إيلان پاپه: إسرائيل آخر مشروعٍ كولونياليّ ــــ استيطانيّ فاعل متبقٍّ*: مناقشة لنوام تشومسكي، وبيرني ساندرز، وحركة ما بعد الصهيونيّة
28-05-2016

 

مقابلة أجراها: إيلاي ماسي

خذ الصورةَ الجماعيّةَ التي تبنيها إسرائيلُ عن الفلسطينيين، واسألْ نفسكَ إنْ لم يكن ذلك في الحقيقة وصفًا جيّدًا جدًّا للصهيونيّة نفسِها.

في تسعينيّات القرن العشرين، كانت ثمّة حركةٌ تتنامى في إسرائيل تُشكّك في الأساطير المُؤسِّسة للدولة [الصهيونيّة]. كان "المؤرِّخون الجدد" الإسرائيليّون من بين مَنْ تحمّلوا مسؤوليّةَ ما سُمّي لاحقًا حركة "ما بعدالصهيونيّة،" إذ أقرّوا بوجود الفلسطينيّين، واعترفوا مباشرةً بالفظاعات الجماعيّة التي ارتُكبتْ من أجل تأسيس دولةٍ يهوديّة. عكَس المؤرّخون الجدد الإسرائيليّون، مثل حركة ما بعد الصهيونيّة نفسِها، طيفًا واسعًا من الفكر الإيديولوجيّ المتراوح بين مَنْ سُمّوا الصهاينة الليبراليّين (مثل بِني موريس) والمناهضين للصهيونيّة (مثل إيلان پاپه).

اشتُهر پاپه، أكثرَ ما اشتُهر، بكتابه التطهير العِرقيّ لفلسطين، الذي أكسبه سمعةً سيّئةً، ولكنّه حاجَجَ ــــ بإقناعٍ ــــ أنّ الدولة اليهوديّة تأسّستْ بفعل التطهير العِرقيّ الجماعيّ للسكّان الأصليّين، الفلسطينيّين. في العام 2007، انتقل پاپه إلى المملكة المتّحدة، حيث يدرّس حاليًّا في جامعة إكستر، بعد تلقّيه تهديداتٍ بالقتل بسبب تضامنه الصريح مع الفلسطينيّين، ودعمِه لحركة المقاطعة وسحبِ الاستثمارات وفرضِ العقوبات على إسرائيل (BDS).

أحدُ كتب پاپه الأخيرة، الذي صدر الآن بطبعة الغلاف الورقيّ، وعنوانُه فكرة إسرائيل، هو توصيفٌ تاريخيٌّ ــــــــ جغرافيٌّ مهمٌّ للصهيونيّة الحديثة. يعالج پاپه الأساطيرَ المُؤسِّسة لإسرائيل، فضلًا عن حركة ما بعد الصهيونيّة، وردّ "الصهاينة الجدد، "علاوةً على عرضِ تعقيباتٍ وتاريخٍ للشخصيّات الرياديّة المناهضة للصهيونيّة، وتمثيل إسرائيل للفلسطينيّين والمزراحيّين (أو اليهود العرب). وكما يُوحي العنوانُ الفرعيّ، "تاريخٌ للقوّة والمعرفة،" فإنّ پاپه يَستخدم المناهجَ المطروحة في كتاب إدوارد سعيد، الاستشراق، ليَسبر أغوارَ الصهيونيّة وعِلّةَ وجود الدولة اليهوديّة، مُحلِّلًا الإيديولوجيا، ومتفحّصًا ما يكشف عنه كلُّ عنصرٍ بشأن إسرائيل.

تحدّثتُ مع پاپه عن حركة ما بعد الصهيونيّة، ونوام تشومسكي، وسياسة بيرني ساندرز، والمناهضين البارزين للصهيونيّة.

***

ما العوامل التي اتّحدتْ وأفضت إلى قيام حركة ما بعد الصهيونيّة؟

بعد العام 1973، بدأتْ عناصرُ نقديّةٌ في المجتمع، وأعضاءٌ من جماعاتٍ أكثرَ تعرّضًا للتهميش والاضطهاد، مثل اليهود العرب والنساء، بطرح أسئلةٍ أكثرَ جدّيّةً عن الدولة والأمّةِ وما وراء الإيديولوجيا التي يُفترَض أنّها تربطهم بعضَهم ببعض. منذ سنة 1973 لم تخضْ إسرائيل حربًا كبيرة؛ نعم، خاضت صداماتٍ عسكريّةً في لبنان مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة وحزبِ الله، ومنذ ذلك الحين مع حماس في غزّة، ولكنّ هذه لم تكن حروبًا تستقطب المجتمعَ [الإسرائيليّ] بأسْره، كما حدث في حروب 48 و67 و73.

