الدكتور بول طبر لـ"الآداب": الحراك اللبناني، الشباب، النساء، الأحزاب
04-11-2019

 

(أجرته: عبادة كسر)

أجرت الآداب حوارًا مع الدكتور بول طبر عن الحراك الشعبيّ اللبنانيّ الأخير. والدكتور طبر هو أستاذ العلوم الاجتماعية وعلم البشريّات في الجامعة اللبنانيّة - الأميركيّة في بيروت، ومدير معهد دراسات الهجرة فيها. وهو أيضًا باحثٌ في مركز البحث الثقافيّ في جامعة غرب سيدني. من مؤلَّفاته: الجاليات العربيّة في أستراليا (2013).

 

* كيف تحدِّد معالمَ الحَراك اللبنانيّ يا دكتور؟

- سوسيولوجيًّا، مقاييسُ التغيير تتعلّق بالنُّظُم. حين تُكسَر قواعدُ النُّظُم السياسيّة أو الاقتصاديّة أو حتى الثقافيّة، أو حين يدخل عنصرٌ جديدٌ عليها نتيجةً لحدثٍ ما، يبدأ الحديثُ عن تغيير. إذا استعملنا هذا المقياس، نقول إنّ حَراك لبنان أحدثَ التغييرَ على مستوياتٍ عدّة، أبرزُها:

أولًا: على مستوى الرفض العارم للنظام السياسيّ، قيمًا ورؤًى سياسيّةً كانت تتحكّم في الانتظام السياسيّ العامّ للمنتفضين ولأغلبيّة الشعب اللبنانيّ. مثلًا: الاعتقاد الذي كان سائدًا أنّ القيادات السياسيّة ليست سيّئة، وأنّ لها قاعدتَها الشعبيّةَ التي تمتثل "طوعًا" إليها أملًا في أن تحلَّ مشاكلها. هذه "الشرعيّة الطوعيّة" ضُربتْ في هذه الانتفاضة. فلقد أدخلت الانتفاضةُ في الرؤية السياسيّة التي طرحها المنتفضون قيمًا لم تكن في الحقيقة غيرَ معروفة، لكنّ المستجِدَّ فيها أنّها أصبحتْ قيمًا شعبيّةً، أيْ تحملها غالبيّةُ الشعب، مثل: المحاسبة، ونبذ الفساد، وقيام دولةٍ تمارس واجباتِها ومسؤوليّتَها الاجتماعية تجاه المواطنيين، وصولاً إلى رفض التعاطي مع الناس في وصفهم محضَ "رعايا طوائف،" والدعوةِ إلى التعاطي معهم في وصفهم متساوين في الحقوق والواجبات.

ثانيًا: ثمّة ثورةٌ على مستوى اقتحام المرأة بشكل واضح وبارز للحيّز العامّ.

ثالثًا: المشاركة البارزة للجيل الجديد الشابّ، من دون أن يعني ذلك غيابَ الفئات العمريّة الأخرى. كان كثيرون يعتقدون أنّ هذا هو جيلُ الـ fun [المرح أو التسلية]، وجيلُ الاستهلاك، وأنّه جيلٌ غيرُ مهتمّ بالسياسة، بل بمصالحه الفرديّة فقط؛ فإذا به يفاجئنا بكمٍّ هائلٍ من التسييس والاقتحام.

بهذا المعاني جميعها أقول إنّنا أمام "ثورة سياسيّة" و"ثورة اجتماعيّة."

 

* ما هي العوامل التي أثّرتْ في تسييس الشباب؟

- في لبنان نظام سياسيّ - ثقافيّ - اجتماعيّ متكامل يقوم على مجموعة أوهام، منها الأوهامُ التي تُطْلقها نُخَبُ الطوائف التي كانت مسيطرةً في التاريخ اللبنانيّ.

