إشكاليّة "التدخّل الروسيّ" بين خطابيْن
03-11-2015

أيُّ فرقٍ يمكن استكناهُه عند المقارنة بين الخطابيْن الأبرز، والأكثر رواجًا، حول ما اصطُلح على تسميته "التدخّل الروسيّ في سوريا"؟

الخطاب الأوّل هو ما يكتبه ويصرِّح به مناهضو هذا التدخّل، الساكتون ــــ بطبعهم لا بتطبّعهم ــــ عن التدخّلات الغربيّة "العريقة" في بلداننا، والتي سُفكتْ خلالها أنهارٌ من دماء شعوب المنطقة. أمّا الخطابُ الثاني، المضادُّ للأوّل من حيث المظهر، فيقول به المؤيّدون للتدخّل الروسيّ، عساهُ ينقذ ما يمكن إنقاذُه في سوريا، ومنه (سواءٌ أسرّوا بذلك أو أعلنوه) نظامُ الحكم، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

هذان الخطابان صنوان من حيث الجوهر: فكلاهما يقفز على جذور هذه التدخّلات ومسبِّباتِها، التي هي استباحاتٌ للسيادات "الشكليّة" للدول والمجتمعات القائمة.(1) وهذه التدخّلات تتحمّل جزءًا كبيرًا من مسؤوليّة وقوعها أنظمةُ التخلّف والجهل والتبعيّة، ومعارضاتُ هذه الأنظمة أيضًا. وعليه، فإنّهما خطابان ينْحوان نحو الجهد الإعلاميّ السريع والترويجيّ، وينأيان عن التفسير العقلانيّ العميق والنقديّ. فهل ينبغي، بناءً على خطاباتٍ مقطوعةِ الجذور كهذه، حصرُ النقد بالغرباء الذين "استباحوا الدار،" أمْ على النقد أن يطاولَ أيضًا "أهلَ الدار" الذين سهّلوا هذه التدخّلات وتطوّعوا للمشاركة فيها؟

***

إنّه منطقٌ كسِيفٌ ولاإنسانيّ ذاك الذي تلخّصُه صرخاتٌ من قبيل: "لا لتدخّلات جماعتهم! نعم لتدخّلات جماعتنا!"

فالتدخّلات الأجنبيّة العسكريّة، أيًّا كانت، وأيًّا كان مَن يقوم بها، ينبغي أن تكون مرفوضةً وموضوعًا لمقاومتها، خصوصًا إذا جاءت على الضدّ من الرغبة الواضحة للشعب المعنيّ، في هذه الدولة أو تلك. فإذا كان الشعبُ مغيّبًا أو منهمكًا في تجرّع مرارات الحرب الأهليّة، فماذا عن أهل الدار السياسيّين ــــ حكّامًا ومعارضين ــــ  الذين يسهّلونها ويشاركون فيها؟

يقارن البعضُ بين الموروث الاستعماريّ لأوروبا الغربيّة والولايات المتحدة والنزعة الإباديّة الرومانيّة في تراثها التأسيسيّ، من جهة؛ وبين موروث روسيا والدول السلافيّة التي يقول ذلك البعضُ إنّها براءٌ من تراثٍ مظلمٍ كهذا، من جهةٍ مقابلة. هذه المقارنة واردةٌ ولها ما يبرّرُها، بل تنطوي على بذورٍ سليمةٍ وحقيقيّة. ولكنّ المشكلة ليست هنا: فنحن لسنا في صدد تقويم بحثٍ علميّ، بل في خضمّ تقويم موقفٍ سياسيٍّ إجرائيّ، يتّخذ شكلَ التدخّل المسلّح الجديد، من قِبل دولةٍ كبرى، خلال حربٍ مشتعلة، وثمّة شعوبٌ تباد، ودولٌ تدمَّر، وعلينا أن نتّخذ موقفًا من هذا التدخّل، وممّن اتّخذوا موقفًا منه، سلبًا أو إيجابًا. والسؤال: هل ينبغي التأسيسُ لموقفٍ كهذا ضمن ثنائيّة "مع أو ضدّ"؛ أمْ ينبغي كسرُ هذه الثنائيّة، والاكتفاءُ بطرح الأسئلة النقديّة المفتاحيّة حول هذا التدخّل، وصولًا إلى التحفّظ عنه، والترويجِ لخيارٍ آخرَ بديلٍ للتدخّلات الأجنبيّة، مهما كان هذا الخيارُ صعبًا وأقربَ إلى الاستحالة في أيّامنا هذه؟

