ما لا يكشفه النقدُ تعرِّيه السخرية. وما يقصر عنه الجِدُّ يتمِّمُه التهكُّم. وما لا ترجو خيرَه، ارفعِ الحجبَ عن عورته. مثلًا، لو قلتُ لنفسي الآن: تسلّحْ بنظريّة علميّة، ثمّ افتح النار على الجامعة اللبنانيّة، ولا تُبقِ على المخبوء ستارًا، فماذا سيحدث؟ لا شيء حقًّا!

أنا لا أعرف ما يعنيه "النقدُ الحقيقيّ" بعد أن شهدتُ ترك الطلّاب مهمَلين لسنوات في معهد العلوم الاجتماعيّة. لذلك أدعوكم إلى أن تقرأوا هذه المذكّرات التي يسلّيني أنّها تافهة، وربّما مُضحكة، ولا تسبِّب إلّا وخزةً في الخاصرة... إنْ لم يكن في الضمير.

***

هناك عبارةٌ ما فتئ أساتذةُ المعهد يردِّدونها في السنة الدراسيّة الأولى: "علمُ الاجتماع هو الفيزياء الاجتماعيّة." وهم ينسبونها إلى الوضعيّ أوغست كونت. لكنّ هذه العبارة أخذتْ في التضخّم شيئًا فشيئًا إلى أنْ استفقْنا يومًا على تحوّلها إلى سؤال كارثيّ: "علمُ الاجتماع فيزياء ميكانيكيّة تقليديّة، أمْ فلكيّة؟"

هنا انقسم أساتذةُ المعهد إلى تيّارين:

- الأول يعتقد أنّ علم الاجتماع يهتمّ بالحركات الاجتماعيّة، والدوافع والقوى، والسيولة الاجتماعيّة؛ أيْ هو باختصار أقرب ما يكون إلى "علم الفيزياء الميكانيكيّة."

- والثاني يرى أنّ علمَ الاجتماع يهتمّ بالكليّات، والبنى الواعيةِ وغيرِ الواعية، والصداماتِ الحضاريّة التي تشبه صداماتِ الأجرام السماويّة. وبالتالي، فإنّ الفيزياء الاجتماعيّة، في رأي هذا التيّار، ليست إلّا فيزياء الفلك. وقد ادّعى أحدُ الأساتذة أنّ الجنّة والنار واقعتان خلف الثقوب السوداء، في حين ادّعى آخر أنّ الذاكرة الكونيّة تحفظ صوتَ النبيّ محمّد، وأنّ العلماء لا يريدون أنْ يكشفوا عن هذا السرّ.

التيّاران أخذا بالجفاف والانكماش. فشقّ تيّارٌ ثالث الطريقَ إلى قلب "الحقيقة الاجتماعيّة،" متّخذًا من علم البيئة نموذجًا معرفيًّا له. على رأس هذا التيّار دكتوران: الأوّل من خلال شرحه الفلسفة الفوكويّة ببلاغة موجزة: "فوكو هو تلميذ نيتشه. كان كالضفدعة ينظر من الأسفل. افهموا فوكو على أنّه ضفدعة ينظر من الأسفل." أمّا الثاني فيعتبر النباتات رموزًا وَحيانيّةً قادرةً على أنْ تبزّ الكتب السماويّة، وقد بلغ جهدُه مكانةً تؤهِّله لأنْ يكون مصدرًا لصورٍ تُظهر الفاكهةَ والخضروات والبقول التي تحمل رموزًا إلهيّة!

وهناك مبادرات أخرى كان لها دور بارز في "إثراء" العلوم الاجتماعيّة في المعهد. فهناك مَن اقترح الرجوعَ إلى القرآن لحلّ مجمل المعضلات المجتمعيّة، وأن نزرع أقدامَنا في المعارف الإلهيّة (الثابتة) بدلًا من أنْ نزرعها في المعارف الإنسانيّة (المهزوزة). وعلى المنوال نفسه، انقدح شرر "معرفيّ" جديد ليَكشف عن أواصر خفيّة بين التفكيكيّة والجيولوجيا، وذلك باجتهاد أستاذٍ فسّر جهدَ دريدا بأنّه "السعي إلى كشف الحدود بين الطبقات، إذ حمل دريدا المصباحَ ليكشف أنّ الكرة مؤلّفة من طبقات تكتونيّة."