الوضع هادئٌ نسبيًّا في إسرائيل. وفي الهدوء النسبيّ ستعجز، مثلًا، عن القول لليهود الذين جاؤوا من شمال أفريقيا، وعاشوا في أحياءٍ فقيرةٍ، إنّ عليهم البقاءَ هناك لأنّ الأولويّة للأمن. فالأولويّة لم تكن للأمن في العامين 74 و75، وآنذاك انطلقتْ حركاتُ الاحتجاج لدى يهود شمال أفريقيا؛ وكانت فرصةً سانحةً كذلك للاشتراكيّين والشيوعيّين كي يتأمّلوا الواقعَ الذي يعيشون فيه. كان هذا الهدوءُ النسبيّ أحدَ العوامل.

ثانيًا، عام 1982، الحرب العدوانيّة على لبنان. حصلتْ أنذاك عمليّةٌ عسكريّةٌ [إسرائيليّة] ضدّ لبنان، وكان ثمّة إحساسٌ بأنّ ثمة ما يُريب في الطريقة التي أُنبئنا فيها كإسرائيليّين عن أسباب الحرب. وقد تأكَّدَ هذا الإحساسُ مع الانتفاضة الأولى [نهايةَ العام 1987]، وذلك عند رؤية فلسطينيّين عُزَّلٍ يقاومون الاحتلالَ. لم يكن سهلًا تصديقُ الپروپاغندا الإسرائيليّة أنّ ما يحدث كان "إرهابًا،" و"معاداةً للساميّة،" وما إلى ذلك من تسمياتٍ استخدمها الإسرائيليّون لتفسير سبب العنف ضدّ دولة إسرائيل.

ثم إنّ مبادرة السلام التي أطلقها الرئيسُ المصريّ الراحل أنور السادات بين العاميْن 77 و79 حطّمتْ أسطورةَ "غياب طرفٍ عربيّ" يتحاور معه الإسرائيليون. إذ فجأةً أبدى زعيمُ أكبرِ دولةٍ عربيّةٍ استعدادَه لمدّ يد السلام. هذا الفعلُ أيضًا تحدّى الأساسَ الجوهريَّ أو الميثولوجيا [الإسرائيليّة].

 

ما سببُ الاستجابة "الصهيونيّة الجديدة" الشديدة الرجعيّة؟ بالتأكيد أدّت الانتفاضةُ الثانية [2000] دورًا أساسيًّا.

ثمّة رأيٌ يقول إنّ الانتفاضة الثانية أظهرتْ لبعض هذه الأصوات الإسرائيليّة النقديّة أنّهم كانوا ساذجين، وأنْ ليس ثمّة طرفٌ فلسطينيٌّ يمكن التحدّثُ إليه، وأنّ الانتفاضة الثانية أظهرت "الوجهَ الحقيقيَّ المتصلّبَ" لمعظم الفلسطينيّين والعرب إزاء إسرائيل. هذا الرأي لا أتبنّاه. ولكنّه التفسير الذي ستسمعه من "بني موريس" مثلًا.

كانت تلك ذريعةً. فلقد أحسّ معظمُ هؤلاء [الإسرائيليين النقديين] ـــــــ لا جميعُهم ــــــــ أنّهم شطّوا وبالغوا [في انتقاد المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة]. كما أنّهم لم يستسيغوا الثمنَ الذي دفعوه، إذ عوملوا كخونةٍ إلى حدٍّ ما؛ وهذا ليس بالإحساس الجميل. لذا، كانوا يبحثون عن عذرٍ للتراجع. ولهذا عايشنا جميعًا هذه mea culpas بعد العام 2000(1): إنّها استخدامُ الانتفاضة الثانية ذريعةً للقول إنّنا كنّا مخطئين. مقالاتٌ شهيرةٌ عديدةٌ لكتّابٍ كانوا يُعتبَرون جزءًا من النقد ما بعد الصهيونيّ، بل من النقد المناهض للصهيونيّة أيضًا، لم تكتفِ بالقول "كنّا مخطئين،" وإنّما تبنّت كذلك ما أسمّيه "النيوصهيونيّة،" وتبنّت تحديدًا تأويلاتٍ ونسخًا صهيونيّةً أشدَّ تصلّبًا من التأويلات الكلاسيكيّة التي كانت قبل ظهور ذلك النقد. 

