رأيت غزالًا على شاطئ البحر
25-01-2019

 

تستيقظ دلال على جرس الباب. فتغادر السريرَ بتكاسُل، وهي تنظر إلى ساعة الحائط المعلّقة على الجدار: إنّها الواحدة ظهرًا.

"مرحبًا،" تقول المرأة الواقفة خارجًا، ثم تشير إلى الباب المقابل وتتابعُ كلامَها: "انتقلنا البارحة مساءً إلى هذه الشقّة. أنا فيروز، وزوجي اسمُه قيس." تأخذُ نفسًا سريعًا وتُكمل: "تزوّجنا الأسبوع الماضي، واستأجرنا شاليه على شاطئ البحر." تضحك بخجل قائلة: "أسبوع عسل يعني." وتتابع: "تعبتُ من الترتيب والمسح والتنظيف. سافر قيس إلى اللاذقيّة ليُكمل بعض الأوراق المتعلّقة بالزواج، ولن يعود قبل يومين. وأنا على هذه الحالة منذ السادسة صباحًا. فقرّرتُ أنْ آخذَ استراحة وأتعرّف إلى جيراني."

تظنُّ دلال أنّ جارتَها الجديدة أنهتْ حديثَها، فتهمّ بالكلام. إلّا أنّ فيروز تقاطعها قائلة: "عندي قهوة برازيليّة طازجة، لا مثيل لها في الشام كلّها. حمّصتها، وطحنتها، وأضفت إليها الهال بيديّ هاتين. تقْبلين دعوتي إلى فنجان قهوة؟" تبتسم دلال رغمًا عنها، وترضخُ لنظراتِ فيروز اللطيفة، وتعِدها بالانضمام إليها بعد أن تستحمّ.

عندما تدخل بعد نصف ساعة بيتَ جارتها الجديدة تلاحظ الترتيب والنظافة رغم مظاهر الفقر. وبصعوبة تكتم ضحكتها حين ترى فيروز تتراكض أمامها مرحّبة وتنصحها بالجلوس على الكنبة المزدوجة، الأكثر تماسكًا بين الأثاث.

***

قالت لي دلال مساء ذلك اليوم: "لم أضحك هكذا منذ وقت طويل." أسعدني الأمر؛ فدلال شخصيّة صعبة الإرضاء، ومن المُستغرب أن تنسجم مع أحد بهذه السرعة، إلى درجة أنّها نسيتْ ديوانَها الشعريّ الجديد، حُبٌّ بريٌّ الذي صدر قبل أيّام قليلة وأخذتْ تحدّثني عن فيروز. كنّا نجلس في المطبخ: أنا أحضّر العشاءَ وهي ماضيةٌ في حديثها الغريب.

ــــ تصوّر! عاشت فيروز قصّة حبّ مع قيس سبع سنوات قبل أن يتزوّجا، على الرغم من معارضة أهلها بسبب اختلاف دينهما. وللأسف، لم تُكمل تعليمَها لأنّها تكره المدرسة. وعندما سألتُها إنْ كانت نادمة على ذلك، قالت وهي تضحك: "الشيء الوحيد الذي أندم عليه هو أنني لم أُحرقْ تلك المدرسة قبل خروجي منها."

"من يضحك على مثل هذا الأمر؟" سألتني دلال. وأضافت من دون أن تسمع منّي جوابًا:

ــــ فاتني أن أخبرك أنّها جميلة أيضًا. ليتني كنتُ في مثل جمالها. ليتني أملك تلك البساطة في التعبير عن أفكاري شعريًّا. تصوّرْ! تقول الشِّعر من دون أن تدري. هل تتخيّل ذلك؟ اسمعْ ماذا قالت عن بداياتِ حبّهما: "كنتُ أذهب إلى موعدي معه وأصل في الوقت المحدّد ـ رغم أنني لا أحمل ساعة." اسمعْ أيضًا ماذا حصل حين سمعتْ منه كلمة أحبُّكِ لأول مرّة: "كنّا ذات ليلة نمشي في زقاق صغير مظلم، فضمّني مستغلًّا ظلمة المكان وقال لي ’بحِبّك‘ وهو يطْبع قبلتَه الأولى فوق شفتيّ. فجأةً عاد التيّار الكهربائيّ في تلك اللحظة. فشعرتُ أنّ قلبي هو الذي أضاء المكان."