بدأتْ "صناعةُ" الأوهام عن النظام الطائفيّ (أي ممارسة العنف الرمزي بلغة بورديو) مع المارونيّة السياسيّة، التي سعت دائمًا إلى إعطاء المسيحيين الموارنة الدورَ المهيمنَ للحفاظ على وجودهم المتميّز في محيطٍ أغلبيّتُه غيرُ مسيحيّة، وفي وصفهم "المحافظين على الحضارة الغربيّة." هذه النخبة كانت قائدةً ثقافيًّا (أولادُها يذهبون إلى أحسن المدارس مثلًا)، وقائدةً اقتصاديًّا. وبسبب سيطرتها على السلطة، كانت توزِّع منافعَ على زبائنها داخل الطائفة. وهو ما أدّى إلى تشكيل قاعدةٍ مادّيّةٍ لتلك "الشرعيّة الطوعيّة." فحتى إذا لم يكن "ابنُ الطائفة" مخدومًا بشكل مباشر، فهو موعودٌ دائمًا بخدمةٍ سوف يحصل عليها في الوقت المناسب.

وفي المقابل، كانت ثمّة طوائفُ (ونخبُ طوائف) "ملحَقة،" وذلك لعدّة أسبابٍ، أهمُّها: ضعفُها الاقتصاديُّ والثقافيّ، وعدمُ دمجها أو (اندماجِها) الكافي في الدورة الاقتصاديّة وفي النظام، واستنادُها إلى قوًى خارجيّةٍ (النظام الناصريّ أساسًا) ليست في قوّة السند الخارجيّ للقوى الطائفيّة المسيطرة (الولايات المتحدة، حلف بغداد،...)، ثم هزيمةُ 67، وصعودُ أكبر للدور الأميركيّ.

بحلول العام 1975، انكسر هذا النسقُ المتمثّلُ في "طائفة مسيطرة مقابل طائفة مستتبَعة." ثمّ أتى اتفاقُ الطائف (1989)، فاسحًا المجالَ للطوائف المستبعَدَة ولقاعدتها الشعبيّة كي تَمنحَ زعماءَها "الشرعيّةَ الطوعيّةَ،" مدفوعةً بعدّة "أوهام،" وعلى رأسها أنّ حصولَ هذه الطوائف على حصّةٍ من السلطة سيحلّ مشاكلَها إنْ لم نقل أغلبها. وهكذا أخذت "الشيعيّةُ السياسيّة" و"السنّيّة السياسيّة" و"الدرزيّة السياسيّة" حصصَها بموجب الطائف، وتحقّق تحسينٌ نسبيّ في محاصصة السلطة ومنافعِها.

ولكنْ مع مرور الوقت، منذ العام 1990 وحتى الآن، بدأتْ تتكشّف تدريجيًّا أوهامُ الوعود المحاطة بالمحاصصة: فهي لا تؤدّي الى حلّ، بل إلى سيطرة النخب من كلّ الطوائف على موارد الدولة، وإلى سيطرة ثقافة "حكّ لي حتّى حكّ لك." وهذه المحاصصة أتاحت لبعض الأثرياء من كلّ طائفة، ولنُخبها السياسية و"خلّانهم،" استخدامَ السلطة من أجل الإثراء غير المشروع.

المحاصصة أوهمتْ كثيرين أنّهم سيصبحون بفضلها "شيعةً أقوياء" و"سنّةً أقوياء" إلخ. لكنْ تبيّن للشباب أنّ المحاصصة لم تحسّن الأوضاعَ المعيشيّة لأغلبيّة الشعب من كلّ الطوائف؛ وهذا ما دفع كثيرين منهم إلى القول: "لا نجد عملًا وشهادتُنا معلّقة على الحائط."

 

* عذرًا على مقاطعتك، دكتور. لكنْ كيف تمكّن الشباب، الذين تعرّضوا لمنظومة تربويّة وإعلاميّة وسياسيّة طائفية، أن يخرجوا من ذلك؟

- هذا ما أسميتُه التغيير الاجتماعيّ - السياسيّ، المتجسّد اليوم في انتفاضة الشباب. لقد خرجوا من كلّ ذلك لأنّ جميعَ تلك الأوهام التي أشرتُ إليها للتوّ قد تفكّكتْ. لطالما قيل للشباب: "إيّاكَ أن تمسَّ زعيمَك!" لكنّ هذا الزعيم لم يؤمِّنْ لهم عملًا، ولم يدفعْ أقساطَ جامعاتهم؛ ما دفعهم مع الوقت إلى كسر الولاء الذي تربَّوْا عليه. وهذا ما يفسِّر مشاركةَ الشباب الهائلة في هذه الانتفاضة.