إيلاي ماسي:

محرّر متدرّب لربيع العام 2015 في موقع inthesetimes.com. تخرّج حديثًا من جامعة لورنس، وقد أخذه عمله الصحفيّ إلى الهند والشرق الأوسط. يمكنكم متابعته على تويتر EliMassey@

 

ذكرتَ بِني موريس، أحدَ "المؤرّخين الإسرائيليّين الجدد" وهو يُسمّى "صهيونيًا ليبراليًّا." لقد افترقَ مع كثيرٍ من "المؤرّخين الجدد" الآخرين، محاججًا ــــ على سبيل المثال ــــ بأنّ "ثمّة ظروفًا في التاريخ تُبرِّر التطهيرَ العِرقيّ،" وأنّه "كان من الضروريّ اقتلاعُ [الفلسطينيّين]" لتشييد دولةٍ يهوديّة. ما الذي قاده إلى مثل هذه الاستنتاجات التي تختلف عن استنتاجاتك، على الرغم من عمله على مادّةٍ تاريخيّةٍ متماثلة؟

موريس جزءٌ من ظاهرة، ولكنّه أشهرُ من الآخرين. موقفه موقفٌ "صهيونيّ ليبراليّ" نموذجيّ. أصحابُ هذا الموقف يأملون أنّك لو بكيتَ بعد إطلاقكَ النارَ؛ لو قلتَ: "نعم، كنتُ مخطئًا جزئيًّا، وهناك أمورٌ لم يكن ينبغي لي أن أفعلها"؛ لو قلللتَ ذلك فسيقول الطرفُ الآخر: "يا لَسَخائكَ! نحن مستعدّون من الآن فصاعدًا لقبول إرشادك إيّانا إلى الطريقة المثلى لبناء حياةٍ جديدة." وهذا ما توقّع الإسرائيليّون حدوثه في أوسلو.

لكنّ الأمر لم يجْرِ على هذا النّحو. فأن تَعترفَ بحصول مجازر، وخصوصًا بحصول عمليّات تهجيرٍ للفلسطينيّين سنة 1948، يعني أنّ عليك الانتقالَ إلى المرحلة الثانية، وهي تحمُّلُ المسؤوليّة. عليك، في هذه الحال، احترامُ حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين.

هذا أمرٌ لم يكن موريس مستعدًّا لفعله. وهنا بدأ الصّدامُ: بين تأويلِه لما وجده، وتأويلِ الفلسطينيين لما وجده. ولكنّ موريس لم يكن وحيدًا في ذلك. فما كشفناه، كيهودٍ إسرائيليّين نقديّين، كان ينبغي أن يقودَنا، في رأيي وفي رأي معظم الفلسطينيّين، إلى أن نصبح مناهضين للصهيونيّة، ومعارضين لجوهر فكرة الصهيونيّة والدولة اليهوديّة. أمّا الجماعة الأخرى [الصهيونية الجديدة] فظنّت أنّ ما وجدناه قد بيَّنَ لنا "استثنائيّةَ" أخلاقيّتنا وصلاحنا؛ وهذا ما تستطيع رؤيتَه في كتاب آري شفيط الجديد [أرضُ ميعادي: انتصارُ إسرائيل ومأساتُها]. إنّها الفكرةُ ذاتُها: وهي أنّ هذه الرحلة النقديّة إلى الماضي تؤكّد "حقَّنا" في البقاء ضمن الإطار الإيديولوجيّ لدولةٍ يهوديّةٍ إلى أبد الآبدين.

هاتان خُلاصتان متعارضتان تمامًا من هذه الرحلة النقديّة.

 

وصفتَ موريس بأنّه "صهيونيّ ليبراليّ." أوَيُمكن أن يكون المرءُ ليبراليًّا وصهيونيًّا معًا، أمْ أنّ ذلك تضاربٌ في المصطلحات؟

هو تضاربٌ بالطبع. إنّه مثلُ "الديمقراطيّة اليهوديّة": اجتماعُ لفظيْن متناقضيْن.

