التطبيع الإماراتيّ: رهانُ الأنظمة ووهمُ الحماية
05-09-2020

 

مقدّمة

يدفعنا الانتقالُ الإماراتيّ من مرحلة التطبيع غير الرسميّ إلى مرحلة التطبيع الرسميّ إلى وقفةٍ فلسطينيّةٍ مع الذات، قبل الخوض في مآلات هذا التحوّل المُتدحرج في المنطقة العربيّة ومُسبِّباته. إذ لا يمكن أن نرى ما ارتكبه حكّامُ الإماراتُ في إعلان "أبراهام" إلّا استكمالًا لنهج التطبيع الذي أسّستْ له مصرُ عبر كامب ديفيد، ثمّ شرّعتْ أبوابَه منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة باتفاقيّة أوسلو، لتحذو الأردنُ حذوَها في اتفاقيّة وادي عربة.

النقاش المستفيض حول "اختلاف وضع الإمارات" عن دول الطوْق في الصراع مع العدوّ الإسرائيلي، وأنّ "علينا أن نكونَ واقعيّين لأنّ العالمَ يتقدّم والمصالحَ تتبدّل،" إنّما يفتح المجالَ للكثير من التبريرات التي نسمعها يوميًّا. وحقيقةُ الأمر أنّ ما يمكن استنتاجُه، بعد عشرات السنين من افتتاح مصر مسارَ التطبيع الرسميّ العربيّ، يؤكّد أنّ التطبيع كان وما يزال خيارًا سياسيًّا نابعًا من مصالح الأنظمة الآنيّة، لا عملًا تأتّى قسْرًا وبالإجبار.

لم يكن مضيُّ الإمارات نحو التطبيع خيارًا قسريًّا، بل كان استسلامًا لمصالحها الآنيّة، وتطوّعتْ لفعلتها راضيةً مرضيّة. لذا، علينا ألّا نسبغ على هذه الفعلة صفةَ "السلام،" دافئًا كان أو باردًا، وإنّما كان قرارًا واضحًا بالانضمام العلنيّ الخيانيّ إلى العدوان الإسرائيليّ-الأمريكيّ على الشعب الفلسطينيّ.

الجدير ذكرُه أنّ السلطة الفلسطينيّة علّقتْ على هذا "العدوان الثلاثيّ" في بيانٍ رسميٍّ عاجلٍ جاء فيه: "ترفض القيادةُ الفلسطينيّة ما قامت به دولةُ الإمارات العربيّة المتّحدة باعتباره خيانةً للقدس والأقصى والقضيّةِ الفلسطينية، واعترافًا بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وتطالبها بالتراجع الفوريّ عن هذا الإعلان المُشين."[1] غير أنّ السلطة الفلسطينية، بهذا الوصف التخوينيّ للتطبيع الإماراتيّ الرسميّ، تكون - من حيث تدري أو لا تدري - قد وصفتْ ما سبقه من تطبيعٍ رسميٍّ فلسطينيّ وأردنيّ ومصريّ أيضًا بالخيانة للقدس والأقصى والقضيّة الفلسطينيّة!

القيادة الفلسطينيّة، ومن بعدها السُّلطة، جعلتْ من نفسها بمثابة "مالك قفلِ التطبيع العربيّ." فقد ارتكزتْ، منذ مسار التسوية، على توظيف ملفّ التطبيع العربيّ الرسميّ ليكونَ جائزةً يحصل عليها العدوُّ الإسرائيليّ بعد الاتفاق النهائيّ. وطالبتْ مبادرةُ السلام العربيّة، الصادرةُ في ختام القمة العربيّة في العام 2002، العدوَّ بقبول التسوية التاريخيّة مع العرب والفلسطينيّين على أساس قيام دولة فلسطينيّة مستقلّة على حدود الأراضي المحتلّة عام 1967، وعاصمتُها القدسُ الشرقيّة، مع التوصّل إلى "حلّ عادل" لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفق قرار الأمم المتّحدة رقم 194، كي تقومَ الدولُ العربيّةُ على الإثر بإنشاء علاقات طبيعيّة مع "إسرائيل" والدخول في اتفاقيّة سلام.

