لحنٌ في الرأس
31-07-2016

 

جلستْ على حافّة البيانو الأسود اللمّاع، وصارت قريبةً من أصابعه التي ينقر بها لحنَ الحبّ. في فستانها الأحمر اللاصق بجسدها، وضعتْ ساقًا على أختها، ومالت برأسها، فانسدل الشعرُ الحريريُّ على الفراغ، حتّى لامستْ خصلاتُه الرقيقة بعضًا من أنامله التي ما تزال تعبث. لم يرفعْ إليها عينيه؛ كان حالمًا، مغمضًا، مطرقًا، يهتزّ شعرُ رأسه كلّما نقر بقوّة.

ضغطتْ على زرّ أسود، ففزع. رفع رأسَه إليها. ابتسمتْ له. ابتسم لها. تضاحكت عيونهما. قال لها: "مثل ما فعل حبُّكِ في حياتي هذه النقرة." قالت له: "أنت الحياةُ كلُّها." تملّت فيه. تملّى فيها. كانت عيناها شبقتين، فاحشتين، عاريتين. وكان قلبه يحدّثه، يريد قبلة غائرة، وسريرًا للغواية تكون عليه بفستانها الأحمر، ووسادتين حمراء وبيضاء، ووردتين مماثلتين: الأولى يشمّ ريحها، والثانية ينثرها على جسدها، بين نهديها، وتحت سرّتها. قالت له إنّها تدعوه إلى ما قال. لم يفهم شيئًا من دعوتها، هو لم يتكلّم، فكيف علمتْ برغبته؟

استمرّ في العزف، واستمرّت في التثنّي. قامت من على البيانو، التفّت عليه، وقفتْ وراءه. هو يجلس على كرسي من دون سند ظهر. تحوّلت سندًا لظهره. صدرُها العامر الغامر أسند رجفة العازف، فتحوّل النغمُ نشازًا. كأنّ الريح العاصفة هبّت على الماء، فارتفع الموجُ وهدر، وتشكّل الزبد وانتثر. أمسكتْ بيديه، ولم تدعه يكمل لحن الحبّ والجنون. التفّ برأسه فالتقت شفاههما. قالت شفتاه: "بي شوقُ الماء إلى أرضك القاحلة،" وأطبقتا على شفتيها. قالت شفتاها: "سيبدأ فصلُ الشتاء قريبًا، وأنا سأتعرّى من كلّ شجر وحجر. سأصير وجهًا بلا ملامح، لا شيء يمنع عنه السماءَ غير السماء نفسها. فلتسقطْ ولتغرقْني؛ لقد أعددتُ لكَ من العدّة ما أواجه به غضبَ الماء، وسيولَه الجارفة."

قاما معًا.

ــــــــ نغادر؟

ــــــــ بكلّ تأكيد.

ــــــــ دعيني أحملْ عنكِ بعضَكِ.

ــــــــ بل دعني أنحشر فيك.

تراخى جسدها على ذراعه القويّة. استمرّت معزوفةُ الحبّ ترنّ في رأسه. صعدا السلّم. سارا في الممرّ الطويل الذي تتوزّع الغرفُ إلى يساره ويمينه. على بساط أحمر خشن، تمشّيا بثبات. فتحتْ بابَ الغرفة، فانسلّ الهواءُ رطبًا قبلهما. أزاحت الستار الورديّ. فتحت النافذة. جلس على حافة السرير، فتح ربطة عنقه، وتركها معلّقة في قميصه. استدارت إليه، ووقفتْ بإزائه.

ــــــــ تبدأ أمْ أبدأ؟

ــــــــ أحبّ أن تفعلي.

تابعها بعينيه. فتحتْ صوان الغرفة، واستخلصتْ منه عودًا ذهبيًّا، بأوتار مشدودة، وآذانٍ في شكل أقراصٍ فضّيّة. رفعتْ قدمها ووضعتها على حافة السرير قريبًا من حيث جلس. انحسر ثوبُها عن فخذها، فبان البياض. تملّى في التناسق المهيب. أغمض عينيه، وارتمى على ظهره.

***

عندما أفاق في الصباح، بحث عنها فلم يعثر لها على أثر.

عاد شبقٌ مالحٌ جافّ إلى حلقه. رمى بيده إلى الطاولة قرب السرير، وحمل كأس الماء. أفرغها دفعةً واحدةً في جوفه، ثمّ انتبه إلى العود الذهبيّ ذي الآذان الفضّيّة يرقد إلى جانبه، وهو منكفئ على أوتاره.

جلس. عاد اللحنُ إلى رأسه الثقيل.

أكادير

 

كريم بلاد

كريم بلاد: كاتب من المغرّب، وأستاذ التعليم الثانويّ، تخصّص اللغة العربيّة وآدابها. له روايتان: أوان الحب.. أوان الحرب (2014) وغواية السواد (2016).