الصهيونيّة هي آخرُ حركةٍ أو مشروعٍ كولونياليٍّ ــــــــ استيطانيٍّ فاعلٍ متبقٍّ. الكولونياليّة الاستيطانيّة، بإيجاز، هي مشروعُ إحلالٍ وتهجير، استيطانٍ وترحيل. ولمّا كان هذا هو المشروعَ الصهيونيّ، أيْ أن تستوليَ على وطن أناسٍ آخرين فلا تشبعَ حتّى تشعرَ أنّك أخذتَ ما يكفي من الأرض وتخلّصتَ بما يكفي من السكّان الأصليّين؛ ما دمتَ تشعر أنّ هذا المشروع لم يكتمل بعدُ، فستستمرُّ فيه.

ولذلك، فإنّ مشروعًا كهذا يستند إلى الإقصاء وسلبِ الإنسانيّة، لا يمكن أن يكون ليبراليًّا. لا يمكن أن يكون اشتراكيًّا. لا يمكن أن يكون أيَّ أمرٍ كونيٍّ [شاملٍ] لأنّه إيديولوجيا تسعى إلى مساعدةِ جماعةٍ [ما] على التخلّص من جماعةٍ أُخرى من البشر؛ في حين أنّنا في معظم القيم الكونيّة نحاول تقديمَ الإرشاد إلى كيفيّة عيش البشر معًا، لا عيشِ أحدهم بدلًا من الآخر. 

 

يبدأ كتابُك باقتباسٍ من يوسف غورني (Yosef Gorny)، وهو أستاذٌ جامعيٌّ يبحث في الصّهيونيّة، يقول: "يُشير التأمّلُ المتّزنُ والموضوعيُّ في الوقائع إلى أنّ الصهيونيّة... قد نجحتْ في تحقيق معظم أهدافها." هذا صحيح إلى حدٍّ ما؛ فلقد تأسّستْ دولةٌ يهوديّةٌ فعلًا. غير أنّ هذه الإيديولوجيا تستلزم كذلك قمعًا هائلًا، وسيطرةً عنيفةً، و"صيانةً" متواصلةً. لِمَ نجحت الصهيونيّةُ، ولِمَ أخفقتْ، وكيف؟ 

من المهمّ إدراكُ كيفيّة تعريف غورني لنجاح الصهيونيّة. فهو يقول إنّ الصهيونيّة هي مشروعُ التحديث الناجحُ الوحيدُ خارج أوروبا. بالنسبة إليه، ينبغي الحُكمُ على هذا المشروع بالنجاح لا لمجرّد إيجاده مكانًا لليهود، أو لإنشائه دولةً يهوديّةً، بل لأنّه سيكون ــــــ في الوقت ذاته ـــــــ نموذجًا لجميع المُثُل التي آمنتْ بها أوروبا أو الغربُ. إذًا، لا بدّ [بحسب هذا المنطق] من أن تكون إسرائيلُ مجتمعًا غربيًّا "نموذجيًّا" ــــ وأظنُّ أنّ هذا هو إخفاقُ إسرائيل الأكبرُ.

بالطبع نجح الإسرائيليون في هزيمة الفلسطينيّين الضعفاء. وتلاعبوا بذكرى المحرقة [النازيّة] تلاعبًا كبيرًا لكي يحوزوا الدعمَ الدوليَّ لمشروعهم الكولونياليّ ـــــ الاستيطانيّ، في وقتٍ كانت فيه الكولونياليّةُ تفقد علاقاتها الإيجابيّة العامّة. وأوجدوا لأنفسِهم مكانًا في العالم العربيّ الذي كان مُقسَّمًا، ومُشقّقًا، ومُفتَّتًا بطريقةٍ ضمنتْ عدمَ وجود جهدٍ عربيٍّ شاملٍ لمواجهة هذا المشروع الكولونياليّ.

ولكنْ هل كان نجاحًا في عيون العالم من حيث كونُه "مشروعًا شرعيًّا"؟

لا يزال هذا الأمرُ موضعَ تشكيك، وغيرَ محسوم. أجل، إنّه نجاحٌ من جوانبَ محدَّدةٍ، وبخاصةٍ بالنسبة إلى اليهود في إسرائيل حتّى الآن، ولكنّه كارثةٌ كلّيّةٌ للفلسطينيّين. والسؤال: هل بإمكانك المحافظةُ على هذا "النجاح" إنْ تسبّبتَ بكارثةٍ للطرف الآخر من المعادلة؟ في رأيي أنّ هذا لا يَصْلح تاريخيًّا، ولكنّه قد يستمرُّ لفترة.