***

كانت دلال عمريتي رفيقتي في مرحلة التعليم الثانويّ. ثم فرّقتنا الحياة وذهب كلٌّ منّا في طريق. عرفتُ لاحقًا أنها سافرتْ إلى الجزائر، بعد تخرّجها من الجامعة لتعليم اللغة العربيّة هناك، وبقيتُ أتنقّلُ بين دمشق وبيروت مكابدًا متاعبَ السفر ومهنةَ الصحافة التي أحبّ. بعد حوالي ستّة أعوام من سفرها رأيتُ مصادفةً اسمَها في إحدى الصحف اللبنانيّة، يتصدّر عنوانًا لمقالٍ كتبه أحدُ أصدقائي الصحفيين يُشيد فيه بقصيدةٍ طويلةٍ للشاعرة تُمجّدُ فيها أطفالَ الانتفاضة الفلسطينيّة. ومن دون تأخير اتصلتُ بهذا الصديق وعرفتُ منه عنوانَها في الجزائر، فأرسلتُ إليها رسالة من عدّة صفحات، لأُفاجأ بعد شهرين بمظروف سميك في صندوق بريديّ يحوي رسالةً وديوانَ شعرٍ عليه إهداء بخطّ أنيق: "إلى صاحب العينين الزيتونيتيْن." وهكذا بدأنا نتواصل عن طريق الرسائل. إلى أن قرّرتْ أخيرًا العودة إلى البلاد، فالتقينا بعد عام ونصف العام من المراسلات في أحد مقاهي دمشق القديمة. وهناك بدأنا الحكاية من جديد.

***

انتهيتُ من تجهيز العشاء وجلسنا نتناول طعامَنا، ودلال ماضية في حديثها عن فيروز:

ــــ حين قلتُ لها إنني أكتب الشِعر وإنّ لي عدّة دواوين في المكتبات، شهقتْ، ثم أمسكت يديّ في غفلة مني وقبّلَتْهما. خجلتُ كثيرًا ولم أعرف كيف أتصرّف. ويؤسفني أن أقول لك إنّ النسخة الوحيدة التي كانت عندي، وكان يُفترض أن أهديك إيّاها، صارت الآن من ممتلكات فيروز، التي جُنّتْ بها، وأخذتْ تُقبّلها وتضعها على رأسها كأنّها القرآن. وكم حزنتُ حين سمعتها تقول بحسرة: "إنّها المرّة الأولى التي يهديني فيها أحدٌ ما كتابًا، بل هي المرّة الأولى التي ألتقي فيها شاعرةً من لحم ودم."

توقّفتْ دلال عن الكلام لتأخذَ رشفةً من فنجان الشّاي وتتناولَ لقمةً من جبنة القشقوان التي تحبّها. فانتهزتُ الفرصة وسألتُها:

ــــ ولكنْ منذ متى تزورين الغرباءَ في بيوتهم وتقضين معهم كلّ هذا الوقت؟

ــــ ثماني ساعات، قالت بهدوء وهي تمضغ لقمتها بتلذّذ، مغمضةَ العينين.

ــــ ثماني ساعات؟! صرختُ متعجّبًا، وماذا فعلتما كلّ هذا الوقت؟!

ــــ شربنا القهوة، ثم طبخنا، وأكلنا، ودخّنّا، وثرثرنا، ووضعتْ لي فيروز الماكياج والمانيكور، وصفّفتْ لي شعري، بينما أنا أقرأ عليها قصائدي من الديوان الذي أهديتُها إيّاه.

لم أستطع أن أتمالكَ نفسي، فانفجرتُ ضاحكًا. ضحكتْ دلال معي حتّى سالت دموعُها. ثم عبستْ فجأةً ووبّختني لأنّني أسخر منها. ومع ذلك لم أستطع التوقف عن الضحك، فقامت وأغلقت فمي بكفّها وهي تكبتُ ضحكتها.

