في نقد حركة فتح
23-07-2020

 

إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضيّة، فالأجدر بنا أن نغيِّر المدافعين، لا أن نغيّر القضيّة (غسّان كنفاني)

قال عضوُ اللجنة المركزيّة لحركة فتح، ومسؤولُ الحركة في قطاع غزّة، أبو ماهر حلس، في لقاءٍ جمَعه بالمكتب الحركيّ الطبّيّ في الأقاليم الجنوبيّة، إنّ المرحلةَ القادمة هي "مرحلةُ استعادة الحقوق." وأضاف: "كلُّ مَن ظُلم ومَن حُرم مِن حقٍّ، له علينا حقُّ أن نقاتلَ ونناضلَ من أجله، سواءٌ مَن حُرم مِن راتبه، أو مَن تمّ السطوُ على جزءٍ مِن راتبه، أو أُحيلَ إلى التقاعد عنوةً وقسرًا وهو في ذروة عطائه، أو مَن فُصل بتقاريرَ ظالمةٍ لا علاقةَ لها بالواقع." وفي مشهدٍ أقلُّ ما يمكن وصفُه بأنّه سورياليٌّ بامتياز، أكملَ حلس: "نحن لا نخجل أن نقولَ إنّ غزّة ظُلمتْ ودفعت الثمنَ مرّتيْن: مرّةً من الخصوم، وأخرى من الأهل." ولتهدئة خواطر الأطبّاء التابعين للحركة، استطرد حلس قائلًا: "وصلْنا إلى مرضٍ لا يُجْدي به حتى إبَرُ البنج، إنّما يُجدي به العلاجُ فقط."

هكذا تشكو حركةُ فتح الظلمَ الذي تمارسه، هي نفسُها، في حقّ سكّان قطاع غزّة، بمن فيهم أبناءُ الحركة نفسها!

تناقض؟

ليس تمامًا.

***

لفهمِ المشكلة، تجب العودةُ إلى الوراء قليلًا.

بدأ ذلك حين قرّرت السلطةُ الوطنيّةُ الفلسطينيّة، التابعةُ لحركة فتح، وفي إطار خصومتها الشديدة مع حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزّة بالكامل منذ العام 2007، اتّخاذَ "إجراءاتٍ عقابيّةٍ" في حقّ القطاع بدءًا من مارس 2017.

- فحينها، قامت السلطةُ في رام الله، وبتوجيهاتٍ مباشرةٍ من رئيسها ورئيسِ الحركة، محمود عبّاس، بالتوقّف عن دفع مستحقّاتِ غزّة لشركة الكهرباء الإسرائيليّة، فتوقّفتْ هذه الأخيرةُ عن مدّ غزّة بالكهرباء.

- كما عمدت السلطةُ إلى تقليل كمّيّة الأدوية الضروريّة للمرضى في القطاع.

- ولجأتْ إلى تخفيض رواتبِ موظّفيها هناك بنسبة 50% أو 75%، بل إلى عدم دفعها نهائيًّا أحيانًا كما حصل في مارس 2018.

- وأحالت الموظّفين الذين تجاوزتْ خدمتُهم 15 عامًا على "التقاعد الماليّ،" وهي خطوةٌ تخالف القانونَ الأساسيّ الفلسطينيّ وقوانينَ العمل المعمولَ بها.