لا يمكن وضعُ هذا التدخّل الروسيّ ضمن إطار الصراع الدوليّ القطبيّ (الحرب الباردة الجديدة بين الرأسماليّات الغربيّة والشرقيّة) ولا علاقة له من قريبٍ أو بعيدٍ بتدخّلات "التضامن الأمميّ" و"التصدّي لعدواناتٍ إمبرياليّة"

لنبدأْ بطرح أسئلةٍ من هذا القبيل المطموح إليه، فنقول: هل يَشفع لمؤيّدي التدخّل الروسيّ (بالمطلق) ما حلَّ بسوريا من دمارٍ وسفكِ دماءٍ متفاقميْن؟ وإذا افترضنا أنّ موافقة النظام السوريّ على التدخّل الروسيّ، بل دعوتَه إليه، تمنحانه شرعيّةً معيّنةً، فهل كفَّت شرعيّةُ هذا النظام نفسِه عن أن تكون موضوعًا للمساءلة النقديّة؟ وماذا بخصوص الخطاب الفرعيّ المنادي بتوسيع التدخّل الروسيّ ليشملَ العراقَ؟ وهل يكفي واقعُ المجازر الفظيعة التي ترتكبها المجموعاتُ المسلّحةُ التكفيريّة (كـ"داعش" و"جبهة النصرة") مبرّرًا لدعم التدخّل الروسيّ لوقف النزيف؟ وما الضماناتُ المعقولةُ لنجاح هذا التدخّل وعدمِ تحوّله إلى عاملٍ فعّالٍ جديدٍ يوسّع الحريقَ إلى مناطقَ أخرى؟ أهي مقامرةٌ بمصير الناس، أمْ مغامرةٌ لرفع رصيد أحد طرفيْ معادلة "نظام/معارضة" بعيدًا عن أيّ جهدٍ حقيقيّ لمكافحة التطرّف التكفيريّ؟ إنّ أسئلةً كهذه لا تبحث عن إجاباتٍ مختزلةٍ وسهلة (على طريقة "نعم" و"لا")، بل هي مفاتيحُ مفهوميّةٌ لتحليل الواقع المؤلم في هذين البلديْن النازفيْن.

***

ثمّة سؤالٌ آخر: ألا يمكن وضعُ هذا التدخّل الروسيّ ضمن إطار الصراع الدوليّ القطبيّ (الحرب الباردة الجديدة بين الرأسماليّات الغربيّة والشرقيّة) ولا علاقة له من قريبٍ أو بعيدٍ بتدخّلات "التضامن الأمميّ" و"التصدّي لعدواناتٍ إمبرياليّة" كما كان يحدث خلال التجربة السوفيتيّة في القرن الماضي؟

ثمّة عبارةٌ وردتْ في نيويورك تايمز الأميركيّة، المفعمةِ بتخويف سنّة العراق وشيعته بعضِهم من بعض، وتخويفِهم من التحالف مع الروس، وهي تكشف عن جوهر الصراع بين الغرب (بقيادة واشنطن) والحلف الروسيّ الجديد في سماء سوريا والعراق وآفاقه. تقول العبارة إنّ "وزارة الدفاع العراقيّة وقّعتْ قبل أسبوعيْن اتفاقيّةَ تعاونٍ استخباريٍّ وأمنيٍّ مع روسيا وإيران وسوريا ـــ اتفاقيّةً قد تنذر بتحالفٍ لاغربيّ في الشرق الأوسط، مع روسيا في دفّة التوجيه."(2) ومعنى العبارة هو أنّ السعارَ الذي أصاب الغربَ عند بدء التدخّل الروسيّ في سوريا من احتمالات توسّعِه شرقًا نحو العراق لا يعود إلى الخوف على حلفاء الغرب في المعارضة السوريّة ("الفضيحة")، ولا على "داعش" كما يعتقد المصابون بـ"الوسواس السياسيّ القهريّ" الذين استقرّ رأيُهم على أنّ الجماعات التكفيريّة محضُ مخلوقاتٍ خرجتْ من مختبرات الغرف السوداء في وكالة الاستخبارات الأميركيّة ومثيلاتها؛ بل إنّ خوف الغرب الحقيقيّ بقيادة أميركا هو في إفلات العراق وسوريا من السلّة الغربيّة الأميركيّة ووقوعِه في الفلك الروسيّ.