وكما صار واضحًا الآن، فقد فَشِلَتْ هذه الاستراتيجيّةُ أمام المتغيّرات الإقليميّة والداخليّة، وتحوّلت الأبوابُ الخلفيّةُ العربيّةُ غيرُ الرسميّة إلى قنواتٍ رسميّةٍ تخلو من "القفل" الفلسطينيّ. وهذا يعني أنّ رهانَ القيادة الفلسطينيّة على مشروع التسوية التاريخيّة انتهى وولّى. فسقطت الأقنعةُ في مسقط، ونامت المبادرةُ العربيّةُ في المنامة، وصارت الطريقُ من أبو ظبي إلى تل أبيب تمرّ عبر واشنطن، لا القدس أو رام الله.

 

نقطةُ تحوّل: من عدوٍّ إلى فرصة

في خضمّ البحث الأمريكيّ عن مَخْرج للعدوّ الإسرائيليّ ولرئيس وزرائه نتنياهو، بعد عدم منحه الموافقةَ الأوروبيّةَ والأمريكيّةَ لتنفيذ "خطّة الضمّ،" خرج سفيرُ الإمارات لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبي، المعروفُ بقربه من جارِدْ كوشنر، ليقول: لتكن الإماراتُ المَخْرجَ! وفي مقالٍ له نُشر في صحيفة يديعوت أحرنوت العبريّة بتاريخ 12/6/2020 يدعو فيه العدوَّ إلى اختيار التطبيع مع العرب عوضًا من الضمّ، يقول: "نحن في الإمارات العربيّة المتحدة، وفي أنحاء كثيرةٍ من العالم العربيّ، نودّ أن نصدّقَ أنّ إسرائيل فرصةٌ وليست عدوًّا. نحن نواجه العديدَ من المخاطر المشتركة ونرى إمكاناتٍ لعلاقاتٍ أكثرَ دفئًا."[2]

 

دعا سفيرُ الإمارات لدى أميركا العدوَّ إلى اختيار التطبيع مع العرب عوضًا من الضمّ

 

وبحسب العتيبي، فإنّ الموقفَ الإماراتيّ المعارض لخطّة الضمّ ينطلق من مبدأ حرص الإمارات على تحقيق "المصلحة المشتركة" للبلديْن كليْهما عن طريق التطبيع الرسميّ. وفي مستهلّ هذا الخطاب الاستجدائيّ، غيرِ الجديد على المستوى الرسميّ عربيًّا وفلسطينيًّا، عدّد العتيبي قائمةً طويلةً من مشاريع التطبيع واللقاءات المشتركة، واصفًا إيّاها بـ"الجزرات" الممنوحة كمحفِّزاتٍ لجرّ حكومة الاحتلال إلى التطبيع، وتحقيقًا لـ"قدْرٍ أكبر من الأمن والروابط المباشرة والانفتاح على الأسواق والقبول المتزايد للإسرائيليين في الإمارات والمنطقة برمّتها."[3]

بعدها بأيّام، تحدث وزيرُ خارجيّة الإمارات، أنور قرقاش، إلى المشاركين في لقاء عقده [4]لوبي صهيونيّ في الولايات المتحدة، بدعوةٍ من "اللجنة اليهوديّة الأمريكيّة" (AJC). فأكّد أنّ اعتراضَ الإمارات على مشروع الضمّ لا يمنع من التعامل في مجالاتٍ أخرى، مثل محاربة وباء كورونا المستجدّ أو المجال التكنولوجيّ. بكلماتٍ أخرى، يبدو وكأنّ قرقاش يقول للصهاينة: حتى لو نفّذتم وعودَكم في الضمّ، فذلك لن يغيِّرَ من طبيعة علاقتنا العلنيّة الرسميّة بكم!

