حين أغلقنا الآداب الورقيّة نهايةَ العام 2012 وَعَدْنا بإعادة إصدارها إلكترونيًّا. وها نحن، قبل مضيّ ثلاث سنواتٍ بثلاثة شهور، نَفِي بالوعد، بل نتجاوزُه. فـ الآداب الإلكترونيّة "آدابانِ" إذا جاز التعبير: أرشيفيّة، وتضمّ كاملَ المادّة المنشورة ورقيًّا على امتداد 60 عامًا (1953ــــ 2012)؛ وجديدة، تبدأ مغامرتَها المشوّقة في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2015.
***
فلنبدأ بالأرشيف. في نهاية العام 2013، اتّفقنا مع مكتبة الجامعة الأميركيّة في بيروت على أن تقوم بتصوير الأرشيف الورقيّ كاملًا، وفق أفضل إمكانيّات التصوير المتاحة؛ ثم يعْمدَ فريقٌ متخصّصٌ في المكتبة إلى إنشاء "ميتاداتا" لكلّ مادّةٍ على حِدة، بحيث يَسْهلُ على المتصفّح الوصولُ إلى مبتغاه. وهذه الميتاداتا غزيرةٌ ودقيقةٌ ومفصّلةٌ أحيانًا، حتى لتَصحّ تسميتُها "المعلومة العميقة" (قياسًا إلى "الدولة العميقة") لأنّها تغوصُ في ما وراء المعلومة الواضحة؛ فلا تكتفي بذكر اسم المؤلّفِ وعنوانِ مادّته المنشورة، بل تضيفُ إليهما أمورًا مفيدةً أخرى من قبيل: نوعِ هذه المادّة (قصة، قصيدة، حوار، استفتاء،...)، ونطاقِ البحث الجغرافيّ الذي تتناوله (سوريا، السودان، فرنسا،...)، وبعضِ أسماء العَلم الواردة في المادّة (جمال عبد الناصر، كارل ماركس، غالب هلسا،...)، وكلماتٍ ــــ مفاتيحَ (الاشتراكيّة، القوميّة، الحداثة، مجلة حوار،...).وكان فريقُ مكتبة الجامعة يسلّمنا ـــ مشكورًا ـــ صورَ موادّ كلّ سنة مع الميتاداتا الخاصّة بها، فننكبُّ، أنا ومديرُ الموقع الرفيق يسري الأمير، على مراجعتها بدقّة، مقترِحَيْن على الفريق إضافةً هنا أو حذفًا هناك أو تصحيحًا هنالك.
نتيجةً لهذا العمل المحترِف والمضني، فإنّ الأرشيف الورقيّ من الآداب (مع الميتاداتا الخاصّة به) سيكون في متناول القارئ بحلول نهاية العام 2016. وسيتمّ نشرُ الأرشيف تباعًا وفق البرمجة الزمنيّة الآتية:
أ) تشرين الأول (أكتوبر) 2015: نشْر مجلّدات الآداب للأعوام الخمسة الأولى (1953ــــ1957).
ب) تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 ـ كانون الأول (ديسمبر) 2016: نشْر مجلّدات الآداب للأعوام المتبقّية (1958ــــ 2012)، بمعدّل مجلديْن سنويّيْن كلّ شهر.
إنّ الأرشفة الإلكترونيّة لمجلة الآداب (1953-2012) لهي، في رأينا، "حدثٌ ثوريٌّ" بكلّ المعايير الأكاديميّة والمعرفيّة والقوميّة والنهضويّة، إنْ أُحسِنَ استخدامُ المادّة المؤرشَفة. فلا مفرّ من أن تغتني مساراتٌ بأكملها نتيجةً لهذا الجهد الجبّار، ولاسيّما في المجالات الآتية: دراسة الشعر العربيّ الحديث، وتطوّر القصة القصيرة، ومدارس النقد الأدبيّ الحديث، وتطوّر الفكر القوميّ العربيّ، والتأثيرات الفكريّة "الوافدة" (الوجوديّة، الماركسيّة،...)، وحركة السِّجال الثقافيّ العربيّ (تيّارات، مجلّات، مراكز،...)، وسيرورة القضيّة الفلسطينيّة وخطاباتها، وتمعّجات حركة التحرّر الوطنيّة والقوميّة. لكنّني أشدّد على العبارة الشرطيّة "إنْ أُحسِنَ استخدامُ المادّة المؤرشفة"؛ فهذا الاغتناء المأمول مرهونٌ بدور أساتذة الجامعات بشكلٍ خاصّ، وبدور المشرفين على الأطروحات الجامعيّة بشكل أخصّ، في إرشاد الطلّاب إلى هذا الموقع، وحثِّهم على استخدامه بشكل كثيفٍ وذكيّ.