ولمّا كانت مَعِدةُ روسيا الصغيرةُ غيرَ قادرةٍ (حتى الآن على الأقلّ) على هضم الفريسة العراقيّة ككلّ رغم وفرة البهارات الإيرانيّة؛ ولأنّ إيران ذاتَها لا تقوى على ابتلاع هذه الفريسة كاملةً وقد تكتفي بجزئها الجنوبيّ الذي تهيمن عليه كاملًا؛ وبما أنّ العراق مستباحٌ مجتمعيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا "بفضل" نظام المحاصصة الطائفيّة والعرقيّة الفاشل؛ لهذه الأسباب جميعها فإنّ ثمنَ الصراع بين الغرب وروسيا سيكون من دماء العراقيين وممّا تبقّى من دولتهم الشوهاء ومن ثرواتهم... إلّا إذا حدثت المعجزةُ وأنجب هذا الشعبُ قوّةً جديدةً تقلب المعادلات.

***

إنّ من حقّ الدول والمجتمعات الغارقة في حروبٍ أهليّةٍ ونزاعاتٍ مسلّحةٍ طلبَ العون من دولٍ ومجتمعاتٍ أجنبيّة، والتحالفَ معها حتى عسكريًّا. وهذا يعني أنّنا لا نرفض بالمطلق، وتحت أيّ ظرفٍ كان، التدخّلَ العسكريَّ من طرف دولةٍ أجنبيّةٍ بمواصفاتٍ معيّنة. ويأتي في مقدّمة هذه المواصفات أن تكون تلك الدولةُ خارج منظومة الإمبرياليّات التقليديّة الغربيّة المعادية لشعوب العالم، بحيث تتدخّل الدولةُ المذكورةُ في دولٍ ومجتمعاتٍ تعيش حالة تخريبٍ وتدميرٍ شامليْن جرّاء سياسات الغرب.

ولكنْ عن أيّ دولٍ ومجتمعاتٍ نتحدّث؟ أعن أسبانيا في العام 1936 والفيلقِ الأمميِّ المسرع إلى نجدة النظام الجمهوريّ المنتخب ديموقراطيًّا، في مواجهة انقلابٍ عسكريٍّ فاشيٍّ صريح؟ أمْ عن مصر عبد الناصر التي كانت تواجه عدوانَ الدولة الصهيونيّة المدعومةِ من الغرب كلِّه، فتحالفتْ مع الاتحاد السوفيتيّ؟

لا قطعًا. بل نحن نتحدّث عن عراقِ اليوم، الذي يحكمه نظامٌ رجعيٌّ قائمٌ على التحاصص الطائفيّ والإثنيّ، شكّله المحتلّون الأميركيّون وحلفاؤهم، وهو نظامٌ منخورٌ بالفساد من أدناه إلى أقصاه باعتراف العديد من رموزه. ونتحدّث عن سوريا اليوم، التي يحكمها نظامٌ دكتاتوريٌّ وراثيٌّ قائمٌ منذ انقلاب "الحركة التصحيحيّة" في 16 تشرين الثاني 1970، وكان عنادُه وإصرارُه على التمسّك بالحكم الدكتاتوريّ من أبرز أسباب اتّساع التدمير وشرور الحرب الأهليّة، إضافةً إلى أسبابٍ أخرى.

