*ما النكبة؟
06-06-2018

 

"شيءٌ واحدٌ لن يموتَ أبدًا: فلسطين" (من رثاء الحاج أمين الحسيني للشهيد عبد القادر الحسيني)

 

"لا يستطيع المؤرِّخُ كتابةَ تاريخ الحقبة التي يعيشها كأيّ مرحلةٍ أخرى،" يقول المؤرّخ البريطانيّ أريك هوبسباوم في تصديره لـ عصر التطرّف: القرن العشرون القصير 1914 ــــ 1994. (1) فأنت لا تستطيع الكتابةَ عن المرحلة التي تعيشها مثلما تكتب عن أيّة حقبةٍ أخرى تعرفها من الخارج فقط، أو استنادًا إلى مصادر من الدرجة الثانية أو الثالثة، أو بالعودة إلى أعمال مؤرّخين لاحقين. أن تعيش حقبةً ما يعني، بالضرورة، أنّكَ واعٍ بشؤونها العامّة، وأنّك تُراكم، عبر الزمن، آراءً وانحيازاتٍ خاصّةً بك كفردٍ يعيش تلك المرحلة، لا كباحثٍ يدرسها عن بعد.

ربّما لهذا السبب تردّد هوبسباوم في كتابة الجزء الرابع من سلسلته، التي بدأتْ بـ عصر الثورة الأوروبيّة ١٧٨٩ــــ ١٨٤٨ وانتهت بـ عصر التطرّف الذي عاشه واختبره عن قرب، على الرغم من أنّه، بحسب إدوارد سعيد:

"هادئ حين ينفعل الآخرون أو يَصْخبون؛ وساخرٌ وبعيدٌ عن التأثّر بالعواطف حين يغضب الآخرون أو يَخْبطون على غير هدًى؛ وملتزمٌ المراقبةَ والرهافةَ بلا هوادة حين يلجأ الآخرون إلى الكليشيهات أو المنظومات الكلّيانيّة. ولعلّ الشيءَ الأشدّ مدعاةً للاهتمام في إنجاز هوبسباوم في هذه الكتب الأربعة هو الاتّزانُ الذي يحافظ عليه طوال الوقت. فهو، لكونه بعيدًا عن الإفراط في البراءة والمعرفة والتشكيك، يعيد ثقةَ المرء بفكرة البحث العقلانيّ."(2)

تفسير إضافيّ لهذه الإشكاليّة يمكن أن نجده في فرضيّة كريستوفر هيل في كتابه العالم مقلوبًا رأسًا على عقب، الذي يتضمّن أيضًا تبريرًا منطقيًّا لإعادة النظر، الجذريّةِ في بعض الحالات، إلى الأحداث التاريخيّة التي كنّا نظنّ أحيانًا أنّنا نعرفها جيّدًا:

"تجب إعادةُ كتابة التاريخ في كلّ جيل؛ فمع أنّ التاريخ لا يتغيّر، فإنّ الحاضر يتغيّر. وكلُّ جيل يطرح أسئلةً جديدةً عن الماضي، ويجد مجالاتٍ جديدةً للتعاطف، لأنّه يعيد اختبارَ جوانبَ مختلفةً من تجارب أسلافه."(3)

ولسببٍ مشابهٍ أيضًا، يحدّد بنِديكت أندرسون، في كتابه الجماعات المتخيّلة، آليّةً مماثلةً لسرد التاريخ: "سيرةُ الأمم لا تمكن كتابتُها على نحوٍ إنجيليّ، ’نزولًا في الزمن،‘ عبر سلسلةٍ توالديّةٍ طويلة. البديل الوحيد هو صياغتُها ’صعودًا في الزمن‘ .(4)

بهذا المعنى، فإنّ الحاضر (أوسلو/سلطة أوسلو مثلًا)، لا الماضي (النكبة في هذه الحالة)، هو الأصل والمنشأ في السرد، لا العكس.