ولن يكتملَ المشهدُ من دون موقفٍ سعوديّ، وإنْ لم يصدرْ عن ناطقٍ "رسميّ." فقد نشر المستشارُ السابق في الديوان الملكيّ، نوّاف العبيد، بعد أسبوعٍ من مقال العتيبي، مقالًا[5]في صحيفة هآرتس الصهيونيّة الناطقة بالإنجليزيّة، يردِّد فيه حججَ الأخير عن جدوى التطبيع العربيّ مع "إسرائيل،" ومستجديًا الإسرائيليين عدمَ إفشال التقارب الذي حصل في السنوات الماضية، بما يؤثِّر سلبًا في التحالف الخليجيّ-الإسرائيليّ-الأمريكيّ ضدّ إيران أو في جهود "الرباعيّة العربيّة" (الإمارات والسعوديّة ومصر والأردن) في ملفّ التسوية. وعاتب العبيد، كما فعل العتيبي، الإسرائيليين بسبب عدم ردّهم جميلَ العرب والخليجيّين، خصوصًا مَن تعاون معخم في شتّى المجالات. هنا يبدو وكأنّ العبيد والعتيبي "يقرآن على شيخٍ واحدٍ" كما يقول المثل.

ذكّر العبيد الحكومةَ الإسرائيليّة بـ "الجميلة الخليجيّة" عليهم: بدءًا باللقاءات الرسميّة في الإمارات، مرورًا بالتطبيع الرياضيّ المتعدّد، والاحتفاءِ البحرينيّ الرسميّ بالعلاقة الطيّبة مع الإسرائيليين (في إشارةٍ إلى استضافة البحرين للورشة الاقتصاديّة التحضيريّة لـ"صفقة القرن" الأمريكيّة)، وصولًا إلى موافقة السعوديّة على استخدام مجالها الجوّيّ أمام رحلاتٍ بين تلّ أبيب ونيودلهي - - في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنّ السعودية تتغيّر، وأنّ الطريق نحو التطبيع العلنيّ يبدأ بخطواتٍ صغيرةٍ كهذه، وأنّ هذه الخطوات تعكس استعدادًا "شعبيًّا عربيًّا" لفصلٍ جديدٍ مع "إسرائيل،" ثيماتُه الرئيسةُ هي السلامُ والتعاونُ والازدهارُ والأمنُ والاستقرار، على حدّ ادّعائه.

المثير في هذه المواقف ليس الرسائلَ التطبيعيّةَ والمحفِّزاتِ المذكورةَ فحسب، وإنّما توقيتَها ومصدرَها وجمهورَها المستهدَفَ أيضًا. فقد صدر الموقفُ الإماراتيّ من شخصيّتيْن رسميّتيْن: الأولى سفيرُها لدى الولايات المتّحدة، والثانية وزيرُ خارجيّتها. وهذا لا يدع مجالًا للشكّ في أنّ هذه رسائلُ رسميّةٌ من الدولة الإماراتيّة إلى الولايات المتحدة والعدوّ الإسرائيليّ لتقول لهما: نحن جاهزون لتتويج المسار الذي بدأناه منذ سنوات، ولتوثيقه في اتفاقٍ رسميّ.

لم يكن الثمنَ الحقيقيَّ وقفُ الضمّ، "المؤجَّلِ" أصلًا، بل كان هذا مجرّدَ ورقةٍ يبرِّر بها النظامُ الإماراتيُّ خيارَه، في هذا التوقيت بالذات، أمام الفلسطينيّين والعرب. وجاء التوقيتُ مبرمَجًا، على ما يبدو، كي يلتقطَ جارد كوشنر الرسالةَ، على زعم نيويورك تايمز،[6]ويمضي قُدُمًا في الاتصالات واللقاءات السرّيّة بين جميع الأطراف من أجل إتمام مفاوضاتٍ استمرّت ستّةَ أسابيع، وأنتجتْ ما أسموْه "اتفاق أبراهام." وبالطبع لا ينضج اتفاقٌ كهذا من دون تحضيراتٍ مسبَّقة، ومسارٍ طويلٍ من اللقاءات والتفاهمات وإثباتِ حُسن النوايا، إلى حين قدوم التوقيت المناسب.

