الدّرسُ الأوّل
06-09-2019

 

وقفَ وسط الراقصين بينما أخذتِ الموسيقا تعلو. استطاعت أذناه أنْ تميّزا فالس "غراموفون،" للمؤلِّف يوجين دوجا. لم يحبَّ يومًا التردُّدَ إلى الحفلات الرّاقصة، ولكنّه وجد نفسَه مشدودًا بالموسيقا التي طالما أحبّها.

أخذت الأفكارُ تُقْصيه عن الناس من حوله. إلى أن دخلتْ، هي، من باب البهو في أجمل ثوبٍ يُمكن أن تراهُ عين.

شعر بالحنين يَغمر قلبَه. مرَّت سنون طويلةٌ على آخر مرّةٍ رآها فيها. وها هي ذي تتّجهُ نحوه وترتمي بين ذراعيْه، وسط ذهول الحاضرين ونظراتِ الحسد. أخذ قلبُه يدقُّ بعنفٍ عندما سألتْه: "ألن تقول لي شيئًا؟"

ساد الصمتُ برهةً قبل أن تقفز إلى ذهنه قصيدةٌ للسيّاب فينطلق لسانُه بإنشادها:

"كالشّاطئِ المهجورِ قلبي لا وميضَ ولا شراع

في ليلةٍ ظلماءَ بلَّ فضاءها المطرُ الثّقيل

لا صرخةُ اللُّقيا تُطيفُ بهِ ولا صمتُ الرّحيل."[1]

انتبه إلى أنَّه كان يخاطبُها بصوتٍ عالٍ عندما علتْ قهقهاتُ المحتفلين من حولهما. حاول البحثَ عن نجاته في عينيها، ولكنّ نظراتِها هي الأخرى كانت قد تبدّلتْ إلى التهكُّم والسخرية. شعر بالحزن يعتصره عندما سمعها تقولُ له وهي تبتعد: "أتريدُ أن تبقى هكذا إلى الأبد؟" عندها، أخذتِ الموسيقا التي أحبّها تتحوّل إلى صخَب، ورآها توليه ظهرَها وتختفي بين شبّانٍ يضعون على وجوههم أقنعةً مُريبة.

غادر البهوَ مُسرعًا. في الخارج، استقبلتْه الأرصفةُ المضاءة، والمرفأُ الذي حملَ له أصواتَ السفن والرافعات. فراح يبكي كطفل.

***

يقولون إنّ الحزنَ يُحيلُنا فلاسفةً، فما بالُ حزنه يأخذه إلى زمنٍ غيرِ زمانه؟

أليس هذا الذي يراهُ أمامهُ بدر شاكر السيّاب؟

في الخلف، كان جُبران يبتسمُ للسيّاب وهو يتقدّم نحوَه. ووسط سكون الليل، أخرج الأوّلُ قصاصةَ ورقٍ من جيبه وأراها للثاني وهو يقول: "انظُر ما كتبتُه إليّ ميّ!" حدّقَ السيابُ في قُصاصة الورَق ثمّ ابتسم وهو يقرأ: "إنّ كُربَةَ الوحدَةِ وتباريحَها تشتَدُّ وسطَ الجماهير."[2]أغمضَ عينيْه، وسأل جبرانَ إنْ كان يرغب في أن يرى ميّ يومًا. فتنهّد الآخرُ وقال:"النّاسُ، وأنا منهم، ميّالون إلى الدُّخانِ والرّماد. أمّا النّار، فيخافونَها لأنّها تبهرُ العينَ وتَحرقُ الأصابع."[3]ولكنّ السيّاب كان قد انصرفَ عنه وراح يُتابع قصيدتَه القديمة:

"لستُ أسمَعُ من نِداء إلّا بقايا من حديث ردّدتْهُ الذّكريات."[4]

هل يستطيعُ تصديقَ ما يحدُثُ أمامَ عينيه الآن؟ اختلالٌ في الزّمان والمكان يلفُّ الفراغَ من حوله؟ أشباحُ الماضي تتحاور خلفَه، بينما يَرقُص حاضِرُه بين ذراعيْ غيرِه؟ ما عساهُ يفعَل؟

يلفُّ الضبابُ المكانَ فجأةً، ويبتلع الموجوداتِ من حوله. فلا يجدُ مَحيدًا عن الصراخ.

***

يصحو من الحلم فزعًا. تبحث يدُه عن نظّارته. يرتديها، فيستعيدُ كلُّ ما في الغرفة شكلَه ومعناه. يتذكَّر أنّ عليه أن يُكملَ تحضيرَ الدّرس الأوّل للغد. غدًا أوّلُ أيّامه مُدرّسًا في الثانويّة بعد أن تخرَّج من الجامعة. كيف سيبدأُ الحصّة؟ ماذا سيقولُ للطلبة؟ كيف سيتصرّفُ إنْ أزعجوه؟

يُقرّر متابعةَ التحضير فيفتحُ الكتاب ويعود إلى قراءة القصيدة الأولى: "... كالشاطئِ المهجور قلبي لا وميضَ ولا شراع." يُغلق الكتابَ ويقول في نفسه: "آه يا سيّاب. كم أتعبتَني اليوم!" يتذكّر حلمَه. ما كان أجملَها بثوبها بين ذراعيْه، وكم كان كلُّ ذلك مؤلمًا!