***

تُعتبر دلال العمريتي من أهمّ شاعرات جيلها. وقد نُشِرتْ أشعارُها مترجمةً إلى لغاتٍ عدّة. كما تُرجم ديوانُها الأول، مطرُ الغد، الذي صدر في الجزائر، إلى اللغة الفرنسيّة، واحتفتْ به الصحافة هناك. ثم دُعِيَتْ إلى باريس للمشاركة في "مهرجان الثقافات الأجنبيّة،" فأقامتْ عددًا من الأمسيات الشعريّة، وكرّمتها وزارةُ الثقافة الفرنسيّة. ومنذ ذلك الوقت لا يغيبُ اسمُها عن صفحات الجرائد والمجلّات الثقافيّة العربيّة. كلّ هذا لأقول إنّ دلالًا لم تكنْ يومًا بعيدةً عن الأضواء، أو ينقصها الاهتمامُ والتقديرِ. ومن العجيب أنْ تتصرّفَ بهذه الطريقة مع امرأةٍ غريبةٍ لا تعرف عنها أيَّ شيء.

انتهيتُ من تناول الطعام وأشعلتُ سيجارةً، ثم سألتُها عن أصداء ديوانها الجديد، حُبٌّ بريٌّ، الذي كان يُفترض أنْ أحصلَ على نسختي منه اليوم. لكنّها فاجأتني حين قالت بكاملِ الجديّة: "لم يُعجبْ فيروز العنوان، لكنها أحبّت الصورة على الغلاف." ثم أضافتْ بعد برهةٍ من التفكير:

ــــ أحسدُ هذه المرأة على صراحتها. لم تتردّد لحظة حين قرأت العنوان فقالت لي: ’لا تزعلي منّي، لم أحبّه.‘ ثم أضافت: ’لو كنت مكانك لاخترت عنوانًا آخر.‘ سألتُها: مثل ماذا؟ فقالت بثقة: ’مثل: رأيتُ غزالًا على شاطئ البحر.‘ وعندما أخبرتُها أنْ لا غزلانَ في الديوان، فكّرتْ قليلًا ثم قالت: ’إذًا، فلنجعلْه حصانًا، أو عصفورًا، أو حتّى حمارًا صغيرًا، أو أيَّ شيء على شاطئ البحر.‘

وأردفتْ دلال معاتبةً نفسها: "كيف لم يخطر في بالي عنوانٌ بهذه البساطة؟!"

ــــ لكنّه غير مناسب هو أيضًا، قلت.

ــــ أتكلّم عن الصيغة؛ فهي أكثر مناسبةً لمحتوى هذا الديوان.

ــــ ومع ذلك، فأنا مع حُبٌّ بريٌّ، قلتُ حاسمًا المسألة.

***

كانت علاقتي بدلال غريبةً بعضَ الشيء. فأنا حبيبُها، وصديقُها، والشخصُ الذي تأتمنُه على أسرارِها، بل على حياتها. لكنّها، في الوقت ذاتِه، رفضتْ أنْ نتزوّج، على الرغم من محاولاتي المتكرّرة، وكانت تقول دائمًا: "لا أريد أن أخسرك." ورفضتْ أن نُقيمَ معًا؛ فهي تفضّل الوحدةَ حسب زعمها. كنتُ متيّمًا بها، وأغار عليها إلى حدّ الجنون. وكلّما سألتُها: "ما الحلّ؟" كانت تردّ: "ماذا تريد أجمل من هذا الحلّ؟" ثم تضحك بغنج.

حين هدّدتُها بالابتعاد، بقيتْ شهرًا لا تسمح لي بلمسها، وصارتْ تكلمني كأنّي غريب عنها. استفزّني هذا السلوك لدرجة أنّني فرضتُ نفسي عليها بالقوّة ذاتَ مرّة. كانت غيرتي تأكلني. وبين المزاحِ والجِدّ أخذتُ أعرّيها من ملابسها رغمًا عنها، وهي تصرخ وتدفعني بعيدًا بيديها ورجليها وكامل جسدها. وبقيتُ كذلك إلى أن لمستُ تراخيًا منها فأقدمتُ على ما كنتُ أسعى إليه، وتحوّلتُ خلال لحظات إلى بركانٍ من الشهوة. وعادت دلال: العاصفة التي أحببتُ.

