التحرش: ضد الاختصاص ــ مقدمة ملف
20-08-2018

 

لم أتخيّلْ يومًا أن أكتب عن موضوعٍ لم "أدرسْه."

أكثر من ذلك: لطالما نظرتُ بعين السخط إلى مَن تصدّى للكتابة في موضوعٍ لا يفقهه.

لكنّ نور صفيّ الدين، المشْرفةَ على موقع الآداب منذ شهور، أقنعتني بأنّ التخصّص ليس منطلقَ هذه المجلّة، ولا هو غايتُها أصلًا أو بالضرورة.

والحقّ أنّ أحدَ أهمّ الحواجز الفاصلة بين الثقافة والناس هو ما يسمّى التخصّص، بالمعنى الصارم والعِلمويّ إلى حدّ الوسوسة: التخصّص الذي يُغرق قضايا حيويّةً ومصيريّةً في لجّة التعريفات والتنظيرات، مبتعدًا عن وجع الناس وآمالهم. وبدلًا من أن تكون التعريفاتُ والتنظيراتُ مقدّمةً لازمةً للغوص في العلاج والتطوير، بما يتجاوز الغوغائيّةَ والتسطيحَ والإجاباتِ الجاهزة، تصبح تلك غايةً في نفسها، وفرصةً لادّعاء "سلطةٍ ثقافيّةٍ" على مَن لا يفقهُها.

والتحرّش الجنسي، في وصفه شكلًا من أشكال الاعتداء الجنسيّ، مسألةٌ اجتماعيّة، إنسانيّة، يوميّة، شخصيّة. ولهذا ينبغي أن تكون في صلب اهتمام أيّ منبر ثقافيّ سياسيّ تقدّميّ، أسوةً بقضايا القوميّة والعنصريّة والطفولة والأدب "الجديد" والجنسانيّة والاستغلال الاقتصاديّ والتهميش الاجتماعيّ والصراع ضدّ الاحتلال والاستبداد ــ ــ وكلُّها قضايا تناولت الآداب بعضَها على أوسع نطاق، وقصّرتْ في بعضها إلى حدٍّ كبير.

هذا الملفّ، الذي أشرفتْ عليه نور، ليس محاولةً لتفادي أيّ تقصير، بل هو مقدّمةٌ لمزيدٍ من الاهتمام بملفّاتٍ شبيهة، تتجاور مع ملفّات الآداب "التقليديّة" الأخرى.

***

لم أدرسْ، بأيّ معنى من معاني الدراسة المتخصّصة، مسألةَ التحرّش، كما قلت. لكنّني أعيها منذ طفولتي.

ذاتَ يوم، وكنتُ في الثامنة عشرة على ما أظنّ، جاءت أختي الوسطى إلى بيتنا (كنّا نسكن في منطقة الطريق الجديدة، مقابل جامعة بيروت العربيّة). كانت غاضبةً وشبهَ باكية. صرختْ: "والله العظيم، والله العظيم، والله العظيم، هذه آخر مرّة أركب سيّارة سرفيس في حياتي. خلِّ البابا من اليوم ورايحْ هو يجي يجيبني من الجامعة. أو سماح يجيبني، شو ناقصه بالله؟ صار يعرف يسوق يخزي العين عليه!"

وأذْكر، بشكل واضح جدًّا، لكنْ من دون أن أعي سياقَ الكلام تمامًا، أنّ إحدى قريباتي (كانت وقتها في العشرين) حدّثتنا عمّا حصل لها أثناء رجوعها إلى البيت في سيّارةِ أجرة. قالت إنّ الرجل الجالسَ إلى جانبها كان "يحفُّ" فخذَه بفخذها. وما لبث أن أخرج عضوَه وبدأ يستمني. خرجتْ قريبتي من السيّارة وهي تلعنه وتلعن أباه.

وأذْكر أنّ صديقةً لي حدّثتني، فيما مضى، عن سائقٍ أدخل يدَه اليمنى تحت سروالها، فصفعتْه على وجهه وخرجتْ.

