خارطة القرف
28-02-2016

 

لطالما كانت لصورة زوربا اليونانيّ، ولرقصته المرحة التي تفتح ذراعيْها للحياة، رمزيّةٌ لدى الناس، يستحضرونها إذا استطاعوا إلى الفرح سبيلًا. ولكنْ في مشرقنا، الذي لم يبق فيه للفرح مطرح، قد يمدّنا زوربا بحيلةٍ نواجه بها ما نحن فيه من مخاضٍ عسير: القرف. يخبرنا زوربا عن شدّة هوسه بالكرز في صغره، لذا اشترى سلّة كاملة منه، وأخذ بالتهامه، حتى شعر بألمٍ في معدته وبأنّه على وشك التقيّؤ، فلم يعد يقْربه. فمتى نقرف مِن كلّ ما نحشو بها أنفسَنا من كراهيةٍ وعنصريّةٍ وجنون؟

في مشرقنا، بات الناس يجلسون كلّ يوم خلف أمان شاشاتهم، يشاهدون عشراتِ الأطفال المصابين بالشظايا والموت، ويتابعون هرولة الثكالى والنائحات. ولكنْ، كما تسطّحتْ أجهزةُ التلفزيون مع الزمن، تسطّحتْ أيضًا المشاعر، وفرغتْ ردودُ الفعل من أيّ عمقٍ أو بعد، وبات ما نراه عاديًّا ومعادًا، وقلّما تركت المآسي أثرًا في نفوسنا، وكأنّي بوسائل الإعلام والتواصل نجحتْ في قتل إحساسنا وإدراكنا، وخدّرتْ مشاعرَ القرف لدينا ممّا نراه من قتل ودمار وتشرد. ورغم ما يحدث، لا يزال البعضُ مصرًّا على التصدّي لأيّ نقدٍ للتطرّف الذي نعيشه. وهنالك مَن يأخذ في تفسير أيّ حدث، ويعمد إلى قولبته عبر مماحكاتٍ طويلة، حتى يجد الآخرُ نفسَه فيها وقد أضحى خائنًا أو عميلًا أو كافرًا.

ومن تطرّف دينيّ إلى تطرّف سياسيّ، فقد المشرقُ كلَّ فرص الاعتدال والمدنيّة الحقّة. وما بين لحيةٍ محنّاة وأخرى شعثاء، ضاعت الدولةُ ومؤسّساتها، والأخلاقُ وتقاليدها، وأصبح الوطنُ قبائلَ مشتّتة ومتقاتلة، ومدنًا تئد الإنسانَ وأحلامَه. ومع ذلك لا يزال كثيرون يصرّون على أنّ الروحانية والسكون يسودان مشارقَ الأرض حيث تسكن شعوبُ الله "الطيّبة." ولكنّ الشعب الذي يقتل أفرادُه بعضهم بعضًا يوميًّا ليس بشعبٍ طيّب، والشعب الذي يعمل بعضُه على تجويع بعضه الآخر ليس بشعبٍ طيّب.

كتب الأستاذ سمير العيطة يومًا في جريدة السفير عقب سقوط الموصل بأيدي الظلاميين يدعو إلى التخلّي عن "منطق الشرق المجنون القائم والعودة إلى الشرق الحضاريّ." فعن أيّ شرق حضاريّ يتحدّث؟ ألم يسُدِ الموتُ المجنونُ أرضَ هذا الشرق في معظم حقبات تاريخه؟ واليوم، البعض يريد هذا الشرق إسلاميًّا إلى حدّ الجنون، والبعض الآخر يريده قومجيًّا إلى حدّ الجنون، وهنالك مَن يريده مؤمركًا "ليبراليًّا" إلى حدّ الجنون، ولا ننسى مَن يريده شيوعيًّا حالمًا إلى حدّ الجنون. ولا تنتهي السلسلة هنا؛ فالجنون سلعة رائجة. الشرق المجنون يَسْهل نهبُه أكثر، ويسهل استثمارُه أكثر؛ ففي جنونه يَستهلك سلاحًا أكثر، وإعلامًا أكثر، ومنتجاتٍ أكثر. وهاهو بعض من هذا الجنون لا يزال يتمدّد كلّ يوم، ويقضم أراضي ومدنًا وآثارًا وخيرات. وشيئًا فشيئًا يصبح التطرّف السمة "الحضاريّة" الأبرز على مرّ أزمنة هذا الشرق. وكلما ازداد التباعد والتشنج والتناحر، عمت الفائدة على تجّار الحرب وأمرائها، وأثرى سدنةُ الهياكل وبسطوا سلطتهم. وهكذا، يغرق الشرقُ في تديّنه السطحي وخلافاته العقائدية التي لا تؤدّي سوى إلى موت أكثر ودمار أكبر وانشقاقات أعمق. وكلّما تطرّف المرءُ، حسم كلّ الأمور لصالحه، وألغى الآخر وحواراتِه، بحسب تعبير واحدٍ من أبرز ضحايا "حواراتٍ" كهذه، عنيتُ الشهيد فرج فودة، الذي أعمل عقلَه ضدّ كلّ ما أحاط به من جهل وتلفيق وتخلف، "فأعملوا" الموتَ ضدّه.

لقد تشظّى إنسانُ الشرق، كما القنابلُ والمفخّخاتُ والألغام التي أصبحتْ تملأ شوارعَه وحياتَه وأحلامه. وهكذا بتنا اليوم نعيش في مشرقٍ منهكٍ تحكمه المقاصلُ، ويتحوّل الناسُ فيه إلى أرقام وإحصاءات باردة تنتحل الحيادَ والمنطق العلمي المحكم. مشرقٌ يسوده التطيّفُ، ويتيه في أحابيل الجدالات العقائديّة، وينسى كلّ تواصل إنسانيّ ورأفة بشريّة. مشرقٌ يعاني أطفاله الموت كل يوم، بل يعيشون ليحملوا السلاح، ولينْموا في قامة الكراهية والانعزال. مشرقٌ أطعم العالمَ كلّه يومًا، وهاهو اليوم يتضوّر جوعًا. مشرقٌ بنى مدنًا وحضاراتٍ للعالم أجمع يومًا، وهاهو اليوم يقيم الخيامَ وبقايا الملاجئ. مشرقٌ ساهم في روحانيات الدنيا الأولى كما الآخرة، ولكنه يجثم اليوم على أرواح الناس. مشرقٌ صارت عقيدته المثلى الاستهلاك المتفلّت من كل الضوابط. مشرقٌ تطرّف في حبّه وحربه، حتى بات يحتضر مثخنًا من جراحهما معًا. مشرقٌ لطالما تفاخر بترجماته لأمّهات الكتب والنظريّات، ولكنه فشل في ترجمة إنسانه. مشرقٌ بذاكرة حديديّة وحياة صدئة.

فطوبىٰ لمن لم يقرف بعد!

سوريا

 

 

 

يامن صابور

كاتب ومترجم من سوريا. حاصل على ماجستير النقد الأدبيّ في اللغة الإنكليزيّة. له عدد من المقالات والترجمات المنشورة في مجلات ومواقع إلكترونية.