كانت دلال تعيش الشعْرَ قبل أن تكتبه. وكانت قصائدُها تُولَد بشكلٍ انفجاريّ، فتلوِّن العالمَ من حولها بألوانها الخاصّة، وتخلِّف أثرًا جميلًا في نفس كلّ َمن يلتقيها أو يقرأ قصائدَها. ودلال، العاصفة التي أحببتُ، هي في الواقع قصيدةٌ قبل أن تكون امرأةً أو صفةً لحالةٍ ما أو لفعلٍ جنسي. ومن هنا انحيازي إلى عنوان ديوانها الجديد: حبٌّ برّيّ.

***

في زيارتي التالية لدلال بعد أسبوع، عادت لتحكي لي عن فيروز بينما كنّا نشرب القهوة ونشاهد برنامجًا ترفيهيًّا على إحدى القنوات الفضائيّة. كانت تنظر إلى شاشة التلفاز وتحدّثني كأنّها تقرأ الكلامَ عن الشريط الأخباريّ:

ــــ وجدتُ من الغريب أن تجيد فيروز الطبخ؛ فهي صغيرة السنّ، ولا يظهر عليها أنّها تهتم بهذه الأمور. لكنّ الملوخيّة التي طبختْها البارحة كانت أكثر من رائعة. كذلك الأرزّ. لقد أكلتُ إلى درجة التخمة.

ثم توقّفتْ وسألتني:

ــــ أتعرف عنّي أنّني فجعانة أكل؟

هززتُ رأسي نفيًا وأنا أبتسم. تابعتْ كلامَها وهي تصف أطباقَ الطعام ورائحتَها الشهيّة. ثم انتقلت إلى فطيرة التفّاح التي صنعتها فيروز "ببساطة كأنها تلعب وتتسلّى." واستفاضت في الحديث عن تلك الفطيرة اللذيذة: من طعم القرفة، إلى نكهة التفّاح المطبوخ، إلى درجة حلاوتها، ونسبةِ السكّر، وقوامِ العجينة قبل النضج وبعده. حتّى الشاي الذي شربته عند فيروز كان مختلفَ النكهة. ثمّ توقفتْ عن الكلام وسألتني بجدّيّة:

ــــ هل صنعُ الشاي بحاجة إلى مهارة؟

ــــ أمممم، هناك صنّاع شاي مهرة، قلتُ وأنا أقبّلها على جبينها.

ــــ إنّها تجيد الرقص أيضًا. ما هذه الفيروز!

قالت بإعجاب، ثم تابعت وهي تضحك بغنج:

ــــ لقد علّمتني البارحة بعض الحركات، ورقصنا معًا على موسيقى مقدّمة أغنية لأم كلثوم لم أعد أذكر اسمها، وسأرقص لك متى صرتُ بارعةً كفيروز.

قالت ذلك وهي تغمز تلك الغمزة ذات الإيحاء الجنسيّ، فنظرتُ إليها غير مصدِّق، وسألتُها وأنا أغالب الضحك:

ــــ من أنتم؟

لكنها لم تهتمّ لتعليقي الذي كان يُفترض أن يُضحكَها، وتابعتْ كلامَها:

ــــ تقول فيروز عن زوجها إنّه أفضل رجل على وجه الأرض. لقد أثارت فضولي لأتعرّف إليه. أحبّ أن أعرفَ كيف يكون شكلُ أفضل رجلٍ على وجه الأرض.

ــــ إنّه أمامكِ، انظري إليه، همستُ في أذنها.

ــــ لا تغَرْ! أنت أفضل رجل في المجرّة، لا على وجه الأرض، قالت.

ثم ارتمت فوقي بوحشيّةِ لبوة، وكانت لنا جولة جديدة مع المتعة والحب.

***

أصبحتْ فيروز وحكاياتُها أمرًا واقعًا في حياتنا. حتّى إنني صرتُ أسأل عن أخبارها إن تأخرتْ دلال يومًا عن تزويدي بها: "جاءت فيروز. ذهبت فيروز. بكت فيروز. ضحكت فيروز. مارست فيروز الجنس مع زوجها. انتفخ بطن فيروز. أجهضتْ فيروز طفلتها التي كانت ستسميها دلال على اسم جارتها الشاعرة. دخلتْ فيروز في حالة اكتئاب، ومعها دلال التي شاركتها وجعها بصدقٍ ومحبّة."