 

* ولماذا شاركت المرأةُ بهذه الكثافة؟

- لقد غدت المرأةُ في العقود الماضية أكثرَ علمًا ومشاركةً نشطةً في الشأن العامّ وفي سوق العمل. ولم تعد محصورةً اجتماعيًّا داخل العائلة البطريركيّة. ومن ثمّ راحت تواجه مشاكلَ الرجل نفسَها من حيث البحث عن العمل والخدمات، وصارت أكثرَ قدرةً على التعبير عن ذاتها. ووجدتْ أنها لم تعد قادرةً على إعطاء زعماءِ الطوائف شرعيّةً طوعيّةً...

 

* لكنْ إلى أيّ مدى ساهمتْ منظّماتُ المجتمع المدنيّ غيرُ الحكوميّة (الـ ان. جي. اوز) في التغيير الذي طرأ على حياة المرأة، وعلى مشاركتها السياسيّة والمدنيّة كما لحظنا في الحراك الحاليّ؟

- لا شكّ في أنّ هذه المنظّمات عرّضت المرأةَ لأفكارٍ جديدة، وأثّرتْ "برامجُ تمكين المرأة" في ثقافتها. لكنْ لا نستطيع القولَ إنّ هذه الأفكار والبرامج هي التي ثوّرت السيّداتِ الآن. العوامل التي ثوّرتهنّ ودفعتهنّ إلى المشاركة الفعّالة اليوم هي تأزّمُ النظام على مختلف المستويات. أمّا باقي الاشياء فعواملُ مساعدةٌ ومسهِّلة: روافدُ في نهرٍ كبير.

 

* في بداية المقابلة، تحدّثتَ عن ثورة اجتماعيّة، وأخرى سياسيّة. ما هي معالمُ الثورة الأخيرة في هذا الحراك؟

- من معالمها: الخروجُ على قيم سياسيّة كانت سائدةً قبل الطائف، مثل الدعوة إلى تغيير بنيويّ في النظام، وسحب الثقة من كامل الطبقة الحاكمة من خلال شعار "كلّن يعني كلّن."

ومن معالمها أيضًا: المشاركةُ العابرة للمناطق والطوائف والطبقات. فالناس اكتشفوا أنّ الطائفيّة السياسيّة مؤذية، وفي إلغائها تتجسّد قيمُ المواطَنة. وحين يتخاطب الجنوبيُّ مع الطرابلسيّ وأبناءِ جل الديب وذوق مكايل وبناتها عبر الساحات، تتمّ صناعةُ المواطَنة على الأرض قبل صناعتها في النصوص؛ أيْ من تحت إلى فوق (bottom-up).

 

* كيف تقوِّم المشاركة، طبقيًّا، وجندريًّا، ومهنيًّا،...؟

- في تقديري كانت هناك مشاركةٌ طبقيّةٌ متنوّعة. بالطبع الأغنياء لم يشاركوا إلّا بنسبة ضئيلة جدًّا (وهذا مبنيّ على بعض الملاحظات الميدانيّة التي سجّلتُها خلال مشاركتي في الانتفاضة)، وذلك لارتباطهم بالسلطة، أو بسبب الحصانة التي تؤمّنها لهم ثرواتُهم الطائلة. العمّال والأُجَراء وأبناءُ الطبقة الوسطى وبناتُها هم المادّة الطبقيّة الفعليّة لهذه الانتفاضة.

وإضافةً الى التنوّع الجندريّ من الشابّات والشباب، كانت لأصحاب الاحتياجات الخاصّة مشاركتُهم الكبيرة. وقد تحدّثوا عن حاجاتهم إلى "الدمج" الفعليّ في المجتمع، وإلى فقدان الطرق الخاصّة بهم، وغياب فرص عمل التي يجب أن تتوفّر لهم.

وكانت هناك مشاركةٌ ملحوظةٌ للفنّانين، والرسّامين، والموسيقيين، ومغنّي الراب، والأساتذة، والطلّاب، والأطبّاء، والمحامين... على الرغم من غياب النقابات الكبيرة لأنّها مسيّسة. وفي رأيي أنّ المنتفضين حقّقوا الانفكاكَ عن الطائفيّة المتمثلة في قيودها السلطويّة.

