العودة إلى المدرسة بعد كورونا
30-03-2021

 

 

غدًا ستعود الحياةُ لتتسلّل رويدًا رويدًا كالينابيع في جميع المرافق، ونعود إلى مدارسنا، فتُزهر قاعاتُها وتَفْرح ملاعبُها، وتعود إليها الألوانُ، وتزقزق العصافيرُ مبتهجةً بعودة التلاميذ، وقد ضَمنتْ قُوتَها من فتات خبزهم، فسكنت الطمأنينةُ أناشيدَها. غدًا ستصدح أصواتُهم مجدّدًا، وستعاود الأجراسُ مهمّتَها بعد صمتٍ طويل. غدًا سنعود، وسنشعر أنّنا كنّا في رحلةٍ خارج العصر، واختبرنا مساراتٍ جديدة. وسنشعر أنّنا استيقظنا من حلمٍ غريب، وأنّ أقدامَنا لم تعد تقوى على السير، وأنّنا نحتاج إلى إعادة برمجة أجسامنا مع عقارب الزمن السريع.

غدًا لن تعود الدنيا كما كانت، وسيطاول التغييرُ الحياةَ المدرسيّةَ بشكل أساس. سنعود ونلحظ، نحن العاملين في القطاعات التربويّة، بروزَ مؤشّراتٍ إلى أمراضٍ نفسيّةٍ مختلفةٍ على وجوه طلّابنا (وقد تظهر هذه المؤشِّراتُ على وجوهنا، نحن أيضًا، جرّاء الغياب القسريّ، وما اصطحب معه من متطلّباتٍ وأحدثَه من تداعيات). فأطفالُنا وطلّابُنا أمضوْا فتراتٍ طويلةً بعيدًا عن أيّ تقاربٍ اجتماعيّ فعليّ، وكانت الشاشاتُ رفيقتَهم الدائمة، إنْ لناحية محاولات التعلّم عن بُعد، أو لناحية اللهو عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ ومشاهدات الأفلام وسواها. المفارقة أنّنا نطلب اليوم إلى طلّابُنا أن لا يتركوا الشاشةَ كي لا يتغيّبوا عن حصص الدراسة، وأن يُنجزوا من خلال الشاشة أيضًا كلَّ الواجبات الدراسيّة المطلوبة، بعد أن كنّا سابقًا نتشاجر معهم مرّاتٍ ومرّاتٍ كي يبتعدوا عنها!

هنا برزتْ أهمّيّةُ التطوّر التكنولوجيّ الذي أسهم في إتمام المهمّة التعليميّة. لا ننكر أنّنا واجهنا مصاعبَ في الانتقال إلى طريقة التعليم عن بُعد، وذلك لأسبابٍ عديدة: منها ما يتعلّق بقدرة المعلّم على استخدام التكنولوجيا، ومنها ما يتعلّق بالكهرباء وخدمةِ الانترنت وغيابِ الأجهزة اللازمة عند قسمٍ كبيرٍ من الطلّاب والمعلّمين. إلّا أنّنا تمكّنّا من أن نجتاز هذه العوائق ضمن الإمكانات المتاحة لنا. فما حصل، على الرغم من صعوبته، قد كسر العمليّةَ الروتينيّة في مسيرة التعليم، وألزم المعلِّمَ معرفةَ استخدام التكنولوجيا وتوظيفَها في خدمة المتعلّم؛ ما سينعكس إيجابًا على أدائه عند عودته إلى الصفّ، إذ ستبقى هذه الطرقُ ملازمةً للحياة المدرسيّة، وقد يلجأ العديدُ من المدارس والجامعات إلى اعتماد تقنية التعليم عن بُعد حتى بعد انتهاء موجة كورونا.

والحقّ أنّ هذه التقنيّة المستحدثة لا تخدم كلَّ الأهداف العامّة لنظريّات التربية في مرحلة الطفولة المبكّرة تحديدًا. فلقد نجح التعليمُ عن بُعد، إلى حدٍّ كبير، في إيصال المعلومات إلى الأطفال، الذين يَسْتقونها أيضًا من غوغل ويوتيوب وتطبيقاتٍ أخرى، منها الجيّدةُ وغير الجيّدة، وبعضُها ساهم في تطوير لغاتهم الأجنبيّة. إلّا أنّنا ندرك كذلك أنّ كثافةَ المعلومات جزءٌ واحدٌ فحسب من أهداف هذه المرحلة التعليميّة، ولا تفي وحدها بالغرض المطلوب.