هذا، وضربت السلطةُ كلَّ الاحتجاجات المحدودة بعرض الحائط، وذلك لكون حركة فتح تسيطرُ على جميع النقابات التابعة لهذه السلطة. ولم يكن لأصوات الفصائل الفلسطينيّة الأخرى المنضوية تحت مظلّة منظّمة التحرير أيُّ تأثير، بل جرى التلاعبُ بها كقِطَع شطرنج. فمرّةً، قبل عاميْن، خلال اجتماع دورة المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ الأخيرة في رام الله، تحت حراب الاحتلال (الذي أصدر تصاريحَ لمن أراد له الحضورَ ومَنع آخرين)، أعلن رئيسُ الحركة والسلطة أنّ "الرواتب ستُدفع غدًا... وما فيش حدا بيعاقب أبناء شعبه!" غير أنّ الخطّة لم تنفَّذْ. وتكرّرت الوعودُ ذاتُها في دورتَي المجلس المركزيّ الأخيرتيْن، ولم تجْرِ المساواةُ في الرواتب أو تُرفعْ باقي الإجراءات العقابيّة حتى كتابة هذه السطور. وفي مؤتمر صحفيّ لرئيس الوزراء محمد شتيّة، وهو عضو في اللجنة المركزيّة لحركة فتح، أعلن قبل ثلاثة أشهر إلغاءَ "التقاعد المالي تنفيذًا لتوجيهات السيّد الرئيس،" ومرّت ثلاثُ شهور من دون إلغاء القرار الجائر - -  علمًا أنّ إلغاءَه لا يعني عودةَ الراتب كاملًا، بل 75% منه أسوةً بباقي الموظّفين!

 

خفّضت السلطة رواتبَ موظّفيها في قطاع غزّة بنسبة 50% أو 75%، بل لم تدفعها أحيانًا

 

جديرٌ بالذكر في هذا السياق أنّه عندما دُفعت رواتبُ الموظفين عن شهر مارس 2017 وطُبقت الحسومات من دون الإعلان عن ذلك مسبّقًا، وُجِّه الغضبُ الفتحاويّ في غزّة إلى رئيس الوزراء في ذلك الوقت، رامي الحمدلله، وهو شخصيّةٌ هُلاميّةٌ بلا أيّ وزنٍ سياسيّ وينتمي إلى بقايا إقطاع ما قبل 48، وكأنّه هو صاحبُ القرار.

وحين ندّدتْ السيّدة آمال حمد (في مؤتمر صحفيّ مشترك مع عضو اللجنة المركزيّة سابقًا زكريّا الأغا) بالحسومات، توقّعنا أن تقدِّمَ استقالتَها من اللجنة التنفيذيّة لحركة فتح احتجاجًا. لكنّنا رأيناها تتبوّأ منصبًا وزاريًّا (وزيرة شؤون المرأة) وتُلاحقها تهمُ الفسادِ ومحاباةِ الأقارب لكونهم، كما قالت في لقاء إذاعيّ، "من عظام الرقبة." الغريب أنّ ذلك لم يقتصر على حمد؛ ذلك أنّ كلّ وزراء الحكومة الفلسطينيّة الفتحاويّة من غزّة لم يُبدوا أيَّ تعاطفٍ عمليٍّ مع أهل القطاع، إذ لم يستقلْ أيٌّ منهم احتجاجًا على العقاب الجماعيّ الذي تمارسه سلطةُ فتح ضدّ مليونيْ غزّاوي؛ بل إنّ بعضهم دافع عنها باستماتة. ومن المعروف أن الحسومات المفروضة على موظّفي غزّة لا تطبَّق على رواتب الوزراء الغزّيّين، بمن فيهم السيّدة حمد. وتعيش الحركة الآن حالةً من الإنكار المَرَضي لكلِّ ما يتعلّق بهذه العقوبات!

***

قد تكون هذه التفاصيلُ لغير المتابِع غريبةً أو غيرَ مقبولةٍ، لكونها صادرةً عن "حركة تحرير وطنيّ." لكنّ هذه "الغرابة" لا تأخذ في الاعتبار حالةَ التدهور الوطنيّ المتسارع لحركة فتح بشكلٍ خاصّ، ولليمين الفلسطينيّ بشكل عامّ.