توقظُه من أفكاره موسيقا "غراموفون" التي تملَأ الحُجرة. لقد انتصفَ الليلُ، ولا بدّ من أنّ جيرانَه يشكون من الصوت العالي. يُطفئ المسجّلة ويتمنّى لو قام بذلك قبلَ أن يغلبه النعاس؛ فلو فعل ذلك لَما جاءته حبيبتُه في حُلمه على هيئة أميرةٍ في حفلة راقصة.

يُشعلُ سيجارةً ثمّ يفتح النافذة ويقفُ عندها. تستقبلُه من جديدٍ أضواءُ المرفأ وأصواتُ الرافعات وأنوارُها. لم يعد المرفأُ رمزًا للرحيل والوداع. أصبحَ يحبُّ هذه الأضواء لأنّها تحملُ معها صورةَ جميلته التي كسرتْه، وتُعيدُها إليه ولو في لحظةٍ من حُلم.

يبعثُ اضطرابُه اللّيلة الذّكرياتِ في قلبه، وترنُّ في أذنيْه كلماتُها له قبل أن يفترقا: "أتريدُ أن تبقى هكذا إلى الأبد؟" يومها، أراد أن يعرفَ ما الذي قصدَتْه بـ"هكذا،" أو لربّما حاول أنْ يدّعي أنّه لا يعرف.

كيف ستحبُّه وهو الذي يحبّ الوحدةَ؟ لقد كانت هي بنتَ هذا الزمن، ولذلك لم تُدركْ كيف كان يبعدُها عن الجموع من دون أن يعلم. وها هو الآن يستحضر تلك الذكرى ويراها جالسةً معه، على طاولةٍ واحدة، في المقهى الذي اختار أن يُصارحَها فيه بكلّ شيء. ولكنّها غادرتْ بعد أنْ وجّهتْ إليه عبارتَها الجارحة، وانسحبَ من فمه الكلامُ على الرغم من كلّ ما أعدّه في ذهنه لهذه المناسبة. لم يستطع أن يعي يومَها أنّ عبارتَها هذه قد ذيَّلتْ ضريبةَ اختلافه عن الآخرين؛ تلك الضريبة التي كان يدفعُها مرارًا وتكرارًا، إلى أن جاءت كلماتُها فختمت الجرحَ، أو لربّما أيقظتْه وجعلتهُ غير واثقٍ إلّا بحقيقة واحدة: "إنّ كُربةَ الوحدة وتباريحَها تشتدُّ وسطَ الجماهير."

يتذكّر أنّ درسَه الأوّل في الغد، فيعاودُه القلق. يُغلق النافذة، ويعودُ إلى الطاولة.

***

ترتجفُ يدهُ وهو يخطُّ تاريخَ اليوم أعلى السبّورة. يتفحّص وجوهَ الشبّان الجالسين أمامَه في صمت. هذه الوجوه تنضحُ بما في النفوس من حبّ للتهكّم والفوضى. تتناهى إلى سمعه كلمةُ "قميص" يقولها أحدُ الطلّاب لزميله. يَعلمُ أنّه المقصود بهذه الكلمة لأنّ ملابسَه لم تعد تناسب هذا الجيل. يحوّل بصرَه إلى الكتاب بين يديه، ويبدأُ بقراءة القصيدة. يقرأُ صفحةً، ويسألهم عن رأيهم. يجيب أحدُهم: "بصراحة؟ مللنا يا أستاذ!"

يواصل القصيدة، ثمّ يتوقّف من جديدٍ ويسألُهم عن رأيهم. يعترضُ آخر: "وماذا ستُفيدُنا هذه القصيدة؟ يا أستاذ، لقد تغيَّر العالمُ!" يسأله عن قصده، فيجيب: "قصيدةُ حُبٍّ كهذه لن تنفعَنا في اجتذاب سيّدةٍ إنْ لم نرتدِ ملابسَ من آخر طرازٍ مثلًا!"

بدا له وكأنّ الجميع يَسْخر منه ومن ثيابه القديمة. حبسَ أنفاسَه، ثمّ علتْ وجهَه ابتسامةٌ متشنّجة وهو يقول: "معكُم حقّ، لستُم في حاجةٍ إلى هذا. ستتقدَّمون أنتم، وسنبقى أنا والشاعر في الدرس الأوَّل!"

أغلق الكتابَ وخرج.

اللّاذقيّة

 

[1]من قصيدة "ستار" (1948).

[2]وردتْ هذه العبارة التي كتبتها ميّ زيادة إلى جبران في رسالةٍ كتبها جبران ردًّا عليها في 9/5/1922. ونصّ رسالة ميّ الأصليّة مفقود.

[3]من رسالةٍ كتبها جبران إلى ميّ في 9/5/1922، وهي مأخوذة من كتاب رسائل جبران إلى ميّ زيادة

[4]من قصيدة "ستار."

نغم داؤد

وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.