هكذا تطوّرت علاقتُهما الغريبة (أو التي كنتُ أجدها أنا على الأقلّ غريبة). وهكذا تداخلتْ يوميّاتُهما، حتّى إنّها صارت تقرأ على مسامع فيروز قصائدَها الجديدة قبل النشر وتسألها عن رأيها ــ ــ الأمر الذي لم تفعله مع أحدٍ آخر على حدّ علمي. أنا نفسي لم أحظَ بهذا الشرف يومًا، مع أنّني كنتُ لصيقًا بها طوال الوقت، بالإضافة إلى حماسي الشديد لأعمالها الشعريّة التي كنت أختلقُ المناسبات لنشرِ بعضها في الصحيفة التي أعملُ فيها، أو أطلب من أصدقائي الذين يعملون في صحفٍ أخرى فعل ذلك. وعندما سألتها عن هذا السرّ قالت:

ــــ تمتلك فيروز روحًا حرّةً، لا تقيّدها أيُّ قواعد أو نظريّات أدبيّة. إنها ترى الأمور بطريقتها الخاصّة وتعكس ذلك بصفاءٍ قلّ نظيرُه. وهي، بطريقةٍ ما، طفلة. فَمَنْ غير الأطفال يقول للشاعر عن قصيدته ’هالقصيدة بشعة‘ ويفسّر رأيَه هذا بالقول ’لأنها سميكة وصعبة‘؟ ومَنْ غير الأطفال يعبّر لك عن رغبته بلقائك كلّ يوم؟

كانت دلال تتكلّم بسلاسة وعفويّة هي الأخرى. وكنت مستمتعًا بحديثها. لذا عندما توقّفتْ عن الكلام لبرهة طلبتُ منها أن تتابع كلامها، فقالت:

ــــ أوّل مرّة دخلتْ فيها فيروز إلى بيتي رأتْ بعضَ الرسائل مرميّةً على طاولة الصالون. فتناولتْ إحداها وبدأتْ تقلّبها بين يديها وتتفحّصها. ثمّ قرأتْ بصوت عالٍ ’إلى السيدة دلال العمريتي ...‘ وبكلّ براءة قالت لي: ’نيالك عندك حدا يبعتلك رسائل.‘ وأضافت مع ابتسامة ودودة: ’لابقلك كتير هالوصف: السيّدة!‘

ــــ وهل هذا يكفي كي تدخليها إلى مطبخك الأدبيّ؟ قلتُ بعد أن توقّفتْ عن الكلام وشردتْ بعيدًا.

ــــ لقد أدخلتْني هي أيضًا إلى مطبخها، قالت.

ثم نهضت وتركتني أراقبها وهي تبتعد عني، من دون أن تلتفت إلى الخلف.

***

كان يدور الكثير من الحوارات بيني وبين دلال حول الشعر ومدارسه. وكنتُ أميلُ إلى "قصيدة التفعيلة،" وأحفظ بعضَ المقاطع الشعريّة لمحمود درويش وخليل حاوي وغيرهما. أمّا هي فكانت من أنصار "قصيدة النثر،" وتعتبر أنّ أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهم من مُبدعي تلك المرحلة قد حرّروا الشعراءَ العرب من قيودهم، وأطلقوا العنانَ لخيول الإبداع الجديد. وأهميّة قصيدة النثر وخصوصيّتها تأتي، بحسب رأيها، من كونها "حوّلت اللغة الشعريّة من الفخامة وجزالة اللفظ إلى لغة الحياة اليوميّة." وفي آخر حوار لنا (حين يئستْ منّي تمامًا) قالت باقتضاب ونفادصبر: "الأمر على هذه الشاكلة: الحكّام العرب هم قصيدة التفعيلة، بينما قصيدة النثر هي فلسطين وثوّارها." ثم أضافت بنبرة تحدٍّ:"مع مَن أنت؟" فأُسقِط في يدي، ولم أجد منفذًا سوى القول: " أنا معك." ولم أكذب عليها قط.