 

ألا يمكنكَ المحاجّة أنّ إسرائيل، شأن جميع الدول الأوروبيّة الأخرى، أخفقتْ في بلوغ المثال التحديثيّ العصيّ على التحقّق؟

كلّا. فالفارق، على الأقلّ، هو أنّ الجانب الإثنيّ في الدول الأوروبيّة شديدُ الاختلاف عن الجانب الإثنيّ في إسرائيل. سأعطيكَ مثالًا: لا يمكنك في الولايات المتّحدة الادّعاءُ أنّ مانهاتن مسموحةٌ للمسيحيّين فقط؛ أمّا في إسرائيل فبإمكانك القولُ بسهولةٍ إنّ الناصرة مسموحةٌ لليهود فقط. وهذا فارقٌ كبير.

في الولايات المتحدة بإمكانك، من حيث المبدأ على الأقلّ، التظاهرُ ضدّ الحرب في فيتنام، فترغِم الحكومةَ على تغيير سياساتها الإمبرياليّة بقوّةِ حركةِ الاحتجاج. أمّا في إسرائيل فليس في إمكان أيّة حركةِ احتجاجٍ أن تفْلحَ في تغيير الخطط العسكريّة الإسرائيليّة. أخلاقيًّا، في قلب المشروع الصهيونيّ ما هو أكثرُ تعفّنًا بكثير، وأكثرُ بعدًا عن نيل القبول بكثير، من مشروع الدول ــــ الأمم الأوروبيّة أو الولايات المتّحدة.

 

قلتَ إنّك لا تعتقد أنّ في إمكان حركة احتجاجٍ في إسرائيل أن تكون فعّالةً في تغيير السياسة العسكريّة الإسرائيليّة. أمِنَ العبثيّ، إذًا، أن يتنظّم الإسرائيليون ويحتجّوا على أفعال حكومتهم؟

لم يحدث هذا الأمرُ إلى اليوم. آملُ حقًّا أن يكون الجيلُ القادمُ من الناشطين خلّاقًا وحيويًّا بما يكفي للنجاح في ما أخفقنا في تحقيقه. علينا أن نأملَ دومًا. كما أنّ لدينا الآن أمرًا جديدًا قد يغيّر الصورةَ: إنّه حركةُ الضغط من الخارج، حركةُ BDS [حركةُ مقاطعةِ إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها]. إنّها تعزِّزُ فرصَ التغيير من الداخل عبر تمكين القلّةِ القليلةِ ممّن يجرأون على تحدّي السياسات الأخلاقيّة الجوهريّة لإسرائيل وهويّتها. علّ هذا يغيِّر الوضع.

ولكنّ التغيير الداخليّ هنا يعتمد على عامليْن لم يَحصلا بعد. الأوّل هو حركةُ ضغطٍ من الخارج، أكثرَ فعاليّةً بكثير، لا مجرّدُ مقاطعةٍ مدنيّة، بل عقوبات حكوميّة؛ وهذا ما لا أراه ممكنًا في المستقبل القريب، ولكنّه قد يحدث. وقد بدأ فعلًا؛ وبإمكانكَ ملاحظة ميْلٍ إلى هذا الاتّجاه في سياسة الاتّحاد الأوروپيّ. قد يتعزّز هذا الميْلُ، ولا بدّ من أن يكون المرءُ متفائلًا حياله.

الأمر الآخر الذي يجب أن يحدث هو أنّ على الفلسطينيّين تنظيمَ أنفسِهم بشكلٍ فعّال. عليهم إعادةُ تعريف مشروع تحرّرهم، أن يفسّروا بدقّةٍ رؤيتَهم إلى مستقبل الجماعة اليهوديّة التي تعيش اليوم في إسرائيل والمناطق المحتلّة. ليست لدينا استراتيجيّةٌ فلسطينيّةٌ واضحة. ليست لدينا جبهةٌ فلسطينيّةٌ موحَّدة. ليس لدينا تمثيلٌ أصيلٌ للشعب الفلسطينيّ. من دون ذلك كلّه سيكون من الصعب جدًّا الدفعُ قُدُمًا بمشروع التحرّر لنا جميعًا. هذه العواملُ أيضًا تسهم في إضعاف ثقتي بأنّ التغيير سيحدث من داخل إسرائيل. فالحال أنّ هذا التغيير مرتبطٌ ديالكتيكيًّا بما يحدث في العالم وفي الجانب الفلسطينيّ، ولا يكفي في ذاته.

