطها. هذا من دون أن ننسى ما تعْرفه قاعدةُ الكتّاب وإنتاج الكتب في بلادنا من توسّع مقارنةً بالعقود الأولى من تاريخ الاتحاد: فالاتحاد في بدايات تأسيسه كان في حاجة إلى أعضاء؛ وأمام ندرة الكتّاب آنذاك، كان بابُ الانتماء مفتوحًا على مصراعيه أمام المحامين والتشكيليين والصحفيين وغيرهم؛ ثم وضع الاتحادُ شروطًا للانتماء إليه، ممثّلةً في قبول كلّ مَن نَشَرَ كتابًا بل مقالاتٍ صحفيّة؛ لكنّنا اليوم رفعنا سقفَ تلك الشروط، فألزمْنا صاحبَ الطلب بضرورة التوفّر على كتابيْن منشوريْن على الأقلّ، ثم تُعْرض الطلباتُ على لجنة للعضويّة والتحكيم منتخبةٍ في المؤتمر العامّ ــ وقد رُفع عددُ أعضائها من ثلاثة إلى خمسة، من جيلي الروّاد والشباب ــ  بهدف تحصين عمل اللجنة وتوسيع قاعدة التشاور في الطلبات المعروضة، مستندةً إلى تنزيل حقيقيّ للمعايير المحدّدة في القانون الأساس للاتحاد.

الاتحاد ليس منظّمة  جماهيرية، بل الانتساب إليه مقصور على الكتاب ــ  لكنْ ليس كلّ الكتاب، وإنّما مَن تتوفّر فيهم الجدارةُ  والإنتاج. هناك مَن ينتقد الاتحادَ لأنّه فتح أبوابه بتسامح كبير للشباب. ولكنّ الانتماء إلى الاتحاد مفتوح أمام مختلف الفئات العمريّة، بدليل أنه أحدث منذ عشرين سنة جائزةً للأدباء الشباب لتحفيزهم على الكتابة والعطاء؛ ومن ينل منهم الجائزة يصبح ـ آليًّا ـ عضوًا في الاتحاد، شريطة أن يتقدّم بطلبٍ شخصيّ.

ولا شكّ في أنّ الانتماء إلى الاتحاد ذو قيمة رمزيّة واعتباريّة، ليس فقط بالنسبة إلى المبتدئين من الكتّاب، بل إلى المكرّسين أيضّا. وهو أمر يعكسه تزايدُ عدد طلبات العضويّة، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الاتحاد، شعورًا من الجميع بأنّ هذا الانتماء انتماءٌ إلى خيمة ثقافيّة آمنة، برصيدها الرمزيّ والنضاليّ، وانتماءٌ إلى أفق ثقافيّ يؤمن بقيم الحريّة والعدالة والاختلاف والصراع المثمر.

 

س: يرى مهتمّون بالشأن الثقافيّ المغربيّ أفولَ الإشعاع الثقافيّ للاتحاد وتراجع أنشطته. فهل تقرّون بصواب هذا الرأي؟ وإذا كان الأمر غير ذلك، فهل ثمّة ملامح استراتيجيّة ثقافيّة للاتحاد اليوم؟

 

ج-  أجد الأمر مخالفًا لما يدّعيه هذا البعض. فما حصل هو أنّ ثمة تحوّلات يعرفها المغربُ اليوم، والعالمُ ككلّ، وواكب ذلك تبدّلٌ في الأدوار، بما فيها دورُ المثقف والثقافة أيضًا. وإذا كان الاتحاد وحده في الساحة بالأمس، يإشعاعه الثقافيّ وبمواقفه الانتقاديّة المؤثرة، وخصوصًا في سبعينيّات القرن الماضي، فقد تغيّرت الأوضاعُ اليوم، وظهر العديدُ من الجمعيّات التي خرجتْ من معطف الاتحاد ــ وهو تجلّ إيجابيّ ومنافسة شريفة ما دامت كلّ جمعيّة تشتغل لخدمة مشهدنا الثقافيّ والأدبيّ وفق قناعاتها وإمكانيّاتها الخاصة، خصوصًا أمام تزايد الكتّاب والمبدعين وتنوّع مجالات اهتماماتهم وتزايد النصوص والأعمال الفنيّة.

