التعليم في زمن الكورونا
29-10-2020

 

 

في الوقت الذي يصارع فيه العالمُ مشكلةَ الكورونا وانعكاساتِها على مختلف الميادين، تبدو هذه المشكلةُ في لبنان ثانويّةً قياسًا بمشاكله الأخرى المتجذّرة منذ عشرات السنوات.

ليس مستقبلُ التربية وحده غامضًا، بل يبدو مستقبلُ الدولة اللبنانيّة برمّته ضبابيًّا. فعشراتُ المشاكل المختلفة تهدِّد أمنَ المجتمع اللبنانيّ وحياةَ أبنائه وبناته: من السياسة، إلى الاقتصاد، مرورًا بالكهرباء، والماء، والبنزين، والدواء، والبطالة، والهجرة؛ إضافةً الى حوادث العنف والانتحار والسلاح المتفلّت الذي يحصد بشكلٍ شبهِ يوميّ الكثيرَ من الارواح، ناهيكم بتحرّكات الشارع التي باتت ثقافةً لبنانيّةً شبه يوميّةً.

يُسهم التعليمُ في تحفيز عقول الناس، وزيادةِ قدرتهم على استيعابِ ما هو حديث. لكنّ نجاحَه يعتمد - خصوصًا في المراحل الأولى التي تصقل شخصيّةَ المتعلّم - على السياسة التربويّة، وعلى مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة، وتحديدًا المدرسة والعائلة.

تَفترض عمليّةُ التعلّم الدعمَ الرسميَّ الكامل، سواء في الأيّام العاديّة أو في زمن الكورونا. وتُثمر هذه العمليّةُ في ظلّ المبادرة الفرديّة، وقناعةِ المتعلّم بأهميّة التعليم وضرورةِ الالتزام به. لذا سنبحث هنا في واقع السياسة التربويّة في لبنان، وتأثيرِ المدرسة والعائلة في تعزيز ثقافة التعلّم لدى الناشئة في المراحل التعلّميّة الأولى ما قبل الجامعيّة، خصوصًا أنّ ظاهرةَ الكورونا وضعتْنا في إطار إشكاليّةٍ مركّبةٍ تستدعي الإحاطةَ بهذا الواقع المستجدّ.

 

1 - السياسة الاجتماعيّة التربويّة

شهد التعليمُ الرسميّ طفرةً من النموّ استمرّت حتى قُبيْل الحرب الأهليّة سنة 1975. بَيْد أنّ أكثرَ المدارس، ولا سيّما المدارس البعيدة من المدن، كانت تشكو من الحاجة إلى المعلّمين. وكانت تلك الطفرةُ من ثمار السياسة الشهابيّة، آخذةً بتوصيات بعثة إيرْفِد.[1] ومع أنّ هدفَ السياسة الشهابيّة وهذه البعثة كان تحقيقَ العدالة الاجتماعيّة في مختلف المجالات، ولا سيّما التعليم، فإنّ مجريات الأمور التعليميّة لا تشير إلى تحقيق هذا الهدف بالكامل.

تتمحور أطرُ السياسة التربويّة في لبنان حول مجموعةٍ من المبادئ،[2] منها:

أ ‌- التركيزُ على أنّ تربيةَ الطفل مسؤوليّةٌ مشتركةٌ بين الأسرة والمجتمع والدولة.

ب‌ - تعزيزُ التعليم الرسميّ من خلال تأمين إدارة تربويّة متطوّرة تتمتّع بالديناميّة والمرونة، وتقوم على مركزيّة التخطيط العامّ والمتابعة من قِبل الوزارات المعنيّة، وعلى اللامركزيّة في التنفيذ والتقويم من جانب كلِّ وزارة.

ج - حمايةُ التعليم الخاصّ، وتعزيز رقابة الدولة على المدارس الخاصّة.

د - تطويرُ المناهج التعليميّة.

ه - تعزيزُ مهنة التعليم، وإنصافُ المعلِّم مادّيًّا ومعنويًّا، ومراقبتُه، وإرشادُه، بما يكفل رفعَ مستوى عطائه التربويّ.

و - الإفادةُ من التلفزيون والإذاعة، ومن الكمبيوتر التعليميّ في المدرسة، ووضعُها جميعها في خدمة التعليم.

بالعودة إلى البند الأوّل، يبدو أنّ المتعلّم في زمن الكورونا يكاد يكون مسؤوليّةَ الأهل وحدهم، في مقابل الأزمات التي تعيشها وزارةُ التربية (نزوح من الخاصّ إلى الرسميّ، عدم وجود أجهزة كمبيوتر لجميع التلاميذ، ضعف في شبكة الإنترنت، انقطاع الكهرباء،...)، وأزماتِ المدارس الخاصّة (أزمات مادّيّة، أزمات صرف معلّمين،...)، وأزماتِ المدارس الرسميّة (العجز عن استيعاب الكمّ الكبير من التلاميذ في مناطقَ كثيرة، عدد كبير من المتعاقدين، تفاوت في مستوى هذه المدارس نفسها تبعًا لموازنتها وموقعها الجغرافيّ،...).