 

* ما الذي حقّقه الحراك؟

- أهمّ شيء هو أنّه كسر ثلاثيّة "الجيش والشعب والمقاومة." الشعب لم يعد ضمن هذه الثلاثيّة، والجيشُ بات محيَّدًا (إلى حدٍّ كبير)، والناس وعوْا أنّ المقاومة من دون عيشٍ كريمٍ غيرُ مقبولة. وأهمُّ تثويرٍ في الثقافة الاجتماعيّة السياسيّة هو أنْ لا شيءَ مقدّسًا. مثلًا، السيّد حسن نصرالله في خطاباته يقدِّم نفسَه كمُرشد، لكنّ الناس وعت أنّ على مَن يقدِّم نفسَه مرشدًا ألّا يغطّي الفساد! الحَراك كسر صورةَ المقدَّس على المستوى السياسيّ. وهذه الوضع سيولّد حالةً انتخابيّةً مغايرة إذا استطاع الناس تنظيمَ أنفسهم وفرزوا قياداتٍ تمثيليّة.

 

* أين الحراك من الأحزاب؟

- ما يذهل هو الالتحامُ الفوريّ، غيرُ المقصود، وغيرُ المخطَّط له، بين أناسٍ من مشاربَ طائفيّةٍ وطبقيّةٍ ومناطقيّةٍ متنوّعة، من دون أيّ هيئةٍ ناظمةٍ لهم "من فوق." لقد خرجت الأصواتُ متشابهةً من دون أن يكون الناسُ قد التقوْا من قبل! وذلك يعود إلى نفاد (إفلاس) النظام الطائفيّ ومنظومتِه الثقافيّة والسياسيّة، وإلى تأزّم مقوِّمات بقائها واستمراريّتها.

في النظرة اللينينيّة الكلاسيكيّة، بل في النظرة الليبراليّة نفسها، أنّ الحزب هو أكثرُ الأجهزة وعيًا، ومن ثم قدرةً على قيادة البشر. حالةُ لبنان بيّنت العكس: فالناس سبقوا الأحزابَ، وهذه الأخيرة (أكانت في اليسار أمِ السلطة) تحاول أن تلحقَ بهم.

 

* وماذا عن اليسار بشكل خاصّ؟

- في تقديري أنّ أحزابَ اليسار كانت منقسمةً في نقاشها اليوميّ (الذي كنتُ شخصيًّا جزءًا منه): بين مَن يقول إنّ المقاومة تستحقّ الدعمَ لأنّها ترفع شعارَ مواجهة أميركا و"إسرائيل،" وبين مَن يقول إنّها تستدعي الهيمنةَ الخارجيّةَ على لبنان. غير أنّ الانتفاضة خرجتْ من مكانٍ آخر، لا علاقةَ له بثنائيّة "المقاومة والسيادة." لذلك لم يكن ثمّة وجودٌ فاعلٌ لا لليسار ولا لأحزاب السلطة. السؤال هو: لماذا لم تنطلق الانتفاضةُ بقيادة اليسار؟ جوابي: لأنّه دخل في وهم سياسيّ دعا بموجبه إلى عدم المسّ بالمقاومة، ومن ثمّ حوّلها إلى "مقدّس." وهذا من أخطر الأمور التي يمكن أن تحدث في العمل والنضال السياسيّ.
 

* وهل ثار الناسُ الآن على المقاومة، بالإضافة إلى المطلب الاقتصاديّ - الاجتماعيّ؟

- كلّا، لم يثوروا على المقاومة. لا أحد يتحدّث ضدّ مقاومة "إسرائيل." قالها شربل نحّاس أمام الآلاف: "يجب أن نتعاملَ مع الخارج كخارج، ولا عدوَّ وجوديًّا لنا إلّا الكيان الإسرائيليّ." الناس ليسوا ضدّ المقاومة، بمعنى الحفاظ على سيادة لبنان أمام أيّ مخاطر إسرائيليّة، لكنّهم ضدّ مقاومةٍ تسهم في تغطية الفساد؛ وهم يريدون أيضًا أن يقوم الجيشُ بدور المقاومة. وأعتقد أنّ حزبَ الله يَشعر بالإحراج لأنّ معظمَ الناس لا يتحدّثون ضدّ المقاومة، بل ضدّ مشاركته في سلطة ينادون بإسقاطها.
 

