رأيٌ من القدس المحتلّة: فيزا أو تصريح؟ كفى تطبيعًا
27-04-2019

 

في ظلّ هيمنة الاحتلال الإسرائيليّ على فلسطين المحتلّة بشكلٍ كامل، وحصارِه المستمرّ للمدن الفلسطينيّة من شمالها إلى جنوبها، وسيطرتِه التامّة على الحدود والمعابر، برًّا وبحرًا وجوًّا، كيف لنا أن ندعو العربَ إلى فلسطين؟ كيف ندعوهم وحريّتُنا مقيّدةٌ أسيرة، بفعل قرارٍ صادرٍ من جهة ظالمة عنصريّة مجرمة محتلّة، هي السلطاتُ الصهيونيّة؟!

بعد التنازل عن فلسطين بتوقيع اتفاقيّة أوسلو الهزيلة (1993)، وبعد ترويجِ ما يُسمّى (زُورًا) "تحقيق حلم التحرّر،" توالت  الدعواتُ من داخل فلسطين المحتلّة إلى الفنّانين والصحفيين والأدباء والرياضيين العرب وغيرهم من أجل القدوم إلى الأراضي المحتلّة تحت شعار "كسْر العزلة والتواصل مع المجتمع الفلسطينيّ." جزءٌ من هذه الدعوات كان صادرًا عن تعطّشٍ فلسطينيّ إلى اللقاء بعمالقة الفنّ العربيّ والشخصيّات العربيّةِ المؤثِّرة. لكنّ جزءًا آخر منها صدر من منطلق تجاريّ ربحيّ انتهازيّ. أمّا الجزء الأخطر، فهدفَ إلى التعامل مع الاحتلال القائم على أنّه وضعٌ "طبيعيّ،" وذلك استكمالًا للتطبيع الرسميّ والعلنيّ بين دولة الاحتلال وفلسطين والأقطار العربيّة الأخرى.

في صيف العام 2010 أصدرت "الحملةُ الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" وثيقةً بعنوان "معايير المقاطعة وزيارة الأكاديميين/ات والفنّانين/ات العرب إلى فلسطين المحتلة."[1] في هذه الوثيقة أعربت الحملةُ المذكورة عن احترامها للمواقف العربيّة الرافضة أن يزور العربُ الأراضيَ الفلسطينيّةَ المحتلّة "بإذنٍ من المحتلّ" بغضّ النظر عن "أيّ اختلافات" بين معايير المقاطعة العربيّة "والمعايير التي يتبنّاها، مضطرًّا، المجتمعُ الفلسطينيُّ الرازحُ تحت الاحتلال." ولذا لم ترفض الحملةُ الفلسطينيّة مبدأ الزيارة في ذاته، بل وضعتْ له أطرًا وقيودًا، أوّلُها وجوبُ أن يتمَّ دخولُ أيّ عربيّ إلى فلسطين المحتلّة عن "طريق تصريحٍ من سلطات الاحتلال (أيْ دون أن يُختمَ جوازُ السفر)، وليس بتأشيرة دخول (فيزا)، وذلك تأكيدًا على رفض التعامل مع دولة الاحتلال كدولةٍ طبيعيّة..." كما طلبت الحملةُ الفلسطينيّة من الفنّانين العرب الزائرين "تبنّي مبادئ نداء المقاطعة ورفضِ التطبيع، تفاديًا لإعطاء أيّ انطباع زائف" بأنّ زيارتَهم "تندرج تحت برامج التطبيع، ممّا قد تستغلّه إسرائيلُ في محاولة إضعاف المقاطعة العالميّة..."

هذا، وقد تعامل العديدُ من الأفراد الفلسطينيين، ومن المؤسّسات والمجموعات الفلسطينيّة المختلفة، مع بعض هذه المعايير، فجرتْ دعوةُ الأشقّاء العرب إلى فلسطين. وساد الفرحُ الفلسطينيّ بهذا التواصل، وبانَ التعطّشُ عارمًا إلى استكمال العلاقة مع الوطن العربيّ بعد عقودٍ طويلةٍ من الانقطاع.  