بعد كلّ هذا لكم أن تتخيّلوا ردّة فعلي عندما أخبرتني، في اليوم التالي لحديثنا، أنّها قرأت على فيروز مقطعًا من قصيدة تفعيلة لعبد الوهّاب البيّاتي، وآخر من قصيدة نثر ليوسف الخال. وكان رأي فيروز أنّ كلام يوسف الخال أقرب إلى قلبها من كلام البيّاتي، الذي تخيّلتْ أنّه يَشعر بالضجر وهو يكتب الشعر! وغضبتْ مني حين أخبرتُها ساخرًا أنّ كلام فيروز هو في الحقيقة انتصارٌ لرأيي، لا لرأيها، معتبرًا أنّ قلّة ثقافة فيروز وبساطتَها تحتّمان عليها اختيارَ الأسوأ. وقد دفعتُ ثمن هذا التصريح غاليًا، مع أنني اعترفتُ بحقارة ما فكّرتُ فيه، وأنني لم أكن أقصد ذلك تمامًا، وأن الأمر مجرّد مزحة. إلّا أن هذا لم يعفني من العقاب الذي جاء هذه المرّة على شكل لكمات متتالية على الكتف والصدر، وسيلٍ من الشتائم الأنيقة المنتقاة بحرص.

***

إلى هذا الحدّ دخلت فيروز في حياة دلال وأثّرتْ فيها. لذلك لم أستغرب حين اختارت عنوانًا لديوانها الجديد تلك الجملة التي قالتها فيروز قبل عدّة أشهر: رأيتُ غزالًا على شاطئ البحر. لكنّ الذي صدمني هو الإهداء الذي وجدتُه مطبوعًا وسط الصفحة الأولى: "إلى السيّدة فيروز التي جعلتني أرى الحياةَ بطريقةٍ أخرى." وشكرتُ الله لأنها لم تكتب "بطريقة أجمل" لأنّ العنوان، وهو على هذا الشكل، خلق بلبلةً بين أوساط النقّاد والمثقفين، إذ لم يخطر في بال أحد منهم عند قراءته سوى السيّدة فيروز المطربة، فبنى على ذلك ما بنى من توصيف وتصنيف. وربط البعضُ بين قصائد الديوان والإهداء، معتبرين أنّه (أي الإهداء) يشكّل مدخلًا لفهم القصائد والإبحار في المناخ الفيروزيّ الساحر. ومضى آخرون إلى أبعد من ذلك، وبدأوا البحثَ عن روح الأخوين رحباني الشعريّة بين سطور الديوان. ولم أصدّق عينيّ حين قرأتُ لناقدٍ شابّ ما يأتي: "إنّ الشاعرة، رغم تماهيها مع العالم الرحبانيّ القديم، فإنّ هناك آثارًا وتهويماتٍ تحوم حول شطحات زياد الرحبانيّ الشعريّة وقفشاته المسرحيّة، التي تخفيها الشاعرةُ بمهارة خلف رصانة المعنى"!

أمّا فيروز فكادتْ تُصاب بسكتة قلبيّة حين قرأت العنوان والإهداء، وبدأتْ تصرخ وتبكي كأنّها فقدت عزيزًا على قلبها.

واليوم أشعر بالاعتزاز لأنّني كنتُ شاهدًا على هذا الحدث الذي أرّخ لبداية جديدة في مسيرة دلال العمريتي الشعريّة. وفي الوقت ذاته، أشعر بالخجل لأني شككتُ لوهلة في نوايا دلال المتعلّقة بالإهداء والصيغة الملتبسة التي جاء فيها، وكنتُ أراقب عينيها حين قدّمت الديوانَ إلى فيروز بحثًا عن أيّ أثرٍ للخبث الذي يتكلّمون عليه عند بعض المثقّفين. لكني لم أرَ سوى الدموع الصافية تنساب على وجنتيها وتنقش بسواد كحلتها قصيدةَ نثرٍ جعلتني أعيد النظر في موقفي من قصيدة النثر.

اللاذقيّة

 

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).