اسحاق رابين، شيمون بيريز، ياسر عرفات (من اليمين الى الشمال)
 

قد يكون القرنُ العشرون بالذات نموذجًا لإعادة كتابة التاريخ، وإعادةِ اختراع الأحداث، وذلك بفعل متغيّرات السياسة والإيديولوجيا والصراع. فما بين الحربيْن العالميّتيْن، وبعيْد الحرب الثانية، ظهر غاندي وماوتسي تونغ وهوشي منه وجمال عبد الناصر ومبشِّرو القوميّات العالمثالثيّة،(5) ومعهم ــــ وفي أعقابهم ــــ تفجّرت الثوراتُ المعاديةُ للاستعمار، وتشكّلتْ رواياتٌ جديدةٌ للتاريخ القوميّ والعالميّ.(6) هذه الروايات أعادت سردَ الماضي بطريقةٍ غيرِ مسبوقة، فظهر ماضٍ جديدٌ للعالم وللشعوب والأمم. ومع أولئك القادة والمبشّرين، وبعدهم أيضًا، أصبح من السهل، ومن قبيل التمرين الممتع أيضًا، نقدُ مؤرِّخي المرحلة الفكتوريّة، بل نقضُهم والتهكّمُ عليهم (على ما كتب ألفريد كروسبي في الإمبرياليّة الإيكولوجيّة).

الافتراض الذي يطرحه هوبسباوم في مقدّمته لـعصر التطرّف، ويعلِّق عليه إدوارد سعيد، يمكن اعتبارُه قضيةً منهجيّةً بامتياز، وسأستعيدُه هنا لتفسير بعض الإشكاليّات التي وقع فيها بعضُ مؤرّخي النكبة الذين عاصروها. لكنّ السؤالَ الأكبرَ والأهمّ، المتعلّقَ بتأريخ النكبة والكتابة عنها، أكثرُ تعقيدًا، لكونه سؤالًا فلسفيًّا أو متعلّقًا بفلسفة التاريخ. فهنا بالضبط يكمن الفارقُ بين رؤيتين:

ــ النكبة في وصفها "قدَرًا" واقعًا لا محالة، كما استنتجتْ أغلبُ الرؤى الحداثيّة العربيّة؛

ـــ والنكبة في وصفها مجرّدَ احتمالٍ واحدٍ بين احتمالاتٍ أخرى، أو مجرّدَ مسارٍ من مساراتٍ عديدة كان يمكن أن يسلكَها التاريخ.

في رأيي أنّ الرؤية الأولى مسؤولةٌ، إلى حدٍّ بعيد، عن إنتاج خرافة "إسرائيل" في العقل العربيّ، ومن ثمّ مسؤولةٌ إلى حدٍّ ما عن الانهيار الذي أصاب صيغةَ حركة التحرّر الفلسطينيّ لاحقًا. وهذا ما سيتّضح من مراجعة بعض أدبيّات الثورة الفلسطينيّة الأساسيّة، التي تكشّفتْ عن وعي تاريخيّ مشوَّه يستند إلى تسليمٍ غير نقديّ بثنائيّات "تقدّم/تخلّف" استعماريّةٍ متخيّلةٍ للعالم والتاريخ.

بمعنًى آخر، فإنّ الرؤية التي تعتبر أنّ التاريخ يَختزن مسارًا حتميًّا هي رؤية فلسفيّة متقادمة، وذاتُ خلفيّاتٍ مركزيّةٍ أوروبيّة، وستقود حتمًا إلى التشاؤم والهزيمة. وفي ظنّي أنّ في مقدور مكوِّنات الحاضر أو الماضي أن تؤسِّس لأكثر من حاضرٍ أو مستقبل، على الرغم من غياب مسارٍ حتميّ لتعاقب الماضي والحاضر والمستقبل. هذه هي الرؤية التي يمكن الاستنادُ إليها لتأسيس مسارٍ جديدٍ يصل بنا إلى نهاية الكيان الاستعماريّ الصهيونيّ في فلسطين.
 