ومع ذلك، فإنّه لا يمكن أن نزعم أنّ إشعاع الاتحاد، بمختلف هياكله، وبخاصةٍ فروعه النشيطة، من طنجة إلى الأقاليم الصحراويّة الجنوبية، قد تراجع. يكفي أن أشير إلى طبيعة أشكال الحضور المؤسساتيّ والعربيّ والدوليّ المتجدّد الذي عمل الاتحادُ على ترسيخه في تجربته الأخيرة، سواء على مستوى المهرجانات والملتقيات التي ينظّمها (وعلى رأسها تنظيمه للمناظرة الوطنيّة حول الثقافة المغربيّة)، أو الإصدارات التي نشرها؛ فضلًا عن توسيع فضاء علاقاته الداخليّة والخارجيّة، وطبيعة البيانات  والنداءات التي عبّر عنها، من قبيل:  بيانه حول تراجُع العمل السياسيّ لدى الحكومة والمعارضة؛ وبيانه حول حجب جائزة المغرب للكتاب ـ  صنف الشعر؛ ونداء الصحراء بخصوص النهوض بتنمية الأقاليم الجنوبيّة (بالعيون)؛ ونداء الحدود بخصوص توطيد الأواصر بين الشعبين الشقيقين المغربيّ والجزائريّ (بوجدة)؛ ونداء تازة بخصوص دعم الكتاب والقراءة؛ ونداء إلى الأحزاب من أجل الاهتمام بالثقافة ضمن برامجها السياسيّة، وغيرها.

تضاف إلى ذلك التقاريرُ التي ساهم بها الاتحاد، من قبيل: تقديمه لتقارير مكتوبة حول إصلاح الثقافة والشأن الثقافيّ بالمغرب، إلى رئاسة الحكومة الحاليّة، بناءً على طلبها، للتفاعل معه في إعداد برنامجها الحكوميّ؛ وتقريره حول إدماج الشباب في الثقافة، وقد قُدّم  إلى وزارة الشباب والرياضة والمجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ والبيئيّ؛ وتقريره حول إصلاح منظومة التربية والتكوين، وقد عرضه  على وزارة التربية الوطنيّة والتكوين المهنيّ وعلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلميّ؛ وتقريره حول الرأسمال غير الماديّ في الثقافة والفنون، وقد رفعه  إلى المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ والبيئيّ. فضلًا عن مساهمته في مقترحيْ قانونيْن، عرضهما على الفريق الاشتراكيّ في مجلس النوّاب: الأول حول "تنزيل المجلس الوطنيّ للغات والثقافة المغربيّة،" والثاني حول "أجرأة اللغة الأمازيغيّة."

إلى جانب عديد الاتفاقيّات والشراكات التي نسجها الاتحادُ مع المؤسّسات الوطنيّة، ومع الهيئات والإطارات المماثلة، داخل المغرب وخارجه، من فرنسا شمالًا إلى الصين وكوريا الجنوبية شرقًا.

ورغم ذلك، فإنّي أؤمن بالبحث عن مفاهيم جديدة وتصوّرات مغايرة للعمل الثقافيّ، وبتجديد التفكير في الأدوار التي يجب أن يضطلع بها اتحادُنا اليوم. وهذه هي الرغبة التي عبّر عنها الجميعُ في مناسبات سابقة، كما في اليوم الدراسيّ الذي نظمه الاتحادُ حول مستقبل هذه المنظمة، احتفاءً بالذكرى الخمسين لتأسيسه، في موضوع "اتحاد كتّاب المغرب: التحولات ورهانات المستقبل." كما اقترح المشاركون صياغة استراتيجيّة ثقافيّة شاملة ومتكاملة، تستند إلى تحديد البرامج الثقافيّة العامّة والقطاعيّة، وتحويل الاتحاد إلى إطار واسع، قد يشْرف عبره على مؤسّسات تؤطّر، قانونيًّا وتشريعيًّا، تدخُّلَ الاتحاد في الممارسة والفعل الثقافييْن. وهذا يستدعي مراجعةَ الترسانة القانونيّة للاتحاد، وتحديدَ مهامّ المكتب التنفيذيّ ورمزيةِ الرئاسة في تسيير شؤون الاتحاد وإدارته، ومراجعةَ مقاييس منح العضويّة ودورِ الفروع. كما يستدعي مراجعة طبيعة علاقة الاتحاد بالدولة والمؤسّسات وباقي الجمعيات، وجدوى الشراكة الثقافيّة، أخذًا في الاعتبار ما يمثّله الاتحادُ من خصوصيّة، ووفق ما يقترحه دستورُ المغرب الجديد بالنسبة إلى الإبداع والثقافة.