 

آخر عمليّة لتطوير المناهج كانت مع خطّة النهوض التربويّ سنة 1997

 

أمّا بالنسبة إلى "تعزيز التعليم الرسميّ،" فلم يتحوّلْ إلى حقيقة. وحالةُ هذا التعليم لا تختلف عن حالات المؤسّسات الرسميّة التي تنتظر التطوّرَ والحداثة. ناهيك بأنّ آخر عمليّة لتطوير المناهج كانت مع خطّة النهوض التربويّ سنة 1997.

وأمّا عمليّة "إنصاف المعلِّم مادّيًّا ومعنويًّا،" فقد باتت من الماضي في ظلّ تراجعِ العملة اللبنانيّة، وازديادِ الغلاء الفاحش، وتراجعِ الإقبال على مهنة التعليم التي لم تعد معيارًا للهيبة الاجتماعيّة ولم تعد تستقطب الشبابَ؛ فبات التعليمُ "مهنةَ مَن لا مهنةَ له،" خصوصًا أنّ بدعةَ "التعاقد" أضحت ظاهرةً ملازمةً للتعليم الرسميّ، وهدفًا للكثير من الخرّيجين الجامعيّين الباحثين عن فرصة عملٍ دائمةٍ أو مؤقّتة.

كما أنّ "الإفادة من التلفزيون والإذاعة ومن الكمبيوتر التعليميّ" لم تُستثمرْ بالشكل الكافي في الأعوام الماضية. وكذلك الأمرُ بالنسبة إلى تعزيز دور الإعلام التربويّ.

وفي المقابل، فإنّ "حمايةَ التعليم الخاصّ" لا زالت مستمرّةً. فمجلس الوزراء أقرّ دفعَ مبلغ 500 مليار ليرة، منها 350 للمدارس الخاصّة غير المجّانيّة، و150 للمدارس الرسميّة، ما يساهم في التخفيف عن كاهل الأهالي وتأمين حقوق الأساتذة والإداريّين، بحسب ما ورد في مقرّرات جلسة مجلس الوزراء في حزيران 2020.[3]

كيف هو الواقعُ اليوم؟

شهد العامُ الدراسيّ الماضي (2019-2020) أزماتٍ متعدّدةً بدأتْ بتحرّكات 17 تشرين الأوّل 2019، واستمرّت مع إغلاق المدارس في نهاية شباط 2020. واذا كان التعليم عملًا تراكميًّا، فإنّه يحتاج إلى المزيد من العناية للتعويض ممّا فات المتعلّمين في العام المنصرم؛ ناهيكم بالمشاكل المتوارثة على الصعيد التعلّميّ في لبنان. غير أنّ البداية لا تبشّر بعامٍ دراسيٍّ طبيعيٍّ ومثمر.

فقراراتُ وزارة التربية حاليًّا ترتبط بتطوّر أرقام الكورونا وانتشارها في غير منطقةٍ من لبنان. والانطلاقةُ الموعودة للعام الدراسيّ 2020-2021 تأجّلتْ من 28 أيلول إلى 12 تشرين الأوّل 2020، لكنّها اصطدمتْ بإغلاق بعض المناطق بسبب انتشار الكورونا (وما يستتبعه من إغلاق المدارس الواقعة ضمنها). ومع هذا بدأ "التعليمُ المدمَج" (حضوريًّا وعن بُعد) لصفوف البريفيه والثانويّة العامّة، بفروعها في التعليميْن الرسميّ والخاصّ، مع فروقٍ بسيطةٍ في التواريخ، بانتظار دخول جميع المتعلّمين وانتظامِهم مع أوائل تشرين الثاني 2020.

هذا في السياسة التربويّة العامّة، وفي انطلاقة العام الدراسيّ الحاليّ. فماذا عن المدرسة اللبنانيّة؟

 

2 - المدرسة

تعاني المدرسة الرسميّة مشاكلَ عديدةً، أهمُّها أنّ مهنةَ التعليم لم تعد هدفًا للشباب أو للنخب العلميّة، إذ فقدتْ - رويدًا رويدًا - قيمتَها الاجتماعيّة، ولاحقًا قيمتَها المادّيّة. يضاف إلى ذلك غيابُ دُور المعلّمين، وعدمُ اعتماد كلّيّة التربية ممرًّا أساسًا للمشاركة في امتحانات التثبيت في "مجلس الخدمة المدنيّة،" وعدمُ رفد التعليم بشكل ٍدوْريّ بأساتذةِ مَلاك. وإذا كان صحيحًا أنّ المدرسة الرسميّة تحتضن عددًا كبيرًا من الأساتذة المتميِّزين (والكثيرُ منهم يُعوَّل عليهم في المدارس الخاصّة)، فإنّ المشكلة الكبرى في التعليم الرسميّ هي في المدارس الابتدائيّة التي يَعتمد كثيرٌ منها - خصوصًا في المناطق البعيدة عن العاصمة - على المتعاقدين. والمتعاقِد يدخل إلى التعليم من دون أيّ تدريبٍ فعليّ، وعينُه على فُرص أخرى للعمل؛ إذا تحقّقتْ خرج من التعليم. وهذا يُحدث إرباكًا، ويستتبع إدخالَ متعاقدٍ جديدٍ بدلًا عنه. وتكرّ السلسلة. والأهمّ هو أثرُ هذه التغيّرات في شخصيّة المتعلّم ومسارِ تعلّمه.