في علم النكبة
ما النكبة؟
ماذا يعني هذا التساؤل اليوم؟
هل كان قسطنطين زريق، صاحبُ المفهوم، سيعيد كتابة كتابه الشهير، معنى النكبة، متبنّيًا الأفكارَ والصياغةَ والمقاييسَ ذاتَها لو كان حيًّا الآن؟
لماذا لم يشكّك المثقفون العرب عمومًا، والفلسطينيون على وجه الخصوص، في فهمنا للنكبة مع توقيع اتفاقيّة أوسلو؟
بمعنًى أدقّ، هل هناك علاقةٌ بين فهم العرب للنكبة، والوصول إلى أوسلو وما بعدها؟
أغلبُ ما كُتب في الردّ على السؤال الأول (ما النكبة؟) يَطرح أسئلةً واستفساراتٍ أكثرَ ممّا يقدّم أجابات. وفي اعتقادنا أنّ الإجابات نفسَها تستدعي إعادةَ النظر فيها جدّيًّا ولو بعد مرور 70 عامًا على هذه النكبة. والإجابات المتوفّرة قد تعكس الظروفَ التي قادت إلى النكبة أكثرَ من أن تجيب على السؤال ذاته، وتَصلح لفهم الوعي السياسيّ والتاريخيّ حينها أكثرَ من أن تَصلحَ لفهم معنى النكبة ذاته. وهذا هو الجواب الممكن على السؤال الثاني. ولو كانت لدينا إجاباتٌ أخرى، لما أعدنا طرحَ السؤال، أو لكنّا في مرحلةِ ما بعد النكبة؛ فطبيعةُ إدراك المشكلة وصياغتها المفهوماتيّة هي التي تحدّد طريقةَ صياغة الحلول وفهمها.

 

قسطنطين زريق

 

أمّا الجواب الممكن على السؤال الثالث فهو: لا أظنّ. فمنذ العام ١٩٦٥، دعا زريق إلى تأسيس ما سمّاه "علم النكبة،"(7) مدفوعًا بإدراكٍ (متأخّرٍ) لضرورة التمييز بينه وبين "أدب النكبة" ــ ــ وهذا تطوّرٌ ما كان ممكنًا أن يدركَه وهو يكتب النصّ التأسيسيّ لمفهوم "النكبة." لكنّ هذا التمييز المتأخّر والمهمّ (لكون أدب النكبة ليس "خليقًا بالفاجعة التي حلّت بالعرب في فلسطين،" كما قال زريق) لم يدخل، إلى الآن، الوعيَ السياسيَّ العربيَّ الجمعيَّ عمومًا، والفلسطينيَّ خصوصًا.

فأغلبُ ما لدينا عن النكبة حتى الآن يمكن أن يصنَّفَ في فئة "أدب النكبة" كما فهمها زريق… هذا إذا تجاهلنا الطبيعةَ الاحتفاليّةَ، الغريبةَ، التي ميّزتْ مراسمَ إحياء النكبة مؤخّرًا، برعاية سلطة أوسلو، وكأنّنا نستذكر حدثًا مضى وانقضى، لا حدثًا مستمرًّا وسيرورةً ذاتَ جذورٍ تمتدّ إلى قرنين مضيا على الأقلّ! أما الأبحاث المتخصّصة في أغلب مجالات القضيّة الفلسطينيّة (القانونيّة، الاجتماعيّة، السياسيّة، الخ)، والتي اعتبر زريق أنّها تشكّل في مجملها "علمَ النكبة" الذي دعا إليه، فهي لا تزال مشتّتةً ومعزولةً بعضها عن بعضها، ولا تأتي في سياق استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ أو قوميّةٍ عامّة، ولا في سياق مشروع كفاحيّ.

