الحكاية القاتلة
17-09-2016

 

هو يروي لي، وأنا أصغي.

 قال لي:

كان الشارعُ الرئيسُ في سوق المدينة يعجُّ بالمستمعين. الكثيرُ من المجرّبين وصغارِ الكَسَبَة منهم وقفوا على الأرصفة يصطادون الزبائنَ الأقلَّ خبرةً. أمّا الزبائن المجرّبون، فكانوا يتوجّهون إلى الوكالات المعروفة التي احتلّت الأقبيةَ في الشارع الرئيس للسوق.

تختلف أجورُ المستمعين باختلاف ملامحهم العامّة ونظراتِهم تحديدًا، تلك النظراتِ التي ستقْنع الزبونَ المحتقنَ بأنّه سينال حصّته من الإصغاء دون ملل.

في السنوات الأخيرة، ظهرتْ فئةٌ جديدةٌ من الدلّالين الشباب، كانوا يعتمدون وسائلَ الاتّصال والتقنيّات الحديثة في عملهم. كانوا يتكلّمون في ما بينهم بلغةٍ غريبةٍ لا يعرفها سواهم: إنّها لغة "بزنس" شرسة ومنمّقة، أحرفُها تُلفظ بالهمهمات.

وكما يحدث كلّ يوم، فإنّ إيقاعَ السوق يشتدّ عند الظهيرة، ثمّ يختفي المستمعون إلى أوكارهم، كي يريحوا رؤوسَهم من الحكايات التي جنوْها لهذا اليوم، ثمّ يعاودون الخروجَ بعد منتصف الليل، حيث يصبح عملُهم أكثرَ حساسيّةً؛ تشتدّ الأحداثُ وتزدحم في جسد المدينة الميت، وتختلط أزمنةُ الحكايات التي انفلتتْ في ذرًى رهيبةٍ تجعل المدينةَ تتنفّس.

ومن جهة ثانية، فإنّ تلك الساعات هي الأخطر بالنسبة إلى المستمعين؛ فالقصص القاتلة غالبًا ما تدور في رؤوس أصحابها قبيْل الفجر. وغالبًا ما يدور أصحابُ هذه القصص في الشوارع كالضباع، يتصيّدون صغارَ المستمعين وأقلَّهم عمرًا وخبرةً: فيحدث مثلًا أن تصيب حكايةُ خبيرةٍ في العشق مستمعةً في أوّل ريعانِها، فتصابَ بالغدر، وتمضي بقيّةَ حياتها أنثى مغدورةً، سيكون عليها أن تخوضَ في طريقها الوحيد المتاح: أن تصبح مستمعةً فاقدةَ الملامح، وتجني مالَها بصمت، وهي تبهت كورقةٍ وقعتْ عن شجرة.

وبالطبع، فإنّ حالَ الأولاد والشباب لدى العائلات الراقية مختلف عن الجموع المزدحمة بالحكايا وتجّار الإصغاء وعائلاتهم. كان أولئك النبلاءُ يجنّبون صغارَهم التعرّضَ لمثل هذه التجارب، ويعلّمونهم الموسيقى الكلاسيكيّة، وطرقَ المحافظةِ على البيئة، والنومَ في ساعة محدّدة، درءًا لخيالات العتمة الشرسة، التي يمكن أن تقودَهم نحو الرغبة الجامحة بالبوح أو الإصغاء. كانوا يوظّفون حكّائين مهَرةً للتحدّث مع أولادهم، ويستأجرون مستمعين أفذاذًا للإصغاء إليهم. وسيكبر الأولاد كي يعيش كلٌّ منهم حكايةً كلاسيكيّة. ستكبر حكاياتُهم ثمّ تنفصل، وسيكون عليهم بعد منتصف أعمارهم أن يكونوا زبناءَ راقين في السوق. ولن تَفوتَهم، بالطبع، المحافظةُ على التقليد الأهمّ في طبقتهم: دروسِ الحصانةِ من الحكايات.

قال لي أيضًا:

ذلك الصيف، كانت الليالي بلا أضواء، فبدت المدينةُ شاحبةً، كأنّها أنثى دبٍّ تحتضن صغارَها في الصقيع. وسببُ ذلك هو حالةُ الفزع الشديد من الإشاعة التي انتشرتْ بين الناس عشيّةَ ذلك النهار، فأُغلقت المحلّاتُ والوكالات، واختفى المستمعون من الشوارع.