 

س: سؤال آخر يتعلق بروح الديمقراطيّة داخل الاتحاد: أليس هناك احتكارٌ للرأي واستبدادٌ في اتخاذ القرار، الأمر الذي دفع إلى خروج مجموعةٍ من الكتّاب والمثقفين المغاربة منذ سنوات من الاتحاد وبناء منظمةٍ أخرى، هي "رابطة أدباء المغرب،"  بقيادة الناقد سعيد يقطين والروائيّ أحمد المديني؟

ج- الاتحاد ليس منظمة حكوميّة أو نقابة سياسيّة، بل جمعية ثقافيّة لازالت، للأسف الشديد، تشتغل بمنطق التطوّع، وفق مجهود كلّ عضو، وما تسمح به إمكانيّاتُه ووقته، خصوصًا أنّ تحمّل المسؤوليّة داخل أجهزة الاتحاد لا ولن يفضي إلى تحقيق أيّ مكاسب شخصيّة، وإلّا لكان كلّ من مرّ في الأجهزة المسيّرة للاتحاد قد حقّق غنائمَ كبيرة. فكيف نتحدث عن احتكار للرأي أو استبداد في اتخاذ القرار؟ هذا، في اعتقادي، يُعتبر تنقيصًا من حجم حضور الرأي الآخر داخل أجهزة الاتحاد، بل وتنقيصًا من صوت باقي الأعضاء في الهيئة المسيِّرة!

إنّ التحول المتواصل في المنظومات القيميّة يفرض على الاتحاد أن يراجع أسلوبَ عمله وفق المثاليّات القديمة التي منحت الكتّابَ والمثقفين أدوارًا تفوق حجم فعلهم

لقد تعوّدنا في الاتحاد أن نشتغل وفق روح العمل الجماعيّ والتشاركيّ. كما تعوّدنا أن تُتّخذ القرارات في إطار اجتماعات رسميّة للمكتب التنفيذيّ، وبالأغلبيّة، حسب ما ينصّ القانونُ الأساسُ للاتحاد، ووفق محضرٍ رسميّ تسجّل فيه جميعُ وقائع الاجتماعات وخلاصاتها وقراراتها. ومع ذلك، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاتحاد كان دائًما يعرف أشكالًا معيّنةً من الصراعات والتجاذبات وردود الفعل. لكنّ ذلك كان يتمّ بشكل ديموقراطيّ وشفّاف ومسؤول، لا وفق منطق الغيرة العمياء أو الحسد أو الضغينة. كانت جميع الأمور تُحسم، داخل أجهزة الاتحاد، وخصوصًا داخل مؤتمراته العامّة؛ أيْ بما يخدم مصلحة الاتحاد واستمراريّته ومستقبله، لا نزوات البعض وقناعاتهم التدميريّة.

 ولقد تبيّن أنّ كلّ ردود الفعل السابقة المتسرّعة تجاه هذه المنظمة، والتي لا تستند إلى منطق ديموقراطيّ وعقلانيّ، غيرُ ذات جدوى، ولا تخدم مصالح الاتحاد. فحتى تأسيس "رابطة أدباء المغرب" في بداية الألفيّة الجديدة، وكنّا قد رحّبنا آنذاك بولادتها رغم معرفتنا المسبّقة بخلفيّات تأسيسها، لم تقضِ على الإطار الأصل، الذي هو الاتحاد؛ والدليل هو أنّ الرابطة انتهت بعد أن استنفدتْ دورها، في حين بقي الاتحاد حاضرًا وشامخًا.

