الإعلام و"الحراك الثوريّ" 
04-07-2019

 

من المهمّ أنْ نتّفق على توصيفٍ علميٍّ لِحدثٍ اجتاحَ دولًا عربيّةً دون غيرها، ابتداءً من أوائل العام 2011، واستمرّ أشهرًا معدودة، وأخذ بعدها في التراجع، ووصل في بعض الدول العربيّة إلى مرحلة الانفجار. فى اعتقادي أنّ مسمّى "الربيع العربيّ،" سواءٌ صكّه أوباما أو روّجه فحسب، لا يعبِّر بدقّةٍ عمّا حدث. فما حدث كان "حَراكًا ثوريًّا،" أيْ حراكًا شعبيًّا حمل كثيرًا من ملامح الثورات الشعبيّة، لكنّه لم يكن ثورةً متكاملة.

ولعلّ هذا التوصيف يأخذنا إلى التعامل مع ما حدث باعتباره مرحلةً من مراحل "الثورة المكبوتة"؛ ما يعني أنّ مراحلَ أخرى من الفعل الثوريّ مازالت محتملةً، سواءٌ في الدول التي شهدتْ تلك الحراكات أو في دولٍ عربيّة أخرى. ولنا في ما يحدث الآن في الجزائر والسودان ما يؤكّد أنّ الحدث الثوريّ مازال مكبوتًا، وإنْ ظلّت معالمُه خافتة.

***

وسط هذا كلِّه يبرز دورُ الإعلام العربيّ. وإذا اتفقنا على أنّ الفعل الثوريّ محصّلةُ تفاعل عوامل التحريك والتحفيز والتغيير، فإنّ دورَ الإعلام يبقى محصورًا في إطار تحريك الفعل الثوريّ وتحفيزه. بيْد أنّ الإعلام يمكن أن يتطوّر، بعد تفجّر الفعل الثوريّ، فيصبحَ ترشيديًّا. على أنّ ذلك كلّه يبقى مشروطًا بانحياز الإعلام إلى الفعل الثوريّ. أمّا في حالة انحيازه ضدَّه، فسيكون دورُه "إحباطيًّا" وإجهاضيًّا؛ وهذا يتحدّد وفق انتماء الوسيلة الإعلاميّة (للنظام المطلوب تغييرُه/إسقاطُه أمْ للقوى الثوريّة)، ووفق ملْكيّتها (لقوًى اقتصاديّةٍ مرتبطةٍ بالنظام القديم أمْ لمؤسسات مجتمع مدنيّ أمْ لرجال أعمال...).

هذه التقسيمات تكاد تنحصر في الإعلام التقليديّ، من صحافةٍ وإذاعة وتليفزيون، ولا تمتدّ إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي كان دورُها محدودًا في السنوات القليلة التي سبقت انفجارَ الحراك الثوريّ، وإنْ باتت أهمَّ محرِّكاته ومحفِّزاته لحظةَ حدوثه. وهذا يأخذنا إلى تناول العلاقة بين الإعلام والسلطة، وتأثيرها في دور الإعلام في الحراك الثوريّ.

الديمقراطيّة في أنظمة الحكم العربيّة محدودة. وتبعيّةُ الإعلام للسلطة تَفرض علاقةَ تفاعلٍ طرديّةً: فتزداد تلك التبعيّةُ كلّما زاد استبدادُ السلطة، وتخفُت كلّما خَفت. حين تكون السلطة شموليّة أو مستبدّة، ينحصر دورُ الإعلام الحكوميّ في ترويج سياسات الحكومة وتبريرِ أفعالها، ومن ثمّ يتراجع الدورُ التنويريّ والتثقيفيّ والترشيديّ، ويتراجع التحريضُ ضدّ كلّ فساد أو استبداد أو سوء استخدامٍ للسلطة.