 تقول الإشاعةُ إنّ ثمّة فتاةً فاتنةً وساحرةً تتجوّل في الشوارع بعينيْن ذئبيّتيْن، وتبحث عن فريستها بين المستمعين. وذكر بعضُهم أنّ حكاياتها طويلة، وستمتدّ سنواتٍ قادمةً في الإصغاء. وعلى المستمع الذي ستختاره أن يُمضي سنواتٍ من الملل، لن يستطيع أحدٌ تجنّبَه سوى مستمعين أفذاذ ونادرين.

 ولكنّ البعض الآخر يؤكّد أنّ لديها حكايةً واحدةً، مكثّفةً، خاطفةً، كالضوء والتماع البرق. ربّما تكون الحكاية برمّتها جملةً فتّاكةً، لن تمهل مستمعَها حتّى سماع حرفِها الأخير.

كنتُ أستمع إليه بمتعة. لقد اختارني عن الرصيف، وسأستمع إليه حتّى النهاية لأحظى بثمن سندويتش عامرةٍ باللحم، وثمن صندوقٍ من البيرة المثلجة.

 فجأةً، أصابني الرعب. رأيتُ حدقتيْه ترتجفان في البياض المحيط بهما. بدأت الحدقةُ تصغر. وبدت لي كغارقٍ يودّع الهواءَ في مياهٍ تبتلعه وتهدر في دوّامةٍ بيضاءَ جبّارة. وخلال لحظات، أدركتُ أنّه سيموت، لأنّه لم يتعلّم من حكايته، التي أودعتْها تلك الشابّةُ في قلبه ثمّ غابت، أنّ موتَه سيكون في لحظة اكتمال بوْحِه بالحكاية.

وها هو يفعل ذلك الآن بين يدَيّ!

يا إلهي!

لم ينتهِ من قصّته بعدُ. استعجلتُه بلهفة. لوى رقبته وهمس بصوتٍ متحشرجٍ وبعيدٍ بقيّةَ الحكاية، قبل أن يشهق مرّةً واحدةً وأخيرة، بعد نُطق الحرف الأخير في الحكاية.

 ها هو يرتمي أمامي صريعًا، وقد أورثني بجدارةٍ حكايةً قاتلةً. وعليّ البحثُ، في ما تبقّى من عمري، عن لحظة بوحٍ مشرّفٍ قبل أن أغادر هذا العالم، ولا بدّ أن أجد مستمعي الأخير.

بقيّة الحكاية تقول:

تلك الليلة، خرج آخرَ الليل مغامرًا. لم تعنِه التحذيراتُ. كان يريد استغلالَ قلّة المستمعين واصطيادَ زبونٍ دسم. خرج وحيدًا. كانت الشوارعُ موحشة، وثمّة ظلالٌ بعيدةٌ تعْبر من رصيفٍ إلى آخر بسرعة. انعطف في زاروبٍ حجريّ يؤدّي إلى حديقة البلديّة. فواجههُ ضوءٌ ناعمٌ ومشرقٌ بغتةً. كان وجهُها في وجهه. نظر إلى عينيها، واستغرق في ثانيةٍ واحدة، في مناخ الغابات المطيرة وتنفّسها في الفجر، ثمّ رأى النيازكَ في ليل الصحارى.

 كانت أنفاسُها تلفح وجهَه بضبابٍ رطبٍ وخرافيّ. أمسكتْ وجهَه بكفَّيها، وهدر تنفّسُها بزمجرةٍ ناعمةٍ وشرسةٍ ومدوّخة. وهمستْ حكايتَها بكلمةٍ واحدة:

أحبّك.

دمشق

موفّق مسعود

قاصّ ومسرحي وسيناريست سوريّ، ولد سنة 1967.

من أعماله المنشورة: الغريق السومري (مجموعة قصصيّة 2002)، غوايات البهاء وكأس سقراط الأخيرة (مسرحيّتان 2008)، الرجل الدائريّ (مسرحيّة 2008)، وله العديد من الإسهامات المسرحيّة تأليفًا وإخراجًا.