وبالإشارة الى المقال ذاته، فقد يعود الاستعدادُ الإماراتيُّ لإبرام اتفاقٍ رسميّ مع دولة الاحتلال إلى العام الماضي. لكنّ أحدَ مستشاري محمد بن زايد نصحه بأن يحصل، في المقابل، على "إنجازٍ" للقضيّة الفلسطينيّة. وبحسب مصادر مختلفة،[7]فقد بدأت العلاقاتُ الإماراتيّةُ مع العدوّ، بشكلٍ تدريجيّ متصاعد، منذ أقلّ من عقديْن بقليل، وتحديدًا إلى العام 2003، حين حضر وفدٌ إسرائيليٌّ برئاسة الوزير مئير شطريت، برفقة محافظ "بنك إسرائيل،" اجتماعًا لصندوق النقد الدوليّ في دُبي. وتوالت في الأعوام اللاحقة اللقاءاتُ والزياراتُ الإسرائيليّةُ إلى الإمارات: تارةً لحضور مؤتمرٍ دوليّ، وتارةً أخرى لعقد صفقاتٍ تجاريّةٍ أو أمنيّةٍ سرّيّة، أو للمشاركة في مسابقةٍ رياضيّة، مثل ما حصل عام 2018 عند مشاركة وفدٍ رياضيّ إسرائيليّ في بطولةٍ دوليّةٍ للجودو في أبو ظبي بحضور وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيليّة ميري ريغيف، التي حظيتْ بترحيبٍ رسميٍّ إماراتيّ حينها؛ ما دفعها إلى التعليق عبر حسابها عبر تويتر بالقول: "صنعنا التاريخ، شعبُ إسرائيل حيّ!"[8] وفي العام ذاته، زار وزيرُ الاتصالات الصهيونيّ الأسبق، أيّوب قرّا، مدينةَ دُبي للمشاركة في مؤتمرٍ للاتصالات. ولحقه وزيرُ الخارجية الأسبق، يسرائيل كاتس، عام 2019 إلى أبو ظبي للمشاركة في مؤتمر المناخ الذي عقدتْه الأممُ المتحدة في الإمارات آنذاك. وخلال العام الماضي والحاليّ، زار رئيسُ الموساد بشكلٍ سرّيّ دولةَ الإمارات عدّةَ مرّات. وخلال انتشار جائحة كورونا، استطاع الموساد الحصولَ على مُعدّاتٍ طبّيّةٍ من الإمارات وصلتْ إلى تلّ أبيب في رحلاتٍ جوّيّةٍ مباشرة.

يمكن الاستنتاج أنّ الإمارات هي التي اختارت مسارَ التطبيع مع العدوّ، وهي التي اختارت أن تموضع نفسَها داخل البيت الأبيض بشكلٍ منفصلٍ عن جارتها السعوديّة وعن دولٍ عربيّةٍ وخليجيّةٍ أخرى. فكأنّها تقول لواشنطن إنّها الدولةُ التي يمكن الاعتمادُ عليها خليجيًّا، وإنّها حليفةُ مشروع استراتيجيّ، لا حليفةٌ تكتيكيّةٌ مؤقّتة.

سارت الإماراتُ نحو تل أبيب وفق رؤيةٍ واضحةِ الملامح، واتّبعتْ خطابًا يشبه بشكلٍ كبيرٍ خطابَ السلطة الفلسطينيّة. بل هي مارست المنطقَ ذاتَه: نختلف سياسيًّا لكنْ ننسِّق أمنيًّا ونتعاون اقتصاديًّا. وما إنْ ظهرتْ أزمةُ نتنياهو السياسيّةُ الداخليّة، بسبب تجميد مشروع قرار الضمّ، حتّى اقتنصت الإماراتُ الفرصةَ كي تخلقَ نقطةَ تحوّل.