غير أنّ ذلك لا يعني أنّ النصّ الخاصّ بالدعوة إلى "علم النكبة" ليس إشكاليًّا في ذاته، شأن نصّ "معنى النكبة." فهو لا يشكّل اختراقًا لمنطق النصّ الأول بتاتًا، بل هو امتدادٌ له، ويخلو من أيّ تشكيكٍ ضروريٍّ أو نقدٍ للمحدِّدات والمقاييسِ النظريّة والتاريخيّة التي شكّلت المفهومَ الأوّل.

فإذا كان يمكن التشكيكُ في المفهوم السائد لـ"النكبة" وتبعاتِها وكيفيّةِ تجاوزها، ما يستدعي الدعوةَ إلى علمٍ خاصٍّ بها، فمَن ذا يعرِّف المقصودَ بـ"العلم"هنا؟ ووفق أيّة أسسٍ يُبنى؟ أهي أسسٌ أورومركزية كتلك التي شكّلت الصيغةَ الأولى للمفهوم؟ صحيح أنّنا قد نظنّ أنّنا نعرف، على مستوًى معيّن، ماهيّةَ النكبة، لكنّ ذلك وحده لا يكفي لصياغة استراتيجيّات وبرامج لتجاوزها.

نحن في حاجةٍ إلى إعادة النظر في مفهوم "النكبة"  كصياغةٍ مفهوماتيّة، وإلى إعادة قراءة الحدث والتاريخ بشكلٍ جذريّ. وليس ما أنوي كتابتَه ههنا إجابةً عن الأسئلة بقدر ما هو محاولةٌ لوضع إطارٍ لنقاش الإجابات في ضوء النتائج، ولطرح أسئلةٍ جديدةٍ يفرضها حاضرُنا السياسيّ. ما أسعى إليه هو إعادة النظر في منطق السرديّة التاريخيّة التي استندتْ إليها أدبيّاتُ النكبة، وفي أُسس هذا المفهوم التاريخيّة ومنطقه.

وليس تبريرُ هذه الدعوة أمرًا نظريًّا فقط؛ ولا استنادًا إلى فهمٍ نقديٍّ لبعض الأسس المعرفيّة لإدراك النكبة، كـ"التنوير" (الكولونياليّ) و"الحداثة"؛ ولا هو أمرٌ عمليٌّ فقط، أيْ يستند إلى أنّ اتفاقيّة أوسلو (على كارثيّتها) لم تكن فعلًا، كما اعتقد البعض، ذروةَ النكبة، خصوصًا بعد دخولنا مرحلةَ تقديس "التنسيق الأمنيّ." فالحقّ أنّ ذلك كلَّه جرى التأسيسُ له (ممارسةً وتنظيرًا) منذ النكبة، وتحديدًا مع بداية تأسيس "الثورة الفلسطينيّة" ذاتها، التي انتهت بعضُ قواها إلى أن تصبح وحداتِ "مستعربين" في جيش العدوّ وأجهزته الأمنيّة. إنّ السلطة الفلسطينيّة و"نخبة" أوسلو هما نتيجةٌ لمسارٍ جرى التأسيسُ له في أعقاب النكبة، وما يزال مستمرًّا، وليستا نتيجةً لفشل الثورة في مواجهة التحدّيات الهائلة، أو لتراجع الاستعداد الشعبيّ للتضحية، على ما تشهد كلُّ الانتفاضات التي عرفتها فلسطين منذ الاشتباك الفلسطينيّ ــــ الصهيونيّ الأول قبل مئة واثنين وثلاثين عامًا (١٨٨٦).