ما لا يكشفه النقد تعرّيه السخرية، وما يقصر عنه الجِدّ يتمّمُه التهكّم

***

ليس الأساتذة وحدهم مُبتكرين في هذا المجال. تظنّون أنني، بذلك، أريد إيجاد مَخرجٍ لهم من التفاهة؟ كلّا. بعضُهم يسرعون في الانحدار وهم على فوّهة القاع. ولا مبرِّرَ كي لا يقرأ بروفيسور كتابًا لقرابة ستّ سنوات (كما اعترف أخيرًا!). كلُّ ما أريده هو أنْ أزيدَكم فأقول إنّ إدارة المعهد وطلّابَه شركاءُ في النفخ في نار التفاهة. فالإدارة، من خلال فريقها غير الخبير بمسالكها، يعزّز لاثقةَ الطلّاب بالمؤسّسة ككلّ، وذلك من اليوم الأول للتسجيل، الذي لا زال يدويًّا وبطيئًا بعد 60 عامًا من التأسيس! خلال نصف هذه المدّة، كان على رأس التسجيل أناس قليلو الكفاءة، وآخرون "دُحشوا" في المَلاك لأسباب زبائنيّة. وهذه الزبائنية في التوظيف لطالما أدّت إلى زبائنية في الإدارة.

***

كنت طالبًا لسنوات. عرفتُ الكثير من الزملاء، وسأكون آخرَ مَن يفكّرون في إدانتهم. فالطالب في الجامعة مغلوب على أمره، وما تصرُّفه كمستذئب أحيانًا إلّا تورية لعجزه. لكنّ سكوتَهم على ما ذكرناه كان، وما زال، يصيبني بالخيبة. لماذا يسكتون عن هذه الإهانة المتمثّلة في معاملتنا كأسرى حرب أو مهرِّبين؟ ولماذا يضطرُّ الطالب إلى تهريب "رشتّة" لو لم يكن الامتحانُ حفظًا، "بصمًا،" عن ظهر قلب؟ وكيف قبلنا أنْ يقول لنا أستاذ: "اكتبوا ما ورد في الكتاب بالحرْف"؟

أفهم أنّ إجازةَ المعهد ليست إلّا تأشيرةً للتعليم المدرسيّ، أو لتحصيل علاوات وظيفيّة. وأفهم أنّ معظم طلّاب المعهد تجاوزوا سنَّ الدراسة المتعارف عليه، ولا تهمّهم إلّا تمضيةُ الوقت بشيء "مفيد،" أو تنميةُ مهاراتهم التربويّة لخدمة أسرهم. لكنْ ما لا أفهمه هو قبولُهم بهذه البوليسيّة، والعدميّة الموحشة.

قال لي أستاذٌ مجدٌّ في المعهد: "دخلتُ إلى الحمّام لأقضي حاجتي، فسمعتُ صوتَ ماكينة. خرجتُ إلى الصفّ المجاور، فوجدتُ إحدى الطالبات تحمل ماكينةَ وشْمٍ (tattoo)، وتهمّ بغرزها في ذراعٍ أخرى." هذا الأستاذ عينُه تمنّى، سابقًا، من طلّاب طَرِبين أنْ يخفضوا صوتَ الأغاني، وأنْ يرقصوا فوق الطاولات من دون جلبة، في أيّام الدراسة المعتادة!

***

وأخيرًا، لماذا يُشْبه علمُ الاجتماع في المعهد كلَّ شيء إلّا نفسَه؟ ولماذا تُشْبه المؤسّسة الجامعيّة كلَّ المؤسّسات الأخرى إلّا نفسَها؟

هناك حفلة تنكّريّة طويلة لكلّ شيء في المعهد. شيء ما يجري، يشبه الإخصاء الجماعيّ لكلّ ما يلد أو  ما سيَلد يومًا ما.

بيروت