لكنْ، مع مرور الوقت، تراجع العديدُ من هؤلاء الأفراد والمؤسّسات عن تلك الدعوة. وطُرحتْ تساؤلاتٌ جدّيّةٌ عن نجاعة دعوة العرب، وإلامَ تمهِّد، وما هي مخاطرُها، وهل هناك فرقٌ بين "التأشيرة" الإسرائيليّة و"التصريح" الإسرائيليّ، وهل ثمّة ضرورةٌ ملحّةٌ لحضور الفنّان أو الأديب إلى فلسطين المحتلّة كي تُسمع أغانيه أو يُقرأ شعرُه؟

 

طلبت "الحملةُ الفلسطينيّة للمقاطعة" من الزائرين الفلسطين تبنّي مبادئ المقاطعة ورفضِ التطبيع

 

هذه التساؤلات أثارت، بدورها، العديدَ من النقاشات الفلسطينيّة الداخليّة، ومن الخلافات مع العديد من الجهات الرسميّة والفنيّة والثقافيّة والرياضيّة العاملة داخل الوطن المحتلّ. وذَكّر المشكِّكون في جدوى الزيارات العربيّة بأنّ الفلسطينيّ، في مرحلة السبعينيّات والثمانينيّات، كان يُنشد أغاني فرقة العاشقين ومارسيل خليفة وأحمد قعبور والشيخ إمام، ويردِّد قصائدَ أحمد فؤاد نجم ومظفّر النوّاب ومحمود درويش، ويشتعل إصرارًا على تحدّي المحتلّ الصهيوني، من دون أن يَحْضر أيٌّ من أولئك الفنّانين أو الشعراء جسديًّا إلى فلسطين. فماذا اختلف الآن؟ هل باتت الحدودُ والمعابرُ تحت سيطرة الفلسطينيّين؟ هل انتهى الاحتلال؟ أمْ أنّ هذه الزيارات مَهّدتْ، ثمّ عزّزتْ، التطبيعَ مع دولة الصهاينة، وسَهّلت التواصلَ العلنيَّ بين الاحتلال وبعض الدول العربيّة (الإمارات، السعوديّة، عُمان، قطر، المغرب،...)، حيث يُنشَد نشيدُ الاحتلال الصهيونيّ (هَتِكْڤاه) في المنابر والمسابقات والمؤتمرات، مع أنّ فلسطين ما زالت محتلّة، والشهداءَ ما زالوا يرتقون إلى السماء، والأسرى ما زالوا يعانون الأسْرَ والتعذيب، والبيوتَ ما تزال تُهدم، والمستوطنات في تزايد!

ومع ذلك، فإنّ الأوان لم يفت بعدُ، ومن الضروريّ جدًّا اتخاذُ الخطوات الآتية:

أولًا، أن نعيدَ، نحن الفلسطينيين، النظرَ في موضوع دعوة العرب إلى فلسطين المحتلّة تحت شعار "كسر العُزلة،" وبالأخصّ أولئك الذين يلتزمون برفض التطبيع وبقوانين حكوماتهم التي تمنعهم من زيارة فلسطين (لبنان وسوريا مثلًا).

ثانيًا، أن نبحث، فلسطينيين وعربًا، عن بدائلَ خارج فلسطين لإجراء هذه اللقاءات والبرامج، ولعرض الأفلام أو إقامة العروض الموسيقية. وإنّ وسائل التواصل الاجتماعي تقدّم لنا الكثيرَ في هذا الصدد. فلنستفدْ منها!

ثالثًا، بعد تعديل معايير حملة المقاطعة الفلسطينيّة لجهة إلغاء التمييز المصطنع بين "التأشيرة" و"التصريح" الإسرائيلييْن، تنبغي إدانةُ كلّ فنّان أو رياضيّ أو مثقّف عربيّ يدخل فلسطينَ المحتلّة عبر تصريحٍ أو تأشيرة (فيزا)، على الأقلّ في هذه المرحلة، لأنّ مثلَ هذا الدخول يعزّز تشريعَ الاحتلال والتطبيعَ معه، بدلًا من تعزيز تحرير فلسطين والفلسطينيين.

فليكن درسُ الفنّان التونسيّ صابر الرباعي ماثلًا أمامنا. لقد استغلّ الاحتلالُ حضورَه إلى فلسطين إعلاميًّا، فنشر المنسِّقُ الخاصُّ بأعمال حكومة الاحتلال الإسرائيليّ صورةً معه على التويتر، ظهر فيها الرباعي إلى جانب ضابطٍ يرتدي الزيَّ العسكريَّ الإسرائيليَّ الرسميّ. ولم تنفع أقوالُ الرباعي أنّه لم يتمكّنْ من التمييز بين زيّ الشرطة الفلسطينيّة وزيِّ عناصر الاحتلال، خصوصًا أنّ الضابط المذكور كان يتحدّث العربيّة!