وكنتُ قد جادلتُ، في مكانٍ آخر، أنّ "الثورة الفلسطينيّة حملتْ بذورَ هزيمتها فيها منذ البداية." وهنا أعيد صياغة ذلك كالآتي:

إنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة أوّلًا، وحركةَ حماس لاحقًا (بتقليدها لها ومحاولةِ الحلولِ مكانها من ضمن أشياء أخرى)، حملتا بذورَ أوسلو وما بعدها منذ البداية. ومنظّمة التحرير هي الأمّ الشرعيّة للسلطة الفلسطينيّة الحاليّة ولنخبة أوسلو، وهي التي استولدتْ بفكرها السياسيّ وممارستِها العمليّة كلَّ ما رأيناه وكلَّ ما سنراه. لكنّ غيابَ النقد السياسيّ الجدّيّ والجذريّ، على الأقلّ منذ أوسلو وحتى اللحظة الراهنة، ضاعف وسيضاعف من تبِعاتها، في حين أنّ الظروف الجديدة التي استتبعتها أوسلو لا تبشِّر حتى اللحظة بمسارٍ بديل.(8)

 

في المفهوم
يقول جون ميلتون في خطابه الشهير، آريوباجيتيكا، أمام البرلمان الإنكليزيّ، إنّ "الكِتاب الجيّد هو شريانُ الحياة الثمين لروح الكاتب" لأنّه كفيلٌ بأن "يحفظَ روحَ الكاتب لحياةٍ ما بعد الحياة."(9) لكنّ ديفيد سكوت يرى أنّ الكتابَ والأفكار أكثرُ من ذلك بكثير؛ فـ"الكتاب هو نتيجةٌ لظروف العصر، التي تُشكِّل، بالضرورة، عقليّةَ وظروفَ كلِّ مَن يؤدّي دورًا رئيسًا في كلّ حقبة وعصر."(10) ولقد كان ماركس محقًّا بالقول "إنّ الفلاسفة لا ينبتون من الأرض كالفطر، بل هم ثمرةُ عصرهم."

وعليه، فمن أجل إدراك مجالات المعرفة الفرديّة، يتوجّب أوّلًا وضعُها "في سياقٍ تاريخيّ، وبترابطها مع المعرفة السابقة وتواصلها معها،" على ما جادل إنجلز في تصديره لـ ضدّ دوهرنج. وبهذا المعنى، فإنّ علمَ الأفكار، أو علمَ تطوّر الفكر الإنسانيّ، هو علمٌ تاريخيّ بامتياز. ولهذا بالضبط تأخذ الأفكارُ شكلًا ومحتوًى مختلفيْن في كلّ عصر.

هكذا، تنبغي أيضًا، في اعتقادي، رؤيةُ مفهوم "النكبة،" بل "علمِ النكبة"  (والنكسة لاحقًا)، وكلِّ ما كُتب عن أهمّ الأحداث في التاريخ العربيّ المعاصر. هكذا يصبح النقدُ نقدًا للظروف والعقليّة والأدواتِ النظريّة واللغويّة والكفاحيّة التي شكّلتْ خيالَ مَن كتبوا عن النكبة في كلّ حقبة، وليس نقدًا لأشخاصهم. وهذا يعني كذلك أنّ النقاش يجب أن يتجاوزَ قصورَ الإجابات ليشكّكَ في الأسئلة ذاتها التي استتبعتها النكبة، لكون السؤال وصياغته هما أيضًا نتاجًا للظروف التي نطمح إلى تجاوزها هي أيضًا.

 

خاتمة: في نقدِ ما بعد الكولونيالية
همّي الأساس في القسم الرئيس من النصّ هو الدعوةُ إلى نقدٍ سياسيّ وثقافيّ وتاريخيّ ونظريّ أوّلًا. وهو ما يَفترض، في رأيي، البدءَ في التوصيف النظريّ للحاضر السياسيّ، وعلاقتِه بروايتنا للتاريخ، وتصوّراتنا أو طموحاتنا المستقبليّة. همّي هو حاضرُنا تحديدًا. إذ لا يمكننا نقاشُ (ونقدُ) بعضِ (أو كلِّ) الإجابات النظريّة التي قدّمتْها "ما بعد الكولونياليّة" (المعتمَدَة لدى العديد من الأكاديميين) على الأسئلة التي طرحها المناضلون والمفكّرون في المرحلة الاستعماريّة التي سبقتها، فحسب، بل يمكن اليومَ أيضًا نقاشُ الفائدة المرجوّة من توصيف حاضرِ العرب بـ"حقبة ما بعد الاستعمار." فالحقّ أنّه يمكن القولُ إنّ "ما بعد الكولونياليّة" قد استُنفِدتْ في عصرنا اليوم، كمشروعٍ نقديّ على الأقلّ، وذلك بسبب التحوّلات التاريخيّة والنظريّة. لكنْ، لو كان ممكنًا ومفيدًا نظريًّا استخدامُ هذه النظرية وأدواتِها بعضَ الشيء، كما يظنّ البعض، فما هو توصيفُ حاضر فلسطين المستعمَرة في هذا المشروع؟