 

أسباب التحوّل

أوّلًا، في ظلّ تصاعد الصراع مع إيران وحلفائها في المنطقة، وتعاظُمِ الخوف من ازدياد نفوذها، تلاقت مصالحُ بعض الأنظمة العربيّة، وعلى رأسها السعوديّةُ والإمارات، مع المصالح الإسرائيليّة-الأمريكيّة، لتشكّلَ مجتمعةً تحالفًا ضدّ المحور الإيرانيّ من جهة، وضدّ النفوذ التركيّ-القطريّ وأدواتِه من جهةٍ أخرى. ومن هنا تشكّلتْ رؤيةٌ مشتركةٌ جعلتْ إيرانَ، لا "إسرائيل،" هي العدوَّ المشتركَ والتهديدَ الاستراتيجيَّ الأوّلَ للمنطقة. وبهذا أصبحت القضيّةُ الفلسطينيّة قضيّةً ثانويّةً على المستوى العربيّ، يجب تحييدُها حتّى لا تعكّرَ صفوَ هذا التحالف وأهدافِه المشتركة، المبنيّةِ على الخوف على مصالح أطرافه وبقائها.

ثانيًا، ساهم الضعفُ الفلسطينيُّ الداخليّ - بسبب الانقسامات الفصائليّة وسيطرةِ قيادةٍ وضعتْ مصالحَها الشخصيّةَ فوق مصالح الشعب والقضيّة - في إضعاف الصوت الفلسطينيّ، وفي تراجع مكانةِ القضيّة الفلسطينيّة على الساحات العربيّة والإقليميّة والدوليّة. والحقّ أنّ هذه القيادة فقدت احترامَ شعبها، ومكانتَها التاريخيّةَ والنضاليّة، وأصبح بعضُ أطرافها مجرَّدَ أدواتٍ عند أنظمة الإمارات وقطر والسعوديّة، أو عند العدوّ الإسرائيليّ نفسِه.

 

قد يفتح الاتفاقُ مجالًا للاستثمار في الشركات الإسرائيليّة، وللمزيد من التعاون العسكريّ والأمنيّ

 

ثالثًا، تتمسّك الأنظمةُ العربيّة بوهم "الحماية الأمريكيّة" لها، خوفًا من أيّ تغييراتٍ مفاجئةٍ على الشارع العربيّ تؤدّي إلى تكرار مشهد ثورات الشعوب العربيّة عام 2011. لذا اختارت التقاربَ مع العدوّ الإسرائيليّ، حليفِ الولايات المتحدة الأوّلِ في المنطقة. وهذا التقارب دفع إلى كسر معادلة "الأرض مقابل السلام،" وأحلَّ محلّها معادلاتٍ تختلف، وفق مصلحة كلّ نظامٍ على حِدة.

ففي الخليج عمومًا، وفي الإمارات خصوصًا، تحوّلت المعادلةُ إلى "التطبيع مقابل الحماية" من التحدّيات والمخاوفِ الإقليميّةِ والشعبيّة. أمّا في الحالة السودانيّة، فتحوّلت المعادلةُ إلى "التطبيع مقابل رفع العقوبات الأمريكيّة" عن السودان وشطبِها من لائحة الإرهاب. وأمّا في المغرب، فأصبحت المعادلة "التطبيع مقابل الاعتراف بالسيادة،" أيْ سيادة المغرب على الصحراء المتنازَع عليها.

رابعًا، الوعود بمنفعةٍ اقتصاديّةٍ "مُجْدية" وصفقات سلاحٍ نوعيّةٍ للإمارات. فبحسب تقرير إسرائيلي[9]نُشر على موقع Ctech، ستحظى الشركاتُ الإسرائيليّةُ بفرصٍ كبيرةٍ في السوق الإماراتيّة، إذ تستورد الإماراتُ سِلعًا وخدماتٍ بقيمة 250 مليار دولار سنويًّا تقريبًا، ويعتبر اقتصادُها الأهمَّ في الشرق الأوسط بعد اقتصاد السعوديّة.

وكما أشارت تقارير أخرى،[10]فقد يفتح هذا الاتفاقُ مجالًا لرأس المال الإماراتيّ للاستثمار في الشركات الإسرائيليّة الناشئة في مجال التكنولوجيا المتقدّمة، من دون عوائق. وبالإضافة إلى ذلك، ثمّة توقّعاتٌ بمزيدٍ من التعاون العسكريّ والأمنيّ والتجسّسيّ، ما يفتح البابَ أمام شركات السلاح الإسرائيليّة من أجل إبرام صفقات[11]ضخمةٍ مع الإمارات. وثمّة أيضًا وعودٌ بتسهيل صفقات سلاحٍ نوعيّةٍ مع الولايات المتحدة، مثل صفقة طائرات أف 35 الأمريكيّة. وقد يكون من المبكّر التكهّنُ في سيْر العلاقة العسكريّة الثلاثيّة (الأمريكيّة-الإسرائيليّة-الإماراتيّة)، إلّا أنّ رفضَ نتنياهو السريع بيعَ الطائرات المذكورة إلى الإمارات مؤشِّرٌ واضحٌ على أنّ حكومة الاحتلال ليست مستعدّةً لمقايضة تفوّقها العسكريّ النوعيّ في المنطقة مقابلَ امتيازات التطبيع الإماراتيّ معها.

في أيّ حال، لم تكن السوقُ الإماراتيّةُ مغلقةً أمام الشركات الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة كما أسلفنا. ففي المجال الأمنيّ، كشفتْ مصادر  [12]صحفيّةٌ أنّ شركةً سويسريّة تدعى AGT، يملكها الإسرائيليُّ ماتاي كوشافي، تعاقدتْ سنة 2007 مع حكومة أبو ظبي، ومع شركاتٍ أمنيّةٍ إماراتيّة، من أجل تقديم خدمات أمنيّة لحماية الحدود الإماراتيّة، ومن أجل تقديم حفّاراتِ نفطٍ تعمل في البحر. وتبيّن فيما بعد أنّ هذه الشركة تعاقدتْ من الباطن مع شركة أمنٍ وحمايةٍ إسرائيليّة، تدعى LOGIC، ويملكها كوشافي أيضًا، لتنفيذ العقد، كي تستخدمَ الأخيرةُ خبراءَ أمنٍ صهاينةً وجنرالاتٍ وضبّاطًا سابقين في جيش الاحتلال الإسرائيليّ في هذا الشأن.

بالإضافة إلى ذلك، حصلت الإماراتُ قبل عدّة أعوام من الشركة الإسرائيليّة NSO على نظام التجسّس Pegsus، واستخدمتْه في ملاحقةِ نشطاء حقوقيّين وصحفيّين معارضين للنظام الإماراتيّ في العالم. ومؤخّرًا، وقّعتْ شركتا[13]الأمن الإسرائيليّتان المتخصّصتان في الصناعات العسكريّة وتطوير نُظُم الدفاع والأمن المعلوماتيّ، رافايل و"الشركة الإسرائيليّة لصناعات الفضاء" (IAI)، اتفاقيّةَ تعاونٍ مشتركةً مع الشركة الإماراتيّة Group 42 في مجالَي البحث والتطوير والأمن الصحّيّ ومحاربة وباء كورونا المستجدّ في المنطقة.

الجدير ذكرُه أنّ الشركات الأمنيّة الإسرائيليّة الخاصّةَ ترتبط بعلاقةٍ عضويّةٍ متينةٍ مع المنظومة العسكريّة والاستخباراتيّة في دولة العدوّ. لذا، فإنّ استجلابَ الإمارات للشركات الأمنيّة الإسرائيليّة إلى أراضيها أخطرُ من الاتفاق الأخير، لأنّه يعني إنشاءَ قاعدةٍ أمنيّةٍ إسرائيليّةٍ متقدّمةٍ في الخليج - - وهو ما يُنْذر ببداية مرحلةٍ جديدةٍ للمواجهة.