 

سيُفاجأ كثيرون حين يقرأون في كتابك أنّ اليهودَ المناهضين للصهيونيّة كانوا موجودين منذ إنشاء دولة إسرائيل، بل كان بعضُهم موجودًا قبل ذلك. ألديك ما ترويه عن مكسيم غيلان، وإسرائيل شاحاك، وبواز إيڤرون، ويتسحاق لأور، وإيلان هاليڤي، وأوري ديڤيس؟

مَنْ بات منّا أكثرَ نقدًا للصهيونيّة إنّما صعد على أكتافِ هؤلاء. إنْ لم يكن هؤلاء موجودين مع ظهور الصهيونيّة، فقد كانوا موجودين حتمًا مع بداية الدولة الصهيونيّة.

مكسيم غيلان هو أحدُ الذين قاسوْا المحرقةَ [النازيّة]. طرحتُه مثالًا لأنّه ينتمي إلى جيلِ إسرائيليّي ستينيّاتِ القرن العشرين الذين يمكن العثورُ عليهم أساسًا في جماعة ماتسپن،(2) وأفلحوا في إنتاج دوغما مضادّةٍ للدوغما الصهيونيّة بشكلٍ شامل. بالطبع كان ثمّة مَن يفوق غيلان من حيث الإثارةُ الفكريّةُ والإيديولوجيّة، ولكنّ حياةَ غيلان الثريّة أكثرُ إثارةً من حيواتهم.

ثمّ إنّه، خلافًا لبعضهم، كان يتمتّع بحسّ دعابة. ولقد ساعدتُ غيلان في إصدار دوريّةٍ بعد عودته من منفاه الاختياريّ في باريس. كانت الدوريّة مكلفةً جدًّا، إذ أعتقدُ أنّنا لم نكن الكاتبيْن الوحيديْن فيها فحسب، بل قارئيْها الوحيديْن أيضًا! ولمّا كان غيلان مُفلسًا، فقد وقع عبءُ المصاريف عليّ وحدي.

حاولتُ إقناعَه بإصدار الدوريّة على ورقٍ أقلَّ جودةً من أجل خفض المصاريف، فقال لي: "أنت لا تفهم. ستُدمَّر إسرائيلُ في المستقبل القريب، وسيكون الورقُ الوحيدُ الناجي من بين الرُّكام هو الورقَ ذا الجودة العالية. إنّنا لا نكتب للجيل الحاليّ، بل نكتب للأجيال القادمة."

ولكنّهم جميعهم كانوا حيويّين ومثيرين بطريقةٍ ما، شديدي الشجاعة، شديدي العزلة. وقد تركوا لنا إرثًا فكريًّا مهمًّا.

 

من الأفكار التي يطرحها إدوارد سعيد، في الاستشراق، أنّ تمثيلَ الغرب للشرق يُفصِح عن الغرب أكثرَ ممّا يُفصِح عن الشرق. ما الذي يُفصِح به تمثيلُ إسرائيل للفلسطينيّين، كإرهابيّين، عن إسرائيل والصهيونيّة؟

يُفصح عن عكسه، أساسًا! فالطريقة التي تُشيطِن فيها "الآخرَ" تكون في العادة انعكاسًا للسِّمات التي تحْملها أنتَ ولكنّك لا تحتملُها. على سبيل المثال، حين يُلام الفلسطينيّون لكونهم لا يفهمون سوى لغةِ القوّة، فهذا يعني في حقيقة الأمر أنّ الصهاينةَ لا يفهمون إلّا لغةَ القوّة. لو وُصف الفلسطينيّون بأنّهم شعبٌ يلجأ إلى العنف كي يَفرض وقائعَ على الأرض، فإنّ التاريخ سيُظهر أنّ الصهيونيّة هي التي تؤمن أنّ بإمكانك تغييرَ الواقع على الأرض عن طريق القوّة.