تعمل معظمُ المدارس في لبنان على تعليم الطفل في مرحلة الروضة الألوانَ والأشكالَ والحروفَ والأرقام ومحاورَ تناسب خصائصَ هذه الفئة العمريّة، على أن تتوسّعَ فتندرجَ في موادّ منفصلة في الحلقة الأولى من التعليم الأساسيّ. وهذه المرحلة جدُّ مهمّة، لكنْ شرط ألّا يقتصرَ دورُها على الجانب "المعرفيّ" فقط، بل يجب أن تشملَ الفنونَ واللعبَ والعملَ الجماعيّ، بما يؤدّي إلى اكتساب الطفل الأهدافَ التربويّةَ والتعليميّةَ المرجوّة عن طريق الفرح والمرح. أمّا اليوم فأطفالُنا منعزلون في غرفهم، بينهم وبين المجتمع علاقةٌ افتراضيّة، لا ندري كيف ستكون آثارُها فيهم، وهم الذين خسروا فرصةَ الحضور في قاعات المدرسة وملاعبها. أطفالُنا اليوم لا يروْن الشمسَ، ولا يمارسون حقَّهم الطبيعيَّ باللعب خارج أسوار المدرسة. كم من المواقف التربويّة كانت تصادفنا، نحن المعلّمين في أيّامنا المدرسيّة الحضوريّة، فتجدنا نتدخّل لزرع أفكارٍ وقيمٍ إيجابيّةٍ لديهم، ولتحويل خلافاتهم في الملاعب إلى دروسٍ  وعِبر. وكم نحرص، من خلال العمل الفريقيّ، على تنمية بذور المواطَنة الحقّة وتعزيز ثقتهم بأنفسهم. هذا من دون أن ننسى أنّ التعليم عن بُعد يكاد أن يخدِّر أناملَهم اليوم من فرط النقر على شاشاتهم، بعد أن كانت معظمُ النشاطات المدرسيّة الحضوريّة تعمل على تنمية الوظائف الحسّيّة الحركيّة وفقًا لخططٍ سابقة.

غدًا سنعود إلى المدرسة، فيتأثّر الطفلُ بشكلٍ مباشرٍ بسلوك معلّمته، ويتّخذها نموذجًا يتماهى به. غدًا سنعود وقد تراجعتْ صحّةُ المعلّم النفسيّة في وطننا الجريح، وهو ما سيكون له تأثيرٌ خفيٌّ في الطفل: فمن المعلّمين مَن عانى فيروسَ كورونا، ومنهم مَن خسر أحبّةً، ومنهم من تفاقمتْ لديه مشكلاتٌ نفسيّةٌ جرّاء الانعزال عن المجتمع وبعض الضغوط الأسريّة. أمّا البعد الآخر الذي يتمثّل في معاناتنا جميعًا في هذا البلد، لبنان، فحدّثْ ولا حرج: توتّرٌ، وقلقٌ، وخوفٌ من المستقبل، وضائقةٌ اقتصاديّةٌ خانقة، ومخاوفُ أمنيّة، وما يرافق كلَّ هذه الأزمات من صعوباتٍ نفسيّةٍ وعمليّة.

وإذا خصصنا الكلامَ على المعلّمات تحديدًا، فقد كان عليهنّ، وما يزال، أن يقمن بكافّة واجباتهنّ المنزليّة. ومنهنّ مَن تابع دروسَ أولادهنّ أيضًا -- هذا مع الإشارة الى أنّ مساعِداتِ المنازل غادرن الأراضي اللبنانيّة بسبب الظروف الاقتصاديّة الطارئة، ما ألقى بأعباء إضافيّةٍ على المرأة، الأمّ والعاملة.

وأمّا الأهل، بشكل عامّ، فصاروا جزءًا أساسًا في عمليّة التعليم. منهم مَن عانى عدمَ المعرفة الكافية بالأدوات التكنولوجيّة، ما جعل معظمَهم في حالةٍ من التوتّر التي انعكستْ على أولادهم في البيت. ومنهم مَن ترك أطفالَه في المنزل ليذهبَ إلى عمله مستعينًا بالجدّ والجدّة والأقارب. وصارت بعضُ  المدارس تتواصل مع الأهل بشكل يوميّ وتحاول أن تسهّل عليهم المهمّةَ الصعبة. إلى أن توصّل الأهل إلى تسليم أمرَهم لله، وإلى محاولة التعايش مع الواقع الجديد، على الرغم من وعي معظم العائلات أنّ الأولاد هم مَن دفعوا الثمنَ الأكبر.

ختامًا، فإنّ هدف التربية الأساس هو تحقيقُ النموّ الشامل في شخصيّة المتعلّم من جميع النواحي، الفكريّة والجسديّة والعاطفيّة والأخلاقيّة. فالمحبّة والاحتضان لهما دورٌ بالغُ الأهميّة في بناء شخصيّة المتعلّم، واحترامُه قبل تعليمه يمكّننا من أن نحصدَ النتائجَ التعليميّة المرجوّة. فنحن نعيش في عصرٍ تنهال علينا فيه المعلوماتُ من كلّ حدبٍ وصوب. لذا فإنّ هدفَنا الأكبر هو التأثيرُ الإيجابيُّ في تلاميذنا، ومساعدتُهم في رحلة بناء حياتهم على قواعدَ سليمةٍ تؤسّس لمجتمعٍ أفضل. قدرُنا أن نحمل الألمَ داخلنا وألّا ندعَه يتسلّل إلى قلوب التلاميذ.

***

غدًا سنعود. لكنّنا لم نعد كما كنّا، ولم يعد التلاميذُ كما كانوا. سنكون أمام بداياتٍ جديدة، وستلمع في عيون أطفالنا بارقةُ أملٍ لمستقبلٍ نريده واعدًا، وسيكون علينا أن نسهمَ في توسيع بقعة الضوء فيه.

لبنان

 

وسام أنور ضو

ناظرة تربوية في مدرسة أمجاد، قسم رياض الأطفال. طالبة دكتوراه في الجامعة اللبنانيّة، اختصاص طفولة مبكّرة. نائب رئيس في جمعية  Edu_Art  للتربية والفنون.

كلمات مفتاحية