نعم، ليس من المبالغة في شيء القولُ إنّ ما بعد أرشفة الآداب إلكترونيًّا لن يكون كما قبله (ودائمًا مع إضافة الشرط أعلاه). لا عذرَ لأيّ باحثٍ بعد اليوم في أن يتذمّر من "قلّة المعلومات" عن نازك الملائكة أو عبد الباسط الصوفي أو رئيف خوري أو التمويل الأجنبيّ للثقافة العربيّة أو السجال بين دعاة قصيدة النثر ورافضيها...؛ ولا عذر له في الاحتجاج على صعوبة الحصول على مجلّدات الآداب الورقيّة في بلده أو جامعته؛ فعمّا قريب ستكون بين يديه أضخمُ موسوعةٍ أدبيّةٍ ـ ثقافيّةٍ إلكترونيّةٍ باللغة العربيّة. والأهمّ أنّها ستكون له من دون أيّ مقابلٍ مادّيّ.
***
ماذا عن الآداب الإلكترونيّة الجديدة (تشرين الأول 2015-...)؟ هل ستختلف عن الورقيّة "القديمة"؟ وكيف؟
سنحاول أن نستفيد، قدْرَ المستطاع، من الانتقادات التي سمعناها أو قرأناها طوال السنوات الثلاث الماضية وما قبلها. وسنسعى تحديدًا إلى ما يأتي:
أ ـ أن تَصدر موادُّ الآداب بوتيرةٍ أكبر. لن تكون الآداب بعد اليوم "مجلة" شهريّة ولا نصفَ شهريّة ولا فصليّةً، بل ستنشر ما توافق هيئةُ تحريرها على نشره خلال أيّام من وصوله إليها. طبعًا تُستثنى، من ذلك، الموادُّ المدرَجةُ ضمن ملفٍّ خاصّ، يَصْدر عدّة مرّات في السنة، كما كان دأب الآداب في العقديْن الأخيريْن على الأقلّ.
ب ـ أن تكون الآدابُ الإلكترونيّة أكثرَ اعتناءً بالأدب، وخصوصًا بالقصّة القصيرة (العربيّة والمترجمة)، وبأدب اليوميّات (ولاسيّما يوميّات التظاهر والحصار والحروب الداخليّة والغزو الخارجيّ)، والقصائد، والمسرحيّات، والحوارات الأدبيّة والفكريّة، والندوات الفكريّة، والاستفتاءات (التي اهتمّت بها آدابُ الخمسينيّات بشكل خاصّ)، والفنّ التشكيليّ. وسيخفّ منسوبُ السياسة "اللحْظيّة" أو الآنيّة التي ربّما طغت على الآداب في "عهدي" الورقيّ (1992-ــ2012).
ج ـ أن تكون أكثرَ إحاطةً بإنتاج العرب في الشتات، على مستوى الأدب والأبحاث الجامعيّة معًا. ونحن نتعهّد بنقل الموادّ المقدّمة إلينا باللغة الإنكليزيّة إلى فصحى متينةٍ وحديثةٍ مذيّلةٍ بالهوامش التوضيحيّة عند الضرورة، زيادةً في تعريف منتجي المعرفة العرب بعضِهم ببعض، وإيمانًا منّا بأنّ بعضَ أفضلِ ما ينتجه شعبُنا يتمّ في الشتات.
د ـ أن تكون "أسرعَ" و"أقصرَ" و"أرشق"... لكنْ من دون أن يؤدّي ذلك إلى التسطيح والخفّة. إنّ إيقاعَ حياتنا، بل نمطَ الكتابة الإلكترونيّة ذاته، لا يستسيغان المطوَّلاتِ والخطاباتِ المنمّقة. وعليه، فإنّنا نناشد باحثينا أن يسعوْا إلى التعبير عن أفكارهم بما لا يتعدّى 1200 ـــ 1500 كلمة لكلّ مقال؛ لكنّنا قد نقسم البحثَ في قسمين متوالييْن عند الضرورة، ثمّ ننشرهما على موقعنا خلال أسبوعٍ واحد أو يزيد قليلًا. على أنّ هذا التحديد في حجم المادّة يغدو أقلّ وجوبًا في حال الملفّات المتخصّصة.