وقبل أن يسارع البعضُ إلى تقويلنا ما لم نقله، أو يتهمَنا بالمساواة بين العصابات التكفيريّة الإجراميّة وهذين النظاميْن، نقول إنّ هذين النظامين، بكلّ سلبيّاتهما، يظلّان أرحمَ وأقلّ شرًّا وخطرًا من عصابات الذبّاحين في المجموعات التكفيريّة المسلّحة كداعش والنصرة ومثيلاتِهما. ولكنْ هل خلت الساحتان العراقيّة والسوريّة تمامًا من القوى الأخرى المتمايزة عن هذه المجموعات؟

الثابتَ تاريخيًّا هو أنّ "الأحلام" والرغبات السلميّة، ولو كانت "إسقاطيّةً" ولا سبيل إلى تحقيقها حاليًّا، لن تقتلَ شعوبًا ولن تدمّرَ بلدانًا كما تفعل أوهامُ دعاة التدخّل الأجنبيّ.
 

 ألم تحدث محاولاتٌ تفاوضيّةٌ سلميّةٌ عديدة، وخصوصًا حول الملفّ السوريّ،  بين النظام والقوى التي تقاتل ضدّه؟ لماذا، إذن، لا يجنح النقاشُ إلى البحث عن حلّ غير خيار التدخّلات الأجنبيّة؟ أو كحدّ أدنى، ولكي لا يتحوّل التدخّلُ الروسيّ إلى حريقٍ شاملٍ وصراعٍ دوليّ يدفع ثمنَهما شعبا العراق وسوريا، لِمَ لا يجري التركيزُ على كبح هذا التدخّل، والمطالبةِ بوقفه، هو وكلّ التدخّلات الأجنبيّة المقابلة، واستثمارِ مفاعيل تلك التدخّلات الأجنبيّة وتداعياتِها، والبدءِ في إطلاق نقاشٍ آخرَ حول بديلٍ خلّاقٍ أقلّ خطورةً وشرًّا، تشارك فيه القوى المحليّةُ، حكمًا ومعارضةً، لتَخرجَ (أيْ هذه القوى) من مأزقها الدمويّ، وتُخرج معها البلديْن والشعبيْن من الواقع الدامي الراهن، ومن خطر المستقبل المنذر بكوارث أشدّ وطأةً؟

 نعم، إنّه "حلمٌ وإسقاطٌ رغبويٌّ على واقعٍ ملتهب،" كما سيتّهمنا البعضُ من دعاة استسهال الحلول بواسطة التدخّلات الأجنبيّة. ولكنّ الثابتَ تاريخيًّا هو أنّ "الأحلام" والرغبات السلميّة، ولو كانت "إسقاطيّةً" ولا سبيل إلى تحقيقها حاليًّا، لن تقتلَ شعوبًا ولن تدمّرَ بلدانًا كما تفعل أوهامُ دعاة التدخّل الأجنبيّ.

سويسرا

 


(1) نقول إنّها سيادة شكليّة ما لم تكن هناك دولة ديموقراطيّة ومستقلّة عن الفلك الغربيّ السياسيّ والاقتصاديّ المهيمن.

علاء اللامي

 

كاتب عراقيّ يقيم في سويسرا. له العديد من المؤلَّفات في الأدب والبحث العلميّ في التاريخ والتراث واللغة، منها: دليل التنشيز، سيرة اليمامة البابليّة (شعر)، قصائد حب باتجاه البحر (شعر أجنبيّ مترجم)، إيجابيّات الطاعون (نصوص مسرحيّة)، نصوص مضادّة دفاعًا عن العراق، نقد المثلّث الأسود (مقالات)، السرطان المقدّس: الظاهرة الطائفيّة في العراق من المتوكّل العباسيّ إلى بوش الأمريكيّ (دراسات)، المبسَّط في النحو والإملاء (لغة)، موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربيّ الإسلاميّ (تاريخ)، نقد الجغرافيا التوراتيّة خارج فلسطين (تاريخ).