إنّ الحاجة، اليوم، إلى الاتحاد مرتبطة بتطوير أشكال حضوره الثقافيّ، وأدائه المؤسّسيّ في الفضاء الجمعيّ. فأمام المنافسة المتزايدة في المجال الثقافيّ المغربيّ، ينبغي التفكير في كيفيّات تفعيل أدوات العمل الثقافيّ في الاتحاد، بالصورة التي تمنحه حضورًا يناسب نوعيّةَ التحوّل الذي يعرفه الفضاءُ الثقافيّ في بلادنا. ولن يتمكن الاتحاد من أداء هذا الدور إلّا بفتح نقاش جديّ حول تجربته التي صنعها الجميع، ومن حقّ المنتسبين الجدد والقدامى أن يصوغوا اليوم أبرزَ خلاصاتها.

لقد ظلّ الاتحاد، منذ تأسيسه في العام 1961، عنوانًا بارزًا في مشهدنا الثقافيّ. كما ظلّ مؤسّسةً ملتزمةً بقيم الحداثة والحريّة والإبداع، حريصًا على توسيع مساحة تلك القيم والدفاع عنها من أجل استشراف ثقافة مغربيّة حديثة منحازة إلى المثل المذكورة. فضلًا عن أنّه ما فتئ يواكب المتغيّرات الجديدة التي تعرفها بلادنا بغاية بلورة برامج مبتكرة وطموحة لتوطين القيم التي تأسّس الاتحاد عليها، بهدف المحافظة على المكاسب وتطويرها؛ ونقصد هنا تحديدًا الدفاع عن الحرية في مجالات الإبداع، ومواجهة الثقافة النكوصيّة الماضويّة التي تنتصر لقيم التقليد غير المنتج.

ولا تفوتني هنا الإشارة إلى متغير ذي طبيعة كونيّة؛ أقصد الخلخلة الحاصلة في منظومة القيم في مجتمع يتعولم، مجتمعٍ لم يعد محكومًا بأواصرِ التقليد وحدها، بل تتجاذبه قيمٌ بديلة أفرزتها العولمةُ الشاملة  التي تكتسح عالمَ اليوم. ومن هنا، فإنّ التحول المتواصل في المنظومات القيميّة يفرض على الاتحاد أن يراجع أسلوبَ عمله وفق المثاليّات القديمة التي منحت الكتّابَ والمثقفين أدوارًا تفوق حجم فعلهم. فالفاعل الثقافيّ اليوم يزاحمه فاعلون آخرون، والمجتمعُ لا يتحرّك  بفعل فاعلين من فئة اجتماعيّة بعينها، ولذا فإنّ تعاضد "الأفعال المؤثّرة" يعدّ المنظور الأنسب لفهم وضعية المثقف واستبدال الرؤية الطوباويّة بنظرة غير متعالية على الواقع.

لقد ظل الاتحاد فضاءً للحوار الثقافيّ الأكثر حداثة، مُعزِّزًا لجبهة الفكر التاريخيّ النقديّ، جبهةِ الإبداع والحريّة والتحديث، وعاملًا على ترسيخ أفعال التجريب المبدع في مجال التخييل، وإنشاء فنون القول الجميل، إبداعًا ونقدًا وتشكيلًا ومعمارًا. كما يعمل على تأطير كل هذه الأشكال من النشاط الثقافي والفني، رغم شُحِّ الموارد الماليّة وانعدام الوسائل  المساعدة .

إنّ ميثاق الحداثة الذي بلوره المؤتمرُ الخامس عشر للاتحاد يحتاج، بسبب المتغيرات الحاصلة اليوم في مجتمعنا، إلى أفق في التفكير والتفعيل، ليظلّ الاتحاد مطوِّرًا للمكاسب الثقافيّة التي ساهم في صنعها.

المغرب

عبد الحقّ لَبيض

أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة