مثلكم... إنْ لم يكن أكثر!
10-11-2017

 

إنّ أيّ مقاربةٍ راهنةٍ للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيليّة تحتاج، أوّلًا، إلى تحديد هذا المُصطلح في ضوء المُستجدّات فيها وفي المنطقة العربية، وفي ظلّ الأحاديث شبهِ المؤكّدة عن عمليّة تطبيع تدريجيّة تجري، على قدمٍ وساق، بين تلك الدولة وبعض الدول العربيّة. وفي خضمّ هذه العمليّة يشاع أنّ تلك الدول تنازلتْ عن الشرط الوارد في "مبادرة السلام العربيّة" نفسه.

الادّعاء الرئيسُ لهذا المقال هو أنّ التطبيع يَخدم دولةَ الاحتلال ورئيسَ حكومتها بنيامين نتنياهو، لا في سياسته الخارجيّة، بل أيضًا في صراعاته الداخليّة على خلفيّة تراكم الشُبهات الجنائيّة حوله.

وفي المقابل، فإنّه يُفترض بالعلاقات الطبيعيّة بين العالم العربيّ وفلسطينيي 48 أن تنأى عن هذا المُصطلح، وأن تبقى محتكمةً إلى مناهضة التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيليّة.

 

سمات دولة الاحتلال: المقاربة الإقليميّة الحاليّة

بالتزامن مع كتابتي هذه (أواخر أكتوبر 2017)، بدأتْ بطانةُ نتنياهو في شنّ هجوم على حملات الانتقاد الداخليّة التي يتعرّض لها. ويستند هذا الهجوم، أساسًا، إلى "لائحة إنجازات" تمّت في السياسة الخارجيّة الإسرائيليّة تحت قيادته منذ نحو عقدٍ من السنوات، وتمتاز بـ"النموّ والازدهار السياسييْن غير المسبوقيْن في تاريخ إسرائيل،" من قبيل: "خلال الشهور الخمسة عشر الأخيرة، أجرى نتنياهو خمسةَ لقاءات سياسيّة تاريخيّة في دولٍ لم يزرها أيُّ رئيس حكومة إسرائيليّة من قبل." وثمّة تركيزٌ على نجاح نسبيّ للسياسة التي يتّبعها اليمينُ الإسرائيليّ بقيادة نتنياهو في قطف ثمار التحوّلات العالميّة والإقليميّة لصالح المزيد من التطبيع، وذلك مع استمرار دولة الاحتلال في التنكّر لحقوق الشعب الفلسطينيّ.

ما يُدجِّج هذا النجاحَ النسبيَّ عاملان مُستجدّان لا يتعلّقان بالضرورة بأداء اليمين الإسرائيليّ وزعيمِه:

ــــ العامل الأوّل هو التطوّرات الإقليميّة الأخيرة، وخصوصًا ما يرتبط بـ"تغيير أولويّات" ما تسمّيه الأدبيّاتُ الإسرائيليّة "كتلةَ الدول العربيّة السنّيّة." فقد صرّح نتنياهو، أخيرًا، بأنّ ما يحدث مع هذه الكتلة الآن "لم يحدث في تاريخنا قطّ، ولا حتى عند التوقيع على اتفاقيّات معها." وواقعُ الأمر أنّ هذا التصريح لا يصدر في فراغ.

 فبالاعتماد على ما نقرأ هنا في داخل فلسطين 48، فإنّ حلقات التعاون بين دولة الاحتلال من جهة، ومصر والأردن من جهةٍ أخرى، لم تكن بمثل هذا المستوى من القوة والثبات في الماضي. وهذا التعاون يجري على أساس المصالح المشتركة لكلٍّ من الأطراف الثلاثة. كما أنّ التخوّف من السيطرة الإيرانيّة في سورية ومن خرق الاتفاق النوويّ، إلى جانب مواصلة تطوير وإنتاج الصواريخ البالستيّة العابرة للقارّات في إيران، دفعا نحو تقاربٍ غير مسبوق بين دولة الاحتلال والمملكة العربيّة السعوديّة، ولو من وراء الكواليس على الأقلّ. وضمن ذلك نُشرتْ أنباءٌ أفادت بأنّ وفدًا عسكريًّا رفيعَ المستوى من السعوديّة وصل إلى دولة الاحتلال في زيارةٍ سريّة؛ بل نُشر في سبتمبر الفائت أنّ أميرًا رفيعَ المستوى من القصر الملكيّ السعوديّ زارها أيضًا. ومثل هذه الزيارات واللقاءات جرى أيضًا بين مسؤولين إسرائيليين كبار وبين نظرائهم من دولٍ خليجيّةٍ أخرى. وفي 17/9/2017، نُشر أنّ حاخاميْن يهودييْن من المسؤولين في "مركز شمعون فيزنطال" زارا البحريْن في بداية العام الحاليّ، واستمعا إلى ملكها وهو يدعو إلى "إلغاء المقاطعة العربيّة لإسرائيل" ويُعلن عن السماح لمواطني دولته بزيارتها.

ــــ العامل الثاني هو الحالة السياسيّة القائمة في دولة الاحتلال منذ سنواتٍ طويلة. فهذه الحالة لا تشي بغياب خطابٍ سياسيّ مناقضٍ لخطاب اليمين حيال القضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل تشي أيضًا بغياب معارضةٍ حقيقيّةٍ منافسةٍ لهذا اليمين الآن وفي المُستقبل المنظور.

ويأتي هذا التطبيعُ العربيّ الرسميّ، غير المُشهر علنًا مع دولة الاحتلال، على الرغم من السمات الحاليّة للمقاربة الإقليميّة التي تتبنّاها حكومتها. وأبرزُ تلك السمات اثنتان:

ــــ الأولى هي إحاطةُ دولة الاحتلال بـ"أسيجة أمنيّة." ووفقًا لنتنياهو فإنّ هذه الإحاطة تشكّل ترجمةً على الأرض لعقيدة زئيف جابوتنسكي، المستندةِ إلى مبدإ "الجدار الحديديّ" المتمثِّل في القوّة العسكريّة المستمرّة والمتعاظمة، والقائمة على الإيمان الراسخ بـ"عدالة الصهيونيّة." وهذا ما أكّده نتنياهو نفسُه في الخطاب الذي ألقاه خلال مراسم إحياء الذكرى السنويّة الـ75 لوفاة جابوتنسكي يوم 16/7/2015، بعد يومين من توقيع "اتفاق فيينا" بين الدول الستّ الكبرى [مجموعة الدول الخمس الكبرى + ألمانيا] من جهة، وإيران من جهة أخرى، حول البرنامج النوويّ الإيرانيّ. وتتّسق هذه السمةُ مع تأكيداتٍ تتواتر منذ تشكيل حكومته الحاليّة، وتشير إلى أنّه لن يَسمح بأيّ تقدّم فعليّ في طريق تسوية القضيّة الفلسطينيّة، ولو كلّفه ذلك حياته، وخصوصًا من أجل الحفاظ على بقاء الائتلاف اليمينيّ الذي يترأّسه. كما تلفت هذه التأكيدات إلى أنّ المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة تستبعد القضيّةَ الفلسطينيّة، ويحتلّ "أمنُ الدولة" والاستيطانُ سلّمَ أولوياتها ــ ــ بما في ذلك توسيعُ المستوطنات خارج ما يسمّى "الكتل الكبرى."

ــــ الثانية نابعة من تأكيد نتنياهو، أمام الكثيرين من زعماء أوروبا والعالم (وربما الزعماء العرب)، أنّ "إسرائيل حاميةُ الحضارة هنا، في قلب الشرق الأوسط، في وجه الوحشيّة الجديدة." وهذه الوحشيّة تأتي، في رأيه، "من تيّاري الإسلام المتطرّف،" أيْ: "تيّار السنّة المتطرّفة بقيادة داعش، وتيّار الشيعة المتطرّفة بقيادة إيران،" كما صرّح في غير مناسبة. وقد لا يحمل تأكيدُه المتعلِّق بـ"دور إسرائيل" توجّهًا جديدًا، إذ سبق أن صدرتْ عنه في الماضي تصريحاتٌ كثيرةٌ تصبّ في هذا الاتجاه. فقبل أكثر من سنتين صعّد نتنياهو هجومَه على أوروبا على خلفيةِ ما وصفه بأنّه "مواقف رخوة" إزاء سلطة جديدة في طهران تتّسم بتوزيع الابتسامات على العالم أجمع من دون أيّ تغيير جوهريّ في سياستها العامّة وسياستها النوويّة بشكل خاصّ. في حينه بدا أنّ ما يَشغل بالَ نتنياهو ليس تأليبَ العالم على إيران (ولا سيّما عقب اعتماد المسار التفاوضيّ معها بديلًا من مسار العقوبات) بقدر ما هو إعادةُ التذكير بـ "دور إسرائيل الوظيفيّ" في المشرق العربيّ. والقصد هنا هو "دورُ الفيللا في الغابة،" بحسب توصيفٍ أطلقه رئيسُ الحكومة الأسبق إيهود باراك على دولة الاحتلال، وهو توصيفٌ يعبِّر عن نظرتها ونظرةِ أغلبيّة سكّانها اليهود إلى المشرق العربيّ؛ فمن حولهم الهمجيّةُ والخرابُ والتخلّفُ والأصوليّة، بينما هم وحدهم ــــ في "فيللتهم" ــــ المتحضِّرون والمتقدّمون.[1]

 

                                                          (الصورة لمحمود أبو سلامة)

ماذا عن فلسطينيي 48؟

بقدر ما يُعتبر التطبيعُ العربيُّ الرسميّ مع دولة الاحتلال عملًا مُنكرًا وشائنًا ــــ وهو ما تستشعره الحالةُ الشعبيّةُ عمومًا وكذلك مُعظمُ النُخب الثقافيّة حتى في الدول التي تنخرط فيه على نحوٍ سرّيّ ــــ فإنّ مُصطلح "التطبيع" لا ينطبق، ولا يجوز أن ينطبق أبدًا، على علاقة العالم العربيّ بفلسطينيّي 48. فالحقّ أنّ علاقتنا المباشرة بالعالم العربيّ هي علاقةُ حقّ، ويجب أن تستمرّ ضمن إطار مناهضة التطبيع مع دولة الاحتلال، وهي جرت وتجري من فوق قانون هذه الدولة.

قد يقول قائل إنّ هذه المسألة بدهيّة، وإنّ العودة إليها بمثابة تأكيد المؤكَّد. وهذا صحيح، لكنِ اعتورَه في السنوات الأخيرة قدرٌ غيرُ قليل من الالتباس.

ومن دون الدخول في تفاصيل كلّ حالة على حدة، ينبغي القولُ إنّ أحد أهمّ أسباب ذلك الالتباس يعود إلى أنّ جهاتٍ عربيّةً، لا يُمكن التشكيكُ في نيّاتها الوطنيّة والقوميّة، تَعتبر أنّ بعضَ الممارسات التي يلتجئ إليها فلسطينيّو 48 من أجل إدارة الصراع مع الواقع الاستعماريّ المفروض، ومن ضمن سياق الدفاع عن هُويّتهم، إنّما هي من سمات التطبيع مع دولة الاحتلال.

لقد كانت الثقافة مفتاحًا رئيسًا في تغذية معركة الهويّة لفلسطينيي الداخل، وفي مدّها بالوقود اللازم لكي تبقى متّقدةً. وعلى الرغم من جميع التطوّرات السياسيّة الفلسطينيّة والإقليميّة والدوليّة، ما تزال الثقافةُ محتفظةً بهذا الموقع المتقدّم في معركة الهويّة، التي لم تضع أوزارَها بعد. وليس المقصود أساسًا التغذية التعبويّة، على ما فيها من أهمّيّة، وإنّما التغذية الإدراكيّة العقلانيّة الحضاريّة التي يتعاظم وزنُها حاليًّا في ضوء الهجمة الضارية على الثقافة العربيّة والإسلاميّة في العالم طُرًّا. ومثلما لم تغب الثقافةُ العربيّة في حواضرها المتعدّدة عن معركة الهويّة التي خاضها الفلسطينيون داخل فلسطين 48 طوال السنوات التي انقضت منذ النكبة، فإنّه ينبغي بهذه الثقافة أن تبقى حاضرةً، وهي كذلك، بل أن تُعمِّق أيضًا من التحامها مع مختلف جوانب حياة هؤلاء الفلسطينيين الثقافيّة. ويستدعي تعميقُ اللحمة عدمَ الاكتفاء بتعريض الفلسطينيين في فلسطين 48 لقشور هذه الثقافة، وإنّما ينبغي تعريضُهم لمختلف الظواهر الثقافيّة النوعيّة التي تعزِّز الانتماءَ القوميّ وتكرِّس الأفقَ الحضاريّ على قاعدة هذا الانتماء.

أستطيع القول، من دون خشية الوقوع في المبالغة، إنّ حضورَ الثقافة العربيّة وإسهامَها في وقاية الهويّة نجم، حتى الآن، عن قوّة الإصرار، لدى الغالبيّة الساحقة من الفلسطينيين وقواهم السياسيّة في داخل فلسطين 48، على الانتماء إلى العروبة. والاعتقاد السائد لدى هؤلاء هو أنّ هذا الحضور مقدَّرٌ له أن يتعزّز أكثر فأكثر إذا ما وقف في صلب غايات مشاريع ثقافيّة عربيّة يبادر إليها أشقّاؤهم وشقيقاتُهم العربُ أنفسهم.

تتعدّد الاقتراحات حول كيفيّة بلوغ ذلك، بطبيعة الحال. وربّما حان الوقتُ، مثالًا لا حصرًا، لأن تُعقدَ حلقةُ نقاش خاصّةٌ ومنهجيّةٌ حول وسائل تعميق التواصل الثقافيّ بين الفلسطينيين في داخل فلسطين 48 وبين العالم العربيّ، كبادرةٍ تتغيّا تجميعَ الجهود المتناثرة في هذا الصدد على قاعدة الضرورة المُلحّة إلى الترشيد والتخطيط والدراسة المُتعمّقة، بعيدًا عن أيّ تبادل للاتهامات وللتراشق الكلاميّ بشأن التطبيع مع دولة الاحتلال ــ ــ وهو تطبيعٌ يُجمع فلسطينيّو 48 على ازدياد الحاجة إلى مناهضته بما لا يقلّ عن إجماع العرب أجمعين، إنْ لم يكن أكثر!

عكا (فلسطين)

 

[1] زعماء الحركة الصهيونيّة في الماضي كانوا ممتلئين، هم أيضًا، بالاستعلاء والغطرسة تجاه محيطهم ــ ــ وهما سمتان وقفتا وراء "تدريب أعينهم" على العمى الانتقائيّ، أيْ على تجاهل آلام الآخرين الذين عاشوا قبلهم بكثير في المحيط عينه. فقد أكّد ماكس نورداو، المساعدُ الأوّل لهرتسل، في خطابه أمام المؤتمر الصهيونيّ الأوّل سنة 1897، أنّ شعوب آسيا "منحطّة." أمّا ديفيد بن غوريون فأراد نشر النور للغرباء من خلال الفيللا، ومن داخلها خرج بالفكرة العجيبة عن "الشعب الفريد من نوعه."

انطوان شلحت

باحث في الشؤون الإسرائيلية، ناقد أدبي أنجز مجموعة كتب في مجال النقد الأدبي، كما ترجم عن العبرية عدة كتب، بينها أعمال لكتاب وأدباء إسرائيليين. ينشر في الصحافة الفلسطينية والعربية. مدير وحدة "المشهد الإسرائيلي" ووحدة الترجمة في "مدار".