 

يمكن للإعلام أن يتطوّر في إطار تحريك الفعل الثوريّ وتحفيزه، فيصبحَ ترشيديًّا

 

وفي المقابل، فإنّه كلّما قلّ ارتباطُ الوسيلة الإعلاميّة بالسلطة، تحرّرتْ هذه الوسيلة من تلك الأدوار المقيتة. ولذلك فإنّ وسائلَ الإعلام الحزبيّة أو المستقلّة أقلُّ تبعيّةً للسلطة والتزامًا بتوجيهاتها ودفاعًا عن أخطائها، وأكثرُ استعدادًا من غيرها لحمل مسؤوليّة الخطاب الثوريّ.

ولا ننسى أنّ وسائل الإعلام المستقلّة تعاني تضييقًا ماليًّا؛ فالسلطات تضغط على المصادر الإعلانيّة، وتلعب دورًا محوريًّا فى توجيهها نحو الوسائل الإعلاميّة الملتزمة بالسياسات الحكوميّة، وفي حجبِها عن الوسائل الإعلاميّة المتمرّدة.

***

يمكن تصنيف الوسائل الإعلاميّة إلى ثلاثة مستويات في علاقتها بالحراك الثوريّ، سواء في مرحلة التحريض عليه، أو في مرحلة تفجّره، أو في مرحلة انكساره:

1 - وسائل إعلاميّة حكوميّة. ودورُها أنْ تلهث لاحتواء مسبِّبات تفجّر الحَراك الثوريّ، وتجميلِ قبح السياسات الحكوميّة، وتشويهِ دعاوى التغيير وأصحابها. وظلّت هذه الوسائلُ تؤدّي هذه الأدوارَ حتى اللحظات الأخيرة التي سبقتْ سقوطَ الأنظمة المستبدّة (حالتا مصر وتونس بالذات). بعدها، حدث تراجعٌ تكتيكيّ، ولكنّها ظلّت مشدودةً إلى خيوط هياكل "الدولة العميقة،" المتجذّرةِ في مؤسّسات السلطة، المدنيّة والعسكريّة. غير أنّها حاولتْ مجاراةَ الواقع الجديد من خلال إبعاد رموزٍ كان من الضروريّ التخلّصُ منها، أو إبعادُها موقّتًا عن تصدّر المشهد الإعلاميّ، والدفع بأسماءٍ أخرى أكثر مصداقيّةً في التعامل مع المشهد الثوريّ الجديد.

هذه الفترة لم تستمرّ طويلًا؛ ذلك لأنّ الجهود الداخليّة والعربيّة والإقليميّة والدوليّة لاحتواء الحراك الشعبيّ الثوريّ، تمهيدًا لإسقاطه، كانت قد أخذتْ تُؤتي ثمارَها. فلقد ثار الشعبُ للتغيير، ورفع شعارَ "إسقاط النظام،" لكنّه عجز عن ذلك، واكتفى بإسقاط رأسه؛ وهذا ما عجّل بتفجّر الصراعات داخل قوى الثورة.

تعدّدتْ تجاربُ الحَراك الثوريّ العربيّ. فنجحتْ تونس في تحقيق ائتلافٍ بين قوى الثورة الإسلاميّة والمدنيّة. أمّا مصر ففشلتْ في تحقيق ذلك، وأصرّ الإخوانُ المسلمون على اختطاف الثورة والاستئثار بها. وفي سوريا وليبيا انزوت القوى الثوريّة أو الإصلاحيّة لصالح اختراقاتٍ خارجيّة استغلّت الحراكَ الثوريّ لإسقاط الدولة، لا لإسقاط النظام. وعليه، فإنّ مجمل هذه التطوّرات كانت في صالح الإعلام الرسميّ، الذي سرعان ما عاد لتصدُّر قيادة المشهد الجديد، والقيامِ بالوظيفة التقليديّة. فانحاز، في أغلبه، إلى القوى المعادية للثورة، وأخذ يعبّر عن المرحلة الجديدة، التي تهدف إلى احتواء دعوات "التغيير وإسقاط النظام" والاكتفاء بعمليّات "تجميليّة" للسياسات والشعارات.