 

رفض الاحتلال إعطاءَ تصاريحِ لبعض أعضاء فرقة لطفي بوشناق

 

وكأنّ حادثةَ الرباعي لم تكفِ لثني الفنّانين العرب عن زيارة الضفّة الغربيّة المحتلّة (نعم، هي محتلّة، لكنْ بـ"إدارة فلسطينيّة" تنسّق أمنيًّا مع الاحتلال!). فجاءت مؤخّرًا حادثةُ رفض الاحتلال الإسرائيليّ إعطاءَ تصاريحِ دخولٍ لبعض أعضاء فرقة فنّان تونسيّ آخر، هو لطفي بوشناق. فهذه الحادثة تثْبت، لمَن يواصل الإنكارَ، أنّ "التصريح" لا تعطيه السلطةُ الفلسطينيّة بل الاحتلالُ الإسرائيليّ، وبشكلٍ مباشر. ومَن لا يرضَ عنه الاحتلال لا يطأْ أرضَ فلسطين، باستثناء قطاع غزّة طبعًا.

***

العديد سيتساءل: لكنْ، ما هو البديل؟

فالفلسطينيّ ممنوعٌ من دخول العديد من الدول العربيّة، بل ممنوعٌ من التنقّل داخل فلسطين نفسها. وغزّة محاصرة منذ 12 عامًا. واللاجئون ممنوعون من حقّ العودة إلى بيوتهم في فلسطين. وها أنتم، يا دعاةَ المقاطعة، تطالبون بمنع دخول العرب إلى فلسطين المحتلّة؟!

غير أن السؤال الأهمّ الذي ينبغي أن نطرحَه هو الآتي: أليس هناك بديلٌ من التطبيع إلّا العزلة عن العرب؟ الجواب أنّ في مقدورنا اليوم، بفضل الثورة التكنولوجيّة، التواصلُ مع الأشقّاء العرب عبر وسيلة "الفيديو كونفرس" أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعيّ،  أو من خلال اللقاءات المباشرة في دولٍ أخرى (عربيّة أو أجنبيّة). بل سأذهب أبعدَ من ذلك لأقول: إذا كان الثمنُ الأوحد للتواصل المباشر (الجسديّ) مع الفنّانين والموسيقيّين والسينمائيين والشعراء والمثقّفين والرياضيين العرب هو التطبيعَ مع الاحتلال، فإننا نستطيع الاستغناءَ عن ذلك النوع من التواصل برمّته. هكذا نحافظ على كرامتنا وكرامتهم، وعلى قوانين بلادهم إذا كانت ضدّ التطبيع، وعلى احترام حملات المقاطعة العربيّة لهم ولنا!  

في الآونة الأخيرة اتّضح لنا أنّ مَن يشجّع على كسر معايير المقاطعة الثابتة والقويّة لدى بعض الأشقّاء العرب هو نحن الفلسطينيون، وذلك حين نُصرّ على دعوة العرب إلى فلسطين. فإذا كانت مواقفُنا رافضةً، بشكل حازمٍ وجدّيّ، لأيّ شكلٍ من أشكال التطبيع الرسميّ أو الشعبيّ مع العدوّ، فستفرض مواقفُنا ذاتَها، عالميًّا ومحلّيًّا، من تلقاء نفسها، وستستطيع التصدّي لأيّ مشروعٍ تصفويّ أو انتهازيّ؛ فنحن مَن يفتح الأبوابَ أو يُغلقها.

نعم، نحن اليوم ضعفاءُ سياسيًّا، لكنّ ذلك ينبغي ألّا يجبرَنا على الانكفاء. علينا أنْ نخوضَ أيّامَنا الصعبةَ القادمةَ برؤية استراتيجيّة نضاليّة ثابتة، نعمل من خلالها على استخدام مختلف أسلحتنا، ومن ضمنها الحَراكُ الشعبيُّ المتعدّدُ الوجوه، وسلاحُ الإعلام، مُستفيدين من تجارب الشعوب الأخرى، عاملين بشكلٍ جدّيّ على تطبيق المقاطعة الكاملة والشاملة، من أجل عزل "إسرائيل،" على طريق تحرير كلّ فلسطين.

 

القدس المحتلّة

رافعة السقوف

اسم مستعار لمناضلة ومثقفة فلسطينيّة.