فحركة فتح، التي انطلقتْ سنة 1965 لتحرير كامل التراب الفلسطينيّ (من النهر إلى البحر) وإقامةِ دولةٍ ديمقراطيّةٍ وعودةِ اللاجئين الفلسطينيين، انتهت بالقبول بكانتونٍ على جزءٍ صغيرٍ من الوطن، وإلى التنازل "التكتيكيّ" عن حقّ العودة. وبلغ الأمرُ برئيس السلطة نفسه إلى التصريح لقناةٍ تلفزيونيّةٍ إسرائيليّة بأنّه متنازلٌ عن بلدته الأصليّة (صفد)، إلّا أنّه "يريد أن يراها" فقط! ولقد قاد تنازلُ الحركة هذا إلى اعتراف منظّمة التحرير (بسبب هيمنة حركة فتح شبه المطْلقة عليها) بـ"إسرائيل،" ومن ثمّ إلى التعايش مع السرديّة الصهيونيّة من خلال تقزيم القضيّة الفلسطينيّة إلى "إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّةٍ على حدود 67، وعاصمتُها القدس الشرقيّة!"

من أجل تحقيق ذلك، قامت حركةُ فتح - - من خلال المال الذي تفوح منه رائحةُ النفط، ومن خلال العلاقات المتميّزة مع الأنظمة المطبِّعة، والدعمِ الأمريكيّ والأوروبيّ الكبير - - ببيْع الوهم إلى قسمٍ كبيرٍ من أبناء الشعب الفلسطينيّ، وبالذات في الضفّة الغربيّة المحتلّة وقطاعِ غزّة، الذين يشكّلون "الشعبَ الفلسطينيّ" كما تراه تلك الحركةُ على ما يبدو. ومن ثمّ خرج اللاجئون في الشتات، وفلسطينيّو 48، من حلبة الصراع مع منظومة الاستعمار الاستيطانيّ. وجرت رشوةُ الفدائيّين القدامى، وتحويلُ قسمٍ كبيرٍ منهم إلى رجال أمنٍ يعملون على "حفظ الأمن و الهدوء" - - أيْ حفظ أمن الاحتلال ومستوطنيه من خلال "التنسيق الأمنيّ" مع الاحتلال، واتبّاع عقيدة أمنيّة وضع مفاصلَها الرئيسةَ الجنرالُ الأمريكيُّ كيث دايتون.

بكلامٍ آخر:  سلّمتْ حركةُ فتح قرارَها، الذي طالما تغنّت بـ"استقلاليّته،" إلى الإمبرياليّة الأمريكيّة والاحتلالِ الإسرائيليّ، لكنّها غلّفتْ كلَّ ذلك بشعاراتٍ وطنيّةٍ فارغةِ المضمون.

وليس من قبيل المصادفة أن تأتي هذه الإجراءاتُ العقابيّةُ ضدّ القطاع الصامد متزامنةً مع البدء في تنفيذ وثيقة ترامب المعروفة باسم "صفقة القرن." ومع أنّ هذه الصفقة تهدفُ إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة، ما يستوجب جبهةً وطنيّةً تجمع كلَّ ألوان الطيْف الفلسطينيّ، فإنّ حركةَ فتح نسفتْ أيَّ محاولةٍ في هذا الاتجاه. بل إنّ السلطة (وعمودها الفقريّ حركة فتح) غيرُ معنيّة بالقطاع، ولا بإيجاد حكمٍ يقوم على الشراكة الوطنيّة الشاملة في إطار حركة تحرّر وطنيّ تسعى إلى تحقيق الحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطينيّي (فتح المعابر، زيادة كمّيّة الكهرباء في القطاع، السماح بعلاج مرضى السرطان في مستشفيات خارج القطاع،...). فسكّانُ القطاع، بالنسبة إلى الحركة، هم رهائنُ في "طائرةٍ مخطوفة،"على حدّ قول عضو اللجنة المركزيّة للحركة عزّام الأحمد. وهذا يعني أنه قد يُضحَّى بالخاطفين والمخطوفين في سبيل "المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ،" كما تراه قيادةُ فتح طبعًا.