 

إنّ مجمل التطوّرات أعادت الإعلام الرسميّ لتصدُّر قيادة المشهد الجديد

 

هكذا أعيد فرضُ القيود على الحريّات والحقوق، وبخاصةٍ حقّ التعبير وحقّ التظاهر، في الاتجاه الذي يَحُول دون عودة المشهد الثوريّ وتجدّدِ الثورات. وكان الإعلامُ الرسميّ هو مَن حَمل هذه المسؤوليّة، مدعومًا من الحكومات الجديدة، ومن حكومات ومؤسّسات أخرى (عربيّة وإقليميّة ودوليّة) روّعتْها الانفجاراتُ الثوريّة، فأخذتْ تبذل جهدَها من أجل تشويه تلك الحراكات الثوريّة ومساواتِها بـ"الفوضى" أو "الإرهاب" أو"العمالة." والهدف المحوريّ هو وأدُ دعوة الثورة، والحيلولةُ دون تمكين الشعب من أن يقول مجدّدًا "الشعب يريد..." فالشعوب، وفقًا لثقافة النظم المستبدّة وأجهزتها الإعلاميّة، مُطالَبة فقط بالسمع والطاعة.

لكنّ المؤسّسات الإعلاميّة الرسميّة لم تكتفِ بهذه الأدوار، وإنّما كانت أيضًا أداةً مهمّةً فى تشويه التراث الثقافيّ العربيّ حول العروبة والقضايا القوميّة وكلِّ ما يتعلّق بالأمن القوميّ العربيّ، خصوصًا أنّ انكسارَ الحراكات الثوريّة العربيّة تزامن مع ثلاثة تطوّرات: 1) انهيار دول عربيّة، وظهور مخطّطات إعادة تقسيم وفق صراعاتٍ وخرائطَ جديدةٍ دينيّةٍ وطائفيّة. 2) غياب النظام الرسميّ العربيّ، وتحوّل مؤسّسته القوميّة، جامعة الدول العربيّة، إلى أداةٍ للقصاص من الحَراك الثوريّ العربيّ، وذلك من خلال تبعيّتها للنظم العربيّة التي أخذتْ على عاتقها محاكمةَ هذا الحَراك وحصرَه فى دوائر "العمالة والإرهاب." 3) تغيير الصراع الإستراتيجيّ من صراع عربيّ - إسرائيليّ إلى صراع عربيّ - إيرانيّ، وترويج مشاريع تصفية القضيّة الفلسطينيّة والتطبيع مع الكيان الصهيونيّ، وتأسيس تحالف إقليميّ جديد (أو "ناتو عربيّ") يَربط العربَ بهذا الكيان تحت القيادة الأمريكيّة. ولعلّ في تفجير الولايات المتحدة الأزمةَ مع إيران، ودقِّ طبولِ الحرب معها، ما يؤكّد جدّيّة توظيف هذه الأزمة لتمرير مشروع تصفية القضيّة الفلسطينيّة تحت مسمّى "صفقة القرن."

2 - وسائل الإعلام غير الحكوميّة، الحزبيّة والمستقلّة. وهذه تعدّدتْ أدوارُها وفق معياريْن: المسافة بينها وبين السلطة الحاكمة (القديمة والجديدة)، ومدى استقلاليّتها الماليّة.

فاقترابُ هذه الوسائل من السلطة قبل تفجّر الحَراك جعلها على مسافة قريبة من الإعلام الرسميّ. وكلّما ابتعدتْ عنها، كان انحيازُها إلى الحراك واضحًا. وأيضًا، كلّما ابتعدتْ هذه الوسائل عن الاستقلال الماليّ، اقتربتْ من النظام القديم والدولة العميقة وانحازت إلى الحَراك. وهذه الوسائل كانت لها أدوارٌ مميّزة في استغلال الهامش الضئيل من الحرّيّات الذي سمحتْ به نظمُ الحكم القديمة (نظام مبارك ونظام بن علي مثلًا)، وذلك في مرحلة اقتراب هذه النظم من التفكّك.