إنّ مفهوم "ما قبل/ ما بعد الاستعمار" الذي اقترحته ايلّا شوحاط، مثلًا، كارثيٌّ في الحدّ الأدنى.(11) فهو يغلق أفقَ المستقبل منذ البداية، وذلك باعتماده "ما بعد الاستعمار" سقفًا لطموحاتنا المستقبليّة، على الرغم من وصوله إلى حائطٍ مسدودٍ في كلّ مكان آخر. وعليه نسأل: كيف نوصِّف حاضرَنا، بعد تحطّم كلّ الآمال السياسيّة والاجتماعيّة التي حلم بها خيالُ مَن سبقونا من المعادين للكولونياليّة، ونستولد منه ــــ في الوقت ذاته ــــ آفاقًا من الإمكانيّات التحويليّة؟ َ

من أجل ذلك كلّه سيحاول هذا النصّ:

استكشافَ العلاقة بين حاضرنا (ذي الطريق المسدود كما يبدو)، والمستقبل "الطوباويّ" المتخيَّل في الماضي؛ وهو (أي المستقبل المتخيّل) الذي ألهمَ الوصولَ إلى هذا الحاضر وأدّى إلى إستدامته.

ثانيًا: استكشاف العلاقة بين هذا الحاضر، ولغةٍ متخيّلةٍ (بديلة) لمستقبلٍ متخيَّلٍ آخر، ولبديلٍ يبثّ الحياةَ في هذا الحاضر، بل يستولد منه آفاقًا (متوقّعةً وغيرَ متوقّعة) من الإمكانيّات التحويليّة.

 

الولايات المتحدة

*من مقدّمة كتابٍ يصدر قريبًا للكاتب عن النكبة.

(1) Eric Hobsbawm, The Age of Extremes: The Short Twentieth Century 1914-1991 (London: Abacus 1995), p. 10.

(2) Edward Said, “Contra Mundum,” London Review of Books, vol.17, no.5, March 9, 1995, p.22-23

(3) Christopher Hill, The World Turned Upside Down: Radical Ideas During the English Revolution (London: Penguin Books, 1975), p.15

(4) Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism (London: Verso, 1983), p. 205

(5)http://www.almayadeen.net/articles/opinion/853241/اشتراكية-ناصر--هكذا-وقفت-العروبة-على-قدميها

(6) Seif Da’na, “From Nasser’s Revolution to the Fall of the Muslim Brotherhood,” in S.D Brunn (ed.), The Changing World Religion Map (CO: Springer, 2015).
(7) قسطنطين زريق، علم النكبة، في: الأعمال الفكريّة العامّة، مجلد ٤، ص: ١٦٦٧ ــــ ١٦٦٩.

(8) http://www.al-akhbar.com/node/207093

(9) John Milton, Areopagitica (Cambridge: Cambridge University Press), p. xxxii.

(10) David Scott, Conscripts of Modernity: The Tragedy of Colonial Enlightenment (Durham: Duke University Press, 2004)

(11) Ella Shohat, “Notes on the Postcolonial,” Social Text, no. 31/32, Third World and Post-Colonial Issues (1992), p. 99-113

سيف دعنا

عميد كلية العلوم االاجتماعيّة في جامعة ويسكونسن - بارك سايد.