يُمكن الاستحمامُ بمياه النهر مرّات
12-03-2018

                                                            

"إنّه هو. إنّه عمّار. لا لا، بل هو بالتأكيد عمّار": هكذا راحت سعاد، التي اقتربتْ من الخمسين، تردِّد عندما رأت زميلَها القديم في الجامعة، بينما كانت تُعدّ الطعامَ لأُسرتها، المؤلّفة من زوجِها المهندس عماد، وابنتِها الطالبة الجامعيّة مايا.

كانت سعاد قد أنهت دراستَها الجامعيّة في هندسة الكهرباء، واقتنعتْ بزوجها الحاليّ عماد، الذي اختارته لها أمُّها بعيْد تخرّجها.

في الجامعة، كانت سعاد مُثقلةً بمتابعة محاضراتها. وقد شكّل هذا الفرعُ، الذي اختارته أمُّها بعد فشلها في دخول كلّيّة الصيدلة، صدمةً قاسيةً لها. فلطالما اعتبرتْ أنّ ثمّة تناقضًا صارخًا بين أنوثتها والكهرباء ــ ــ إلّا في حالات التوتّر العالي، كالتي أصابتها عندما شاهدتْ عمّارًا قبل قليل.

مرَّت سنواتٌ طويلة مذ رأت عمّارًا للمرة الأولى. ولكنّ توجيهات أمّها الصارمة جعلتها لا تعيرُه أدنى اهتمام، على الرغم من محاولاته المتكرّرة التقرُّبَ إليها، وعلى الرغم من أنّ شخصيّتَه كانت تسحرُها. ومع الأيام سيكتفي عمّار بالزمالة الحياديّة معها، وستنسى هي أسئلةَ الحب والأنوثة.

واليوم، عندما مرَّ عمّار من تحت شبّاكها، تمنَّت لو أنّها صرختْ به وأوقفتْه وأخبرتْه أنّها كانت وما زالت تحبّه، وأنّها كانت ترغب في أن تمشي معه في الممرّات الطويلة المظلمة، وأنّها لطالما تمنّت أن تدفنَ رأسَها في صدره، وأن تستنشقَ ذكورتَه، وأن تبادله القُبَل تحت المطر، تمامًا كما فعلتْ جارتُهم المراهِقة البارحة مع ابن الجيران. وما أشدّ ما تأمل الآن لو أنّ أمَّها لم تحاصرْها بالاتِّزان والتخشّب.

مرَّ عمّار سريعًا وأخرج ذاكرتَها إلى الضوء. وتمنَّت للحظة لو أنّها رمت وراءه كلَّ صحون المطبخ، وصمتَها المزمن، لتُجبرَه على الالتفات إلى الماضي الذي يعشِّش فيها.

انتبهتْ سعاد فجأةً إلى أنّ مياهَ الحنفيّة فاضت خارج المجلى. استأنفتْ عملها وانتظرتْ وصولَ عماد ومايا.

دخلتْ مايا متعبةً من المحاضرات، فاستقبلتْها أمُّها بابتسامةٍ متّزنة، وحدَّثتها أنّ فرع الاقتصاد الذي تدرسه هو من أكثر الفروع المطلوبة للتوظيف، وأنّها اختارت لها هذا الفرع عن دراسةٍ مُسبّقةٍ لفُرص العمل.

في المساء وصل زوجُها من مكتبه، فتناولا العشاء، وشاهدا التلفاز، وذهبا إلى غرفة النوم. اطمأنّ منها عماد إلى أخبار مايا وأوصاها بأن تتابعها باستمرار؛ "فهذه السنّ كما تعرفين حرجة." طمأنته سعاد بأنّها محيطة بكلّ أمور مايا، وأخبرته بأنها تعرف الشبابَ الطائش في الجامعة، وهي توصي مايا دائمًا بمتابعة تحصيلها العلميّ فقط.

أطفأ  عماد الأنوار، واستسلم للنوم.

أغمضتْ سعاد عينيها، ولكنْ ليس للنوم؛ فقد استحضرتْ وجهَ عمّار، واشتمّت رائحتَه بعمق، وكلّمتْه بصوتٍ خفيّ. أخبرتْه أنّها كانت ومازالت تحبّه؛ تحبّ قامته المديدة وحضورَه المليء بالأسئلة.

تذكّرتْ يومَ استجمعتْ قواها وقرّرتْ أن تعترف له بحبّها. ولكنْ تراءت لها أُمُّها، التي ماتت منذ سنوات، وهي تطْبق على شفتيها المرتجفتين، لتتقهقر الكلماتُ إلى الداخل.

ولكنّها، الآن، قرّرتْ أن تصرخ بصوتٍ هزّ الغرفة :

"عماااااار، أنا بحبّك!"

استيقظ عماد مرعوبًا وقال:

ــــ أعرف أنّكِ تحبينني، ولكن لماذا الصراخ في آخِر الليل؟!

لم تنطق بكلمة. وبقيتْ رغباتُها حبيسةَ قبضةِ أمّها.

عاد زوجُها إلى النوم، وعلى شفتيه ابتسامةُ رضًى عميقة.

                                                                                                                               اللاذقية

يوسف سامي مصري

كاتب ومترجم من سوريا. حائز إجازة في اللغة الانكليزيّة وآدابها. له موادّ مترجمة ومقالات في طريق اليسار الماركسي التي يصدرها "تجمّع اليسار الماركسي" في سوريا (تيم).