الصحفُ الحزبيّة المعارضة، مثل الأهالي (الناطقة بلسان حزب التجمّع التقدميّ الوحدويّ) والعربي (الناطقة باسم الحزب العربيّ الديمقراطيّ الناصريّ) في مصر، وبعضُ الصحف المستقلّة، مثل البدائل والشروق في مصر أيضًا، لعبتْ أدوارًا تحريضيّةً مهمّةً ضدّ النظام القديم، وأدوارًا تحفيزيّةً للدفع بالحَراك الثوريّ. وهي دفعتْ أثمانًا مهمّةً في مرحلة ما بعد سقوط  الحراك أو احتوائه: إذ جرى "تأميمُ" السياسة، والتضييقُ على التعدديّة السياسيّة، وفرضُ سياسة الرأي الواحد. لذلك فإنّ هذا النوع من وسائل الإعلام هو الذي يُعوَّل عليه في إعادة تأسيس وعي جدي ينتصر لقيم الحراكات الثوريّة ومبادئها، ويعيد قراءتَها ضمن السياقات الوطنيّة. إنّ هذه الوسائل تملك القدرَ الأكبرَ من الصدقيّة تمهيدًا لمرحلة إعادة البناء بعد إفشال مؤامرة تدمير الدول وفرض نظمٍ بديلةٍ تتماشى مع الأجندة الأمريكيّة - الإسرائيليّة.

3- وسائل التواصل الاجتماعيّ. فهذه تُعدُّ، بجدارة، الوسائلَ الإعلاميّةَ المتحرّرة، ولو جزئيًّا، من التسلّط الحكوميّ. وهي مهّدتْ، وبشدّة، للحركات الثوريّة، وكانت وعاءها ومنبرَها، وتحمّلتْ عبءَ التصدّي للمنابر الحكوميّة والتشكيك في خطابها السياسيّ.

والحال أنّ التعويل على هذه الوسائل يبقى أساسيًّا في مرحلة ما بعد انكسار الحراكات الثوريّة لإعادة تجميع ما تبقّى من تركة الوعي الثوريّ المُتبعثرة. غير أنّ هذه الوسائل مُخترَقَة ومحاصَرة بعد أن تحوّلتْ إلى سلاح ذي حدّين، أو إلى سلاحٍ مضادّ تستخدمه السلطاتُ الجديدةُ، التي تنبّهتْ إلى ما تمثّله هذه الوسائلُ من أهمّيّة في زعزعة تفرُّد نظم الحكم في الهيمنة على الرأي العامّ من خلال امتلاكها مؤسّسات الإعلام الرسميّة وشبه الرسميّة أو سيطرتها عليها.

كما أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تبقى عاجزةً عن حمل مشروع ثوريّ. هي تستطيع أن تؤدّي أدوارًا مهمّةً في مراحل التبشير بالانتفاضات الشعبيّة والتمهيد لها، لكنّها لا تستطيع تحمُّلَ أعباء الترويج لمشروعٍ ثوريّ إذا لم تكن وسائلُ الإعلام الأخرى طرفًا فيه، خصوصًا وسائل الإعلام غير الرسميّة، الحزبيّة والمستقلّة. فهذه الأخيرة هي التي يُعوَّل عليها في استعادة الدعوة مجدّدًا إلى الإصلاح ثمّ إلى التغيير؛ كما يُعوَّل أيضًا عليها في إعادة تقديم أفكار الحَراك الشعبي نقيّةً مبرّأةً من كلّ شوائب.

القاهرة

محمد السعيد ادريس

خرّيج كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة - حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسيّة. رئيس وحدة الدراسات العربيّة والإقليميّة بمركز الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة بـالأهرام . أحد مؤسّسي الحركة المصريّة من اجل التغيير (كفاية)، والجبهة الوطنية للتغيير.عضو ائتلاف ثورة 25 يناير2011.