من المؤكّد أننا جميعًا نتذكّر أو نسمع عشراتِ الحوادث الماثلة. وبعضُنا، خصوصًا الإناثُ منّا، واجه حالاتٍ مشابهةً، وربّما أسوأ بكثير. لكنّ ما أودّ أن أركّز عليه في السطور الباقية هو تحرّشُ المثقّفين و"التقدّميين." فلطالما سمعتُ عن حزبيين يحاولون إغراءَ المراسلات (خصوصًا الأجنبيّات) بممارسة الجنس معهم، مستخدمين خبرتَهم السياسيّة ومعرفتَهم (الدقيقة!) بتفاصيل الحياة السياسيّة. ويبدو أنّ بعضهم "وُفّق" إلى نيل مراده بفضل ذلك الخليط الإكزوتيكيّ الذي "يتمتّع" به. لكنّ بعضَهم الآخر تعرّض لرفضٍ حاسمٍ وجازم، بل لتشهيرٍ أثّر سلبًا في صورة التنظيم السياسيّ نفسها.

وهناك "رفاقٌ" حاولوا التحرّشَ برفيقاتهم (هل قلت رفيقاتهم؟) من خلال "إقناعهنّ" بأنّ التحرّر النّسْويّ الحقيقيّ لا يكون إلّا بممارسة الجنس، وأسمعوهنّ عباراتٍ من نوع "الانفتاح كلٌّ لا يتجزّأ؛ يكون أو لا يكون." وقد لقي معظمُ هؤلاء من "رفيقاتهم" صدودًا، وربّما تشهيرًا أدّى إلى فصلهم أحيانًا من صفوف الحزب.

وهناك مثقّفون يتحرّشون وهم يتْلُون قصائدَ، أو يشرحون نظريّات. وكثيرًا ما سمعتُ من صديقاتٍ وكاتباتٍ عن حالاتٍ من هذا النوع. "تذبيل" العينين عادةٌ تصاحِب تلاوةَ الشعر، كما يقلْن؛ أمّا شرحُ النظريّات فيرافقه لمسٌ ناعمٌ على الكتف، أو مسحٌ رقيقٌ للفخذ. وتَتْبع ذلك، بالتأكيد، دعوةٌ إلى هنا أو هناك، أو إلى كذا وكيْت.

هذا النوع من التحرّش، الثقافيّ أو الحزبيّ إذا جاز التعبير، ربما تراجَع اليومَ مع تراجع الثقافة والأحزاب عامّةً، ومع تراجع "المكتسبات" الماديّة والمهنيّة والثقافية التي قد تنالها الضحيّةُ (أو "الناجيةُ" بحسب تعبير الرفيقة جنى نخّال)؛ فالثقافة والانخراطُ في الأحزاب لم يعودا منذ عقودٍ "رأسمالًا رمزيًّا" مغْريًا لأحد، وذلك بسبب اكتساح العولمة وعقليّة الاستهلاك والربح السريع للبيوت والعقول والساحات العامّة. لكنّه، أيْ ذلك النوعَ من التحرّش، ما زال موجودًا. ولن نَعْدم أن نسمعَ بين الفينة والآخرى عن حوادث مماثلة.

والنتيجة؟

النتيجة أنّ الثقافة والحزبَ الثوريّ، بدلًا من أن يكونا رافعةً للتقدّم الاجتماعيّ والسياسيّ، وملاذًا لضحايا الاستغلال السياسيّ والبطريركيّ المستشرس، باتا في هذه الحالات رافعةً للاستغلال الجنسيّ، وملاذًا للاحتقان النفسيّ والجسديّ، باسم الثقافة والتقدّم. وكأنّ ما ينقصنا هذه الأيام ما يزيد الثقافةَ والأحزابَ الثوريّةَ ضعفًا على ضعف!

***

ختامًا، نحتاج، كمثقفين وحزبيين تقدّميين، إلى "أخلاق ثوريّة": أخلاقٍ لا تستغلّ معرفتَنا وموقعَنا من أجل ملذّاتنا الشخصيّة، وإنّما تدفعهما قُدمًا من أجل تحقيق سعادةٍ أكبر وكرامةٍ أكبر للناس جميعًا ــ ــ إناثًا وذكورًا.

بيروت

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.