هذه هي العمليّة التي يمكنك بوساطتها تأمُّلُ الصورة الجمعيّة التي تختلقها إسرائيلُ عن الفلسطينيّين، ثمّ تسأل نفسك إنْ لم يكن ذلك فعليًّا توصيفًا جيّدًا جدًّا للصهيونيّة ذاتِها. الصهيونيّة لا تَعتبر أنّ الغرباء عن الأرض مدفوعون بالعنف من أجل العنف. كلُّ هذه السّمات يمكن إسباغُها بسهولةٍ على الصهيونيّة ذاتها.

 

هل لديك تقويمٌ عامٌ عن بيرني ساندرز وموقفِه من النّزاع الإسرائيليّ ــــ الفلسطينيّ؟ هل ستتغيّر الأمور لو حلّ ساندرز رئيسًا للولايات المتحدة؟

بيرني ساندرز يشبه، إلى حدٍّ ما، مَن نسمّيهم PEOP، "تقدميّين إلّا في [مسألة] فلسطين."(3) هذه ظاهرة ليبراليّة أميركيّة شائعة جدًّا. لو كنتُ مواطنًا أميركيًّا يؤمن بقضايا أخرى غير فلسطين، فسيَصعب عليّ كثيرًا ألّا أدعمه، لأنّه يبدو في قضايا كثيرةٍ ذلك الشخصَ الذي أودُّ أن يكون في البيت الأبيض. كما كان [موقفي من] باراك أوباما قبله، عليّ تقبُّلُ حقيقةِ غياب أدنى احتمال أن يغيّر ساندرز أيَّ شيءٍ جوهريٍّ في السياسة الأميركيّة حيال فلسطين.

هل تحاول العملَ مع هؤلاء الناس؟ من الواضح أنّ أيَّ شخصٍ يصل ولو إلى مجرّد احتمال أن يتبوّأ موقعَ القوّة خائفٌ، ومُهدَّدٌ بالتهويل. لا أظنّ حقًّا أنّ هذا هو موقعُ ساندرز الحقيقيّ، ولكنّه مُعرّضٌ للتهويل ــــ حتّى في العام 2016 ــــ بما يكفي لكي لا يشطَّ كثيرًا [عن التيّار السائد] في ما يتعلّق بإسرائيل.

هذا يعني، بالنسبة إليّ، أنّه ما تزال ثمّة قاعدةٌ صغيرةٌ للعمل في أميركا. إنّ احتمال وجود مُرشَّح رئاسيّ أميركيّ ذي موقفٍ مقبولٍ من فلسطين ضئيلٌ جدًّا في المستقبل المنظور. ولكنْ لا ينبغي  لذلك أن يُحبطَنا. إنّها رحلةٌ طويلة، ونحن نقطع أشواطًا أكبرَ بكثيرٍ ممّا قطعناه من قبل.

أنظرْ في الولايات المتّحدة إلى الجامعات مثلًا. لا بدّ من أن نتحلّى بالصبر. لن أكترث لموقف بيرني ساندرز أكثرَ ممّا ينبغي. لن أكون شديدَ التفاؤل بشأن تغيير مَن هم مثله. الأحرى أن نعمل مع القواعد من الأسفل، على أمل أن تُثمر النتائجُ لاحقًا.

 

عملتَ مع نوام تشومسكي على كتابيْن، وقد أبديتَ في إحدى المقابلات خيبةَ أملكَ حيال بعض آرائه عن النزاع. ما الذي يُفسّر صهيونيّةَ تشومسكي الثقافيّة التي تتجلّى بوضوحٍ في معارضته لحركة BDS وحلّ الدولة الواحدة؟

هذا جدالٌ مشروعٌ، ولكنّني سأحاولُ شرحَ موقفه، الذي أختلفُ معه. أكنُّ الكثيرَ من الاحترام لتشومسكي، كما أنّه أثّر في تفكيري في جوانبَ كثيرة. ولكنّه يقع في مأزقٍ أخلاقيٍّ حين يتعلّق الأمرُ بمسألة فلسطين.