 

سلّمتْ  فتح قرارَها إلى الإمبرياليّة الأمريكيّة والاحتلال الإسرائيليّ، لكنّها غلّفتْ كلَّ ذلك بشعاراتٍ وطنيّةٍ فارغةِ المضمون

 

إن ردّ فعل الحركة على اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل، وعلى قراره تخفيضَ المساعدات الأمريكيّة المقدّمة إلى وكالة الغوث (الأونروا)، وعلى قرار "إسرائيل" ضمَّ معظم أراضي الضفّة الغربيّة، ليس بباهتٍ فقط، بل يشوبه الكثيرُ من علامات الاستفهام أيضًا.

والحقّ أنّ صفقة القرن ما هي إلّا امتدادٌ لاتفاقيّات أوسلو التي كانت الحركةُ خلفَها قلبًا وقالبًا،  بما في ذلك اعترافُها بإسرائيل و"بحقّها في الوجود ضمن حدودٍ آمنة." وقبولُ الحركة "تأجيلَ" قضيّة القدس والمستوطنات واللاجئين إلى مفاوضات "الحلّ النهائيّ" مهّدَ الطريقَ لتصفية كلّ هذه القضايا، مثلما فعلتْ صفقةُ ترامب.

فماذا كان ردُّ فعل حركة فتح، وأداتِها في الحكم، أي حكومة السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، على "الصفقة" و"خطّة الضمّ" الإسرائيلية؟

لقد توقّع البعض أن تلغي الحركةُ والسلطةُ الإجراءاتِ العقابيّةَ المذكورةَ أعلاه، وأن تعملا فورًا على التخفيف عن سكّان القطاع الذي تعرّض لثلاث حروبٍ طاحنة. غير أنّ القيادة الفلسطينيّة، مع رفضها قراراتِ ترامب ومطالبتِها الشعبَ الفلسطينيّ بـ"الصمود في وجه الصفقة،" ضاعفت العقوباتِ المفروضةَ على غزّة، بحيث باتت لا تستهدف حركة حماس وحدها، بل كلَّ مكوّنات السكّان في القطاع أيضًا.

***

أمّا حركة حماس، فإذ اكتشفتْ عدمَ وجود نيّةٍ صادقةٍ لدى اللجنة المركزيّة لحركة فتح، وبعد أن سلّمتْ أوراقَها إلى الحكومة المصريّة التي لا يهمُّها إلّا الملفُّ الأمنيّ، راحت تؤدّي دورَ "النوّاحة"!

فبعد نشوتها بالفوز في انتخابات 2006، وحسمِها  الموقّت لـ"المعركة" مع قوّات فتح سنة 2007، وتشكيلِها "حكومةً ربّانيّةً" إقصائيّة، تجد هذه الحركةُ نفسَها الآن عاجزةً عن اتخاذ خطواتٍ عمليّةٍ لتحسين أوضاع مَن تحكّمتْ في أدقّ تفاصيل حياتهم ثلاثةَ عشرَ عامًا كاملةً.

بل إنّ حركة حماس قرّرت القبولَ بـ"حلّ الدولتيْن،" أي الاعتراف بـ"إسرائيل" بطريقةٍ غير مباشرة!