علاوةً على ذلك، ستتضمّن الآداب الإلكترونيّة الجديدة بابًا مستعادًا، واهتماماتٍ جديدة. فأمّا الباب المستعاد فهو "ذاكرةُ الآداب،" الذي فتحناه بضعَ سنوات في تسعينيّات القرن الماضي، ونعيده اليوم إلى الحياة ـــ سوى أنّ "الذاكرة" الآن باتت مجملَ الأرشيف الورقيّ (1953-2012). في هذا الباب، إذن، نتناول موادّ أرشيفيّةً من الآداب، فنضعُها في سياقها التاريخيّ والسجاليّ، ونُبرزُها أمام القارئ، لا حنينًا إلى سلفٍ صالحٍ ومجدٍ غابر، بل تخصيبًا للفكر والذائقة الحديثيْن، وتجسيرًا ما بين إنتاج العقود السابقة وإنتاج اليوم.
وأمّا الاهتمامات الجديدة فتتوزّع بين الفنون البصريّة والسمعيّة، علمًا أنّنا لم نغب تمامًا عن هذا المجال في السابق، ولاسيّما خلال الفترة "الورقيّة" 2000-2010. وثمّة بابٌ نعمل على أن يبصر النور، وهو عبارة عن رقعةٍ من الكلمات المتقاطعة، تتضمّن أسئلةً في اللغة والأدب والفكر والسياسة والاجتماع.
وقبل الختام، لا بدّ من توجيه الشكر الجزيل، باسمي وباسم يسري الأمير، إلى جميع الأصدقاء والرفاق الذين أعانونا على إصدار موقعنا الجديد، أو بالأحرى موقعيْنا الجديديْن، وأخصّ بالذكر: الصديق الحبيب الدكتور أحمد دلّال، والفريق المحترف الممتاز في مكتبة "يافث" في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ولاسيّما الدكتور لقمان محّو، والأستاذ إيلي كحّالة والأستاذة بسمة شبّاني. كما أتقدّم ببالغ الشكر إلى الفريق التقنيّ العامل على الموقع الجديد، وتحديدًا: الصديق والرفيق أحمد قمح، والسيّدة جويس صوايا. وأشكر الأصدقاء الأحبّاء الذين قدّموا اقتراحاتهم المفيدة، وخصوصًا في تبويب الموقع وتصميمه، وعلى رأسهم: هشام صفيّ الدين، وغادة شرف الدين، ورحاب جعفر، وأسعد غصوب. ويبقى الشكر الأكبر لكتّاب الآداب القدامى ــ الجدد الذين لم يفقدوا يومًا إيمانهم بمجلة الآداب، ولبّوا الدعوة إلى المشاركة فيها من دون أدنى تردّد
***
هذه هي الآداب القديمة ـــ الجديدة كما نريدها: قوة متقدّمة في بناء وعيٍ نقديًّ متحرّك وذائقةٍ أدبيّةٍ وفكريّةٍ لم تلوّثها رياحُ الاستهلاك أو روائحُ النفط والغاز والطائفة والمذهب والعنصريّة. وستكون كما عهدتموها: مقاوِمةً جذريّةً للعدوّ الإسرائيليّ حتى تحرير كامل فلسطين وجميعِ الأراضي العربيّة المحتلّة، متصدّيةً لأشكال الظلم الاجتماعيّ والسياسيّ والجندريّ كافّة، حريصةً على تجديد أساليب الكتابة العربيّة، مسهِمةً في تشييد ما أمكن من أشكال التكامل العربيّ، ساعيةً إلى الحداثة بما يتلاءم وحاجاتِ مجتمعنا العربيّ و"يتصادى" معه (التعبير الأخير هو للأب المؤسّس سهيل إدريس في افتتاحيّة العدد الأوّل من الآداب عام 1953).
الآداب في عهدها الثالث نريدها غزيرة، متنوّعةً، ضاجّةً بالحياة؛ طاقةً من التفكير الدائم في البدائل التي تتجاوز ما تطرحُه "قوى الأمر الواقع" ـــ نيوليبراليّةً كانت، أو مستبدّةً، أو أصوليّة؛ موْقعًا للكلمة النظيفة المستقلّة؛ نموذجًا عن التحرير المتقَنِ، واللغةِ المتينةِ والرشيقةِ في آن واحد. الآداب في عهدها الثالث استكمالٌ عنيدٌ لعهديْها السابقيْن ـــ مع جرعاتٍ إضافيّةٍ من الخبرة والانفتاح والثورة.
بيروت