وقبل عدّة أيّام، كشفتْ مصادرُ صحفيّةٌ خبرَ تعاونٍ استخباراتيٍّ مشترك بين الإمارات والعدوّ الإسرائيليّ بهدف إقامة قاعدة تجسّس في جزيرة سقطرى اليمنيّة، التي تسيطر عليها القوّاتُ الإماراتيّةُ والسعوديّة. لجزيرة سقطرى أهمّيّةٌ كبيرةٌ استراتيجيًّا لكونها نقطةَ التقاء المحيط الهنديّ ببحر العرب على خطّ الملاحة الدوليّة وخطوط تدفّق النفط الخليجيّ. وهذا يعني منحَ الإسرائيليّين قاعدةً متقدّمةً لجمع المعلومات الاستخباراتيّة في المنطقة جميعها، وخصوصًا من باب المندب وجنوب اليمن، إلى جانب خليج عدن والقرن الأفريقيّ.[14]

وبالعودة إلى الحديث عن الجدوى الاقتصاديّة المتوقّعة للإمارات من هذا الاتفاق، فإنّ المشهد الحاليّ يعيد إلى الأذهان الوعودَ الإسرائيليّة المماثلة المقدَّمة إلى كلّ من الأردن ومصر قبيْل توقيعهما معاهدةَ "سلام" مع العدوّ. وهذه الوعود ينطبق عليها المثلُ الشعبيُّ المصريّ "عملولنا من البحر طحينة،" في إشارةٍ إلى أنّ "منفعتها" الاقتصاديّة كانت كاذبةً على ما اتضح لاحقًا. وعن هذا الموضوع، علّقتْ كاتبةٌ أمريكيّةٌ في مقال [15]نُشر مؤخّرًا في واشنطن بوست بالقول: "الفوائد الاقتصاديّة الموعودة لم تتحقّقْ في كثيرٍ من الأحيان. ولا تزال المشاعرُ الشعبيّةُ العامّة المؤيِّدةُ لحقوق الفلسطينيين، والمعاديةُ لإسرائيل والاحتلال، مرتفعةً في الأردن ومصر."

وفي مثالٍ واضحٍ على طبيعة العلاقات الاقتصاديّة الحاليّة، الإسرائيليّة-المصريّة، والإسرائيليّة-الأردنيّة، يكفي أن ننظرَ إلى ملفّ الغاز. إذ سيتدفّق في السنوات الخمس عشرة المقبلة، ومن جيوب المصريّين والأردنيّين، قرابة 30 مليار دولار إلى خزينة دولة الاحتلال ثمنًا لغازٍ فلسطينيٍّ مسروقٍ من حقول الغاز المكتشفة قبالةَ شواطئ فلسطين المحتلّة!

في الحالة المصريّة، كانت مصر قبل العام 2011 تصدّر[16]الغازَ إلى دولة الاحتلال بسعرٍ أقلَّ من سعر التكلفة، ما أدّى إلى خسارة خزينة الدولة المصريّة ما لا يقلّ عن 750 مليون دولار على أقلّ تقدير. وفي مطلع العام الحاليّ بدأتْ مصر تستورد الغازَ من دولة العدوّ وفق اتفاقيّةٍ جديدةٍ تحوم حولها الريبةُ والشكوك: إذ تشتري مصرُ الغازَ بسعرٍ يَفوق سعرَ السوق العالميَّ، بل يفوق بأربعة أضعاف سعرَ الغاز المصريّ وفقًا للاتفاقيّة القديمة. وكما في الحالة المصريّة، يشتري الأردن الغازَ من دولة العدوّ بسعرٍ يفوق سعرَ السوق العالميّ، على ما كشف نص الاتفاق [17]السرّيّ بعد أن برز إلى العلن. وعلى الرغم من الرفض الشعبيّ والبرلمانيّ الأردنيّ العريض لاتفاقيّة الغاز، فقد سرَتْ بارادةٍ سياسيّةٍ رسميّة، لتموِّل خزينةَ الاحتلال من جيوب الأردنيّين بما تبلغ قيمتُه 10 مليارات دولار لمدّة 15 عامًا!

وهذا يعني أنّ الإمارات وضعتْ نفسها في خانةِ مَن سبقها: تبعيةً وارتهانًا وخدماتٍ بالمجّان.