***

هكذا أصبح قطاعُ غزّة معملًا تجريبيًّا لهُواة السياسة في حركة فتح، بعد أن كان بوتقةَ الوطنيّة الفلسطينيّة المعاصرة. لذا، يجلس الإسرائيليُّ متفرِّجًا، وينفضُ يديْه من المسؤوليّة عن الحصار القاتل. بل يطالب منسّقُ عمليّات الحكومة الإسرائيليّة، الجنرال كميل أبو ركن، السلطةَ الفلسطينيّةَ برفع عقوباتها عن القطاع، غير أنّ السلطة (كما يزعم) "رفضتْ ووضعت العصا في الدواليب بهدف تعقيد الوضع داخل القطاع!" ويقوم أعضاءُ اللجنة المركزيّة لحركة فتح بالقاء اللوم على كلّ مَن "يتجرّأ" ويدّعي أنّ هناك إجراءاتٍ عقابيّةً تمارسُها الحركةُ ضدّ القطاع. ووصل الأمرُ بعزّام الأحمد إلى تمنّي قطع  الهواء عن غزّة لو تمكّن، واخترع مصطلحَ "تصويب الوضع،" أيْ: عودة الأجهزة الأمنيّة الفتحاويّة لقمع المقاومة، ولفرضِ "التنسيق الأمنيّ" مع الاحتلال، خدمةً لمصالح الطبقة الكومبرادوريّة والبرجوازيّة الرثّة، التي تحكّمتْ بمفاصل اتّخاذ القرار في الحركة.

أمّا الفصائل الفلسطينيّة الأخرى فقد اكتفتْ بلعب دوْر الكومبارس:

- فتارةً تُستدعَى إلى القاهرة للتوقيع على بياناتٍ لا معنى له.

- وتارةً أخرى تشارك في اجتماعات المجلس المركزيّ تحت حِراب الاحتلال، وتفشل في إقناع حركة فتح برفع العقوبات.

باختصار: لا أمل في تغيير الوضع في ظلّ سيطرة الحقد المناطقيّ في التعامل مع مليونيْ مواطن عانوا الويلات؛ وفي ظلّ وجود قوًى سياسيّةٍ "معارضةٍ" تعيش على قدرة قياداتها على فنّ "التحليل السياسيّ" فقط على الفضائيّات، مع غيابٍ كاملٍ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، التي يُفترَض أن تكون "الممثِّلَ الشرعيَّ والوحيدَ للشعب الفلسطينيّ."

***

على أنّ لانحدار حركة فتح أسسًا طبقيّةً واضحةَ المعالم. وما برنامجُها، الذي يفتقر إلى البعد الاجتماعيّ، إلّا تعبيرٌ عن مصالحِ برجوازيّةٍ متوسّطةٍ، وبرجوازيّةٍ رثّةٍ، لا تتوانى في التضحية بكلّ المكتسبات الوطنيّة في سبيل مصلحتها الطبقيّة.

ويتلخّص هذا الانحدارُ الفتحاويُّ السياسيّ في عنوان كتاب عضو اللجنة المركزيّة صائب عريقات، الحياة مفاوضات. ويتلخّص قبل ذلك في التوقيع على "بروتوكولات باريس،" الشقِّ الاقتصاديِّ لاتفاقيّات أوسلو - - وهي بروتوكولاتٌ سلّمت القرارَ الاقتصاديَّ بالكامل إلى دولة الاحتلال، وعبّرتْ عن مصالحَ طبقيّةٍ بحتة لمن وقّع عليها؛ مصالح تجسّدتْ في حصولهم على امتيازاتٍ احتكاريّةٍ لشركاتٍ إسرائيليّةٍ وأجنبيّة، وفي جني أموال المقاصّة من "إسرائيل" مباشرةً.

***

أمّا المقارنة بين حركة فتح وحركات التحرّر الأخرى مثل حزب جبهة التحرير في الجزائر، أو الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ، أو حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ، أو حتى حزب المؤتمر الهنديّ ، فلا يمكن أخذُها على محمل الجِدّ.

فكلُّ الحركات المذكورة، على الرغم من إشكاليّاتٍ عدّة، استطاعت أخذَ شعوبها إلى الحرّيّة والاستقلال عن طريق المقاومة بأشكالها المتعدّدة، وتحت قياداتٍ كاريزميّةٍ تاريخيّة تتميّز بقدْرٍ عالٍ من الصدقيّة بين الجماهير. وفي المقابل، فإنّ حركةَ فتح تنظّر الآن لـ"مقاومة شعبيّة" مُفصّلةٍ على مزاجها، لكنْ من دون انخراط قيادتها بها! مثالُ ذلك رفضُها الانخراطَ في مسيرات العودة الكبرى، وإبداءُ "الحَرَد" منذ انطلاقة المسيرة، على الرغم من مشاركة كلّ القوى الوطنيّة بها؛ بل إنها أسهمتْ في تشويهها من خلال تبنّي الرواية الإسرائيليّة عنها ولوم الضحية.