* إلى أين يتّجه الحراكُ في رأيك؟

- لا أحد يستطيع التوقّع. المثابرة ظاهرة إيجابيّة. ولا أتصوّر أن يذهب كلُّ شيء (عبورُ الانتفاضة الطوائفَ والمناطقَ والطبقاتِ والأجيالَ...) سدًى. على الأقلّ وضعت الانتفاضةُ قطارَ الإصلاح السياسيّ على السكّة الصحيحة. وهذا القطار قد يتّجه إلى المطالبة بحكومةٍ مستقلّة كفوءةٍ ونزيهة، ذاتِ صلاحيّاتٍ واسعة تتيح لها أن تسنَّ قوانينَ لاسترداد الأموال المنهوبة ووضع حدٍّ للفساد، وتطالب بانتخاباتٍ نيابيّةٍ مبكّرة على قاعدةٍ غير طائفيّة.

أمّا العنصر النسائيّ، فبمشاركته الرائعة قد يَدفع قُدُمًا بالنضال من أجل قانونٍ للأحوال الشخصيّة المدنيّة، يساوي بين الرجل والمرأة في العمل والإرث والطلاق والزواج...

أتوقّع أن تضع هذه الانتفاضةُ عمليّةَ التغيير على السكّة السليمة كما قلتُ، وتوقفَ الخصخصة، وتخلقَ دولةً أكثرَ مسؤوليّةً على المستوى الاجتماعيّ والخدماتيّ.

 

* كيف تقوِّم دورَ وسائل الإعلام؟

- لا يخفي على أحد أنّ لكلّ وسيلةٍ إعلاميّةٍ أجندةً سياسيّة. لكنّ وسائلَ الاعلام ليست قيادات الحَراك، وليست لديها القدرةُ على توجيه الانتفاضة. قوّةُ الانتفاضة هي من مكانٍ آخر: من انتشارها، وزخمِها، وتنوّعِها، ومن وسائل التواصل الاجتماعيّ [لا الإعلام التقليديّ].

 

* ما أبرزُ ثغرات الحراك، دكتور؟

- تأخُّرُه في إنتاج هيئاتٍ تمثيليّةٍ له!

* أين حالةُ لبنان من موجات "الربيع العربيّ"؟

- لبنان تعلّم دروسَ "الربيع العربي" وأخطاءَه في مصر أو سوريا أو العراق أو غيرها. مثلًا، سلميّةُ الحَراك تجعلنا نتفادى المطبَّ السوريَّ أو العراقيّ. لاطائفيّةُ الحَراك تجعلنا نتفادى المطبَّ العراقيّ. يبدو أنّ اللبنانيين تعلّموا الدرسَ السودانيّ جيّدًا: وهو أنّ مواجهةَ السلطة سلميًّا، وبزخمٍ شعبيّ، يمكن أن تؤدّي إلى تغييرٍ ما. نأمل أن يضفي النموذجُ السودانيّ، مع تحويرٍ لبنانيّ ينسجم مع تاريخ بلدنا وثقافته، لونًا خاصًّا على هذه الانتفاضة.

 

* وكيف ترى إلى دور "المثقّفين" في الحراك؟

- كانوا معطوبين وفي حالة من الغيبوبة! في علمي، لم يتوقّع أيُّ عالم اجتماعٍ في لبنان قيامَ هذه الانتفاضة. هذا دليلٌ على أنّ اشتغالهم الفكريّ كان مركَّزًا في مكانٍ آخر: هموم مهنيّة، وإنتاج أبحاث من أجل الترقّي المهنيّ. أمّا المثقفون الملتزمون والمحازبون فقد استُنفِدوا - كما قلنا - بثنائيّة "السيادة والمقاومة،" فلم يكونوا على تماسٍّ مع نبض الشارع ومشاكله.

 

* أخيرًا دكتور، كيف تقرأ آخرَ التطوّرات بعد استقالة الرئيس سعد الحريري؟

- استقالة رئيس الوزراء في سياق الأحداث خطوةٌ إيجابيّة تفتح الطريقَ أمام إجراء بعض التعديلات في أداء النظام وتركيبتِه على المدى القريب. وهذا يؤسِّس على المدى البعيد لعملٍ مفتوحٍ على تغييرٍ أكثر جذريّةً للنظام. لكنّ ذلك مشروط بمدى قدرة الانتفاضة على استيلاد أطرٍ تمثيليّةٍ تكون المكوّنَ المادّيّ لاستمرارها في النضال المتدرّج والمتصاعد في المستقبل.

بيروت