 

التطبيع الإماراتيّ: السُّلَّم والمناعة والدعاية الانتخابيّة

عشراتُ المقالات والدراسات ذكرت المكاسبَ الآنيّةَ والاستراتيجيّةَ الإسرائيليّة والأمريكيّة من هذا الاتفاق. إلّا أنّ هناك غموضًا وشكوكًا في وجود مكاسبَ حقيقيّةٍ للإمارات، تتعدّى الأمنياتِ والرهاناتِ المستقبليّةَ غيرَ المضمونة، لا سياسيًّا ولا استراتيجيًّا ولا عسكريًّا ولا اقتصاديًّا.

- فعلى الصعيد الأمريكيّ، يواجه ترامب معركةً انتخابيّةً رئاسيّةً شرسةً ضدّ منافسه الديمقراطيّ جو بايدن، وسط استطلاعات رأي[18]ترجِّح فوزَ الأخير. وفي غياب إنجازٍ دبلوماسيٍّ حقيقيّ لترامب يواجه فيه منافسَه ومنتقديه بسبب فشله الذريع في الملفّات الدبلوماسيّة الحسّاسة (مثل الملفّ الإيرانيّ والملفّ الصينيّ والملفّ الكوريّ والملفّ الفلسطينيّ)، فقد تطوّعت الإماراتُ لتكون الدعايةَ الانتخابيّةَ الأبرزَ للجمهوريّين. وبالفعل، جرى ترويجُ "اتفاق ابراهام" على أنه اتفاق تاريخيّ صنعه ترامب بدبلوماسيّته المحنّكة.

- أمّا على الصعيد الإسرائيليّ، فقد تعرّض نتنياهو للانتقاد بسبب فشله في تنفيذ خطّة الضمّ المُعلن عنها، وكان في حاجةٍ إلى مَخرج لأزمته، فكانت الإماراتُ عبارةً عن "السُّلَّم" الذي نزل عليه من شجرة الضمّ. ثمّ إنّه واجه احتجاجاتٍ شعبيّةً ضخمةً تطالبه بالتنحّي عن منصبه نتيجةً لفشل حكومته في إدارة الملفّيْن الاقتصاديّ والصحّيّ في ظلّ انتشار وباء كورونا المستجدّ. كما علت أصواتٌ مطالبةً بمحاكمته على قضايا فسادٍ كُشف تورّطُه فيها سابقًا. وفي ظلّ هذه الأزمة الداخليّة المتدحرجة، عرضت الإماراتُ نفسَها "عُقارًا" يُكْسِب نتنياهو "مناعةً" ولو مؤقّتةً من انتشار "فايروس" الاحتجاجات ضدّه، ومِن تآكُل صدقيّته وقوّته أمام مؤيّديه ومعارضيه على حدٍّ سواء.

 

الخاتمة

ذهبت الإماراتُ إلى خيار الاصطفاف خلف العدوّ الصهيونيّ، ولجأتْ إلى الحماية الأمريكيّة-الإسرائيليّة خشيةً من خطرٍ يهدِّدها مع تصاعد النفوذ الإيرانيّ في المنطقة الخليجيّة. وراهنتْ على البيت الأبيض ونجمةِ داوود ونتائجِ انتخابات نوفمبر، فشرعتْ لـ "التنسيق المقدَّس" بابًا، وأغلقتْ لها في بيت المَقْدس بابًا.

والحال أنّ التطبيعَ لن يزيدَها حمايةً، ولن تزيدَها "إسرائيلُ" أمنًا. ومَن راهن على الأنظمة وطُغاتِها، فإنّ الأنظمة تشيخ وتموت. وأمّا مَن راهن على الشعوب وبقائها، فإنّ الشعوبَ حيّةٌ لا تموت.

 

فلسطين المحتلّة

 


[3]المصدر السابق.

زيد الشعيبي

باحث مُستقلّ من فلسطين، ومنسِّقٌ سابقٌ لحركة مقاطعة "إسرائيل" في الوطن العربيّ.