وفي الضفّة الغربيّة نفسها، تنأى "فتح" بنفسها عن المشاركة في أيّ فعلٍ نضاليٍّ فعّال، مع محاولة ركوب الموجة عند نجاح أيّ نشاط، كما حدث في الاحتجاجات الشعبيّة على تركيب بوّابات الأقصى الإلكترونيّة. هذا ناهيك بدفاعها المستميت عن التطبيع، بل تشكيل "لجنة للتواصل مع المجتمع الإسرائيليّ" برئاسة عضو لجنة مركزيّة في حركة فتح (محمد المدني)، وبتكليفٍ مباشرٍ من رئيسها، في سابقةٍ لم تشهدْها أيُّ حركة تحرّرٍ وطنيّ على ما نعْلم.

ومع سياسة التشفّي الفتحاويّة الساديّة المتمثّلة في الإجراءات الممارسة ضدّ المواطن الغزّيّ؛ ومع غياب أيّ أفقٍ لحلٍ سياسيٍّ مرحليٍّ أو استراتيجيّ، وامتناع القيادة الحاليّة عن اتخاذ خطوات عمليّة واضحة لمواجهة "صفقة ترامب" الأمريكيّة و"خطّة الضمّ" الصهيونيّة؛ وبعد 72 عامًا من النكبة، و55 عامًا من انطلاقة الحركة، و53 عامًا من النكسة؛ لم يتبقَّ لسكّان القطاع إلّا تحقيقُ حلم بعض أعضاء اللجنة المركزية الذين يريدون "قطعَ الهواء عن القطاع."

وفي غياب معارضة فلسطينيّة حقيقيّة، بسبب تهميش حركة فتح لكلّ الأصوات المعارِضة الناقِدة، يبدو أنّ الكوابحَ الوطنيّة التي كانت تضع لتنازلات الحركة حدًّا في الماضي قد تعطّلتْ بالكامل، وأصبح الكومبرادورُ الفلسطينيّ هو صاحبَ القرار الفتحاويّ بامتياز!

إنّ حركة فتح هي الأداة التنظيميّة التي تعبّر عن مصالح الطبقة الكومبرادوريّة الحاكمة في الضفّة الغربيّة، وقد التقت مصالحها بمصالح الطبقة المهيمنة في "إسرائيل." فلا غرابة أن يتمّ البكاءُ على شمعون بيريز، صاحبِ فكرة "مشروع الشرق الأوسط الجديد،" وقبله على "شهيد السلام" إسحق رابين.

 أيُّ حركة تحرّر تلك التي تفرض عقابًا جماعيًّا على شعبها؟ وهل تَجُوز تسميتُها "حركة تحرّر"؟ الأهمّ: كيف كانت مآلاتُ القضيّة الفلسطينيّة لتكون لو لم تنجحْ حركةُ فتح في السيطرة على منظّمة التحرير الفلسطينيّة؟ وهل كان الشعبُ الفلسطينيّ ليدفع الثمنَ الباهظَ الذي ما زال يدفعه بعد 77 عامًا من التشرّد والضياع؟

يبدو أنّ الأوان قد آن لتنفيذ وصيّة الشهيد غسّان كنفاني وتغيير "المدافعين" عن القضيّة!

مراد يوسف

اسم مستعار لكاتبٍ من غزّة، مقيمٍ في مدينة البيرة الفلسطينيّة.اسم مستعار لكاتبٍ من غزّة، مقيمٍ في مدينة البيرة الفلسطينيّة.