بوسع المرء أن يفهم أن ثمّة مظاهرَ "أنسنيّةً" (humanist) في المشروع الصهيونيّ. فمثلًا، كان من الضروريّ إنقاذُ اليهود من النازيّة الأوروبيّة. ليس من الخطأ لليهود أن يَعتبروا أنفسَهم حركةً قوميّةً لأنّ كثيرًا من الناس الآخرين يَعتبرون أنفسَهم كذلك. كما أنّ إسرائيل ليست أسوأ دولةٍ في العالم؛ بل الحقّ أنّ تشومسكي يعتقد أنّه يعيش في دولةٍ أسوأ من إسرائيل بكثير [الولايات المتحدة]. وهو يؤمن بأنّ عليك أن تكون شديدَ الحذر حين تُفْرد إسرائيل، وهو ما يظنّ أنّ حركة BDS تفعله.

أخالفُه الرأيَ. أوّلًا، "الصهيونيّة الثقافيّة،" التي يعتبرُها تشومسكي شكلًا أكثرَ مشروعيّةً من الصهيونيّة، هي اجتماعُ لفظيْن متناقضيْن، على نحوٍ يُشبه كثيرًا "الصهيونيّةَ الليبراليّة." هو يرفض قبولَ أنّ الصهيونيّة مشروعٌ كولونياليٌّ ـــــــ استيطانيٌّ صرفٌ مستمرٌّ في القرن الحادي والعشرين.

[ثانيًا] يستند "حلُّ الدولتين" إلى أنّ ثمّة بعدًا محدّدًا في المجتمع الصهيونيّ أو التاريخ الصهيونيّ أو الإيديولوجيا الصهيونيّة مقبولًا [معتدلًا] بما يكفي لخلق حياةٍ طبيعيّةٍ مع الفلسطينيّين. لا أتّفق مع ذلك. لا بدّ من نزع الصهيونيّة عن إسرائيل (de-Zionise Israel) لتمكين قيام حياة طبيعيّة مع الفلسطينيّين. ربّما كان ذلك هو موقفَ تشومسكي لأنّه قضى بعضَ الوقت صهيونيًّا في كيبوتس، قبل أن يطوّرَ آراءً نقديّةً أكثر. أيكون موقفُه ناجمًا عن أنّه يحسّ أنّنا نُفْرد إسرائيلَ [عن غيرها]، بينما يقوم مشروعُه الأساسيُ على مواجهة الإمبرياليّة الأميركيّة؟

ثالثًا، يمكن أن يُصبح البعضُ أسرى صيغٍ مثل "حلّ الدولتين" حين يكرِّسون قسطًا كبيرًا من حياتهم في الدفاع عنها. في هذه الحال، من الصعب جدًّا وضعُ [الصيغ السابقة] جانبًا فجأةً، وتبنّي أفكارٍ جديدة.

هذه كلّها تخميناتٌ لا تساوي الكثيرَ. لقد استمتعتُ بالحوار معه لأنّه مثقَّفٌ مذهلٌ. لو تمكّنّا من إقناعه بحركة BDS، وبحقّ العودة، وبحلّ الدولة الواحدة [الديمقراطيّة العلمانيّة على كامل فلسطين التاريخيّة]، فسيكون لدينا صوتٌ قويٌّ جدًّا إلى جانبنا. ومَن يدري، فلعلّ كتابًا ثالثًا أكتبُه معه سيُقرّبني من إقناعه بذلك.

 


* نُشر الحوار في 5 أيار/مايو 2016 في:

http://inthesetimes.com/article/19107/ilan-pappe-Bernie-Sanders-Noam-Cho...

1- تعبير  لاتينيّ، ويعني حرفيًّا "بسبب غلطتي." [المترجم]

2- حركة ماتسپن (تعني "البوصلة" بالعبريّة): منظّمة اشتراكيّة مناهضة للصهيونيّة. تأسّستْ في العام 1962 وبقيتْ ناشطةً طوال عقدين. أسّسها أعضاءٌ سابقون في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ (ماكي) معارضون لخضوع الحزب للهيمنة السوڤييتيّة على قراراته. عانت المنظّمة انقساماتٍ إيديولوجيّة كثيرة، فتضاءل تأثيرُها على نحو كبير، قبل أن تخْلفها منظّماتٌ أخرى استلهمتْ أفكارَها ابتداءً من ثمانينيّات القرن الماضي. [المترجم]

3- Progressive Except On Palestine (PEOP)

يزن الحاج

كاتب ومترجم سوريّ. أصدرَ مجموعةً قصصيّة، وترجم عددًا من الكتب عن الإنكليزيّة. يكتب في جريدة الأخبار اللبنانية.

له: شبابيك (قصص، 2011).