أمّا التعليم الخاصّ، الذي بدأ في لبنان قبل التعليم الرسميّ بوقتٍ طويل، فهو يحتضن أكثريّةَ متعلّمي لبنان، وبخاصّةٍ في المراحل الأساسيّة ما قبل الجامعيّة. وتُشكِّل المدارسُ الخاصّة، وتحديدًا الكاثوليكيّة، قوّةَ ضغطٍ في الدوائر الرسميّة لتعزيز مصالح تلك المدارس، ولو على حساب التعليم الرسميّ، الذي لم يرتقِ إلى مستوى التعليم الخاصّ.[4]

ويبيّن الجدولُ أدناه،[5]المأخوذ عن الدوليّة للمعلومات، نسبةَ المتعلّمين في المدارس الرسميّة بين العاميْن 1966-2019، وهي لم تتجاوزْ 42% في أحسن الأحوال في فترات بداية الحرب الأهليّة؛ أيْ إنّ أكثرَ من نصف طلّاب لبنان يتعلّمون في المدارس الخاصّة، المجّانيّة وغير المجّانيّة.

 

 

هذه النِّسب العالية للتلاميذ في المدارس الخاصّة تستتبع الإطلالةَ على أزماتٍ كثيرةٍ تعانيها هذه المدارسُ اليوم، وتؤثّر في عمليّة التعليم:

أ - اضطُرّت معظمُ هذه المدارس إلى حسم بعض (أو كلّ) القسط الثالث للعام الدراسيّ 2019-2020؛ أوّلًا بسبب إقفالها ابتداءً من مطلع آذار، وثانيًا بسبب ضغطِ الأهالي العاجزين عن تسديد الأقساط، وثالثًا لأنّ الأهالي غيرُ مقتنعين بدفع الأقساط مقابلَ عمليّة "تعلّم عن بُعد" - وهي عمليّةٌ كانت تمشي بخطًى متثاقلةٍ بسبب فجائيّة الوضع، وعجزِِ المدارس والأساتذة والتلاميذ والأهل عن التكيّفِ السريع مع المستجدّات التكنولوجيّة.

ب - مع نهاية العام الدراسيّ 2019-2020 قلّصتْ مدارسُ خاصّةٌ عددَ أساتذتها، وبخاصّةٍ المتعاقدون،[6] بسبب أزمتها المادّيّة، ولتراجع عددِ التلاميذ فيها. لكنّ هذا الأمر استتبع تكليفَ المعلّمين في ملاك المدارس الخاصّة تعليمَ موادَّ لا يدخل جميعُها في اختصاصه (أستاذ تاريخ مثلًا يعلّم التاريخ والجغرافيا والتربية معًا)؛ ما خفّف من الأعباء المادّيّة عن كاهل المدرسة، لكنّه أثّر سلبًا في نوعيّة التعليم في هذه المدارس، وفي استجابة المتعلّم.

ج - لا يمكن تصنيفُ جميع المدارس الخاصّة في الخانة نفسها: فمنها المجّانيّ وغيرُ المجّانيّ، ومنها الحديثُ والعريق، ومنها ما يحتضن آلافَ التلاميذ أو لا يتجاوز المئة. لذا لا يمكن أن تتصدّى جميعُها للأزمة التربويّة بالطريقة ذاتها، ولن تكون تبعاتُ الأزمة عليها هي نفسَها. صحيح أنّ بعضَها استمرّ وقاوم ولم يصرفْ أيَّ أستاذٍ وحافظ على استمراريّة الرواتب، إلّا أنّ مدارسَ خاصةً أخرى أغلقتْ أبوابَها في نهاية العام الدراسيّ 2019-2020، أو صرفت الكثيرَ من المدرِّسين، أو قلّصت الرواتبَ أو أوقفتْها. وما يؤكّد أزمةَ بعض هذه المدارس ما صرّح به نقيبُ أصحاب المدارس الخاصّة الإفراديّة، وجيه متّى:

"التعليم عن بُعد ما بيمشي حالو. وهناك قرارات غير طبيعيّة وليست صحيحة. وقرار العودة حضوريًّا يجب أن تأخذه وزارةُ التربية، لأنّنا كمدارس لا يمْكننا تحمّلُ هذه المسؤوليّة. إنّ هذه السنة هي الأصعب، لأنّ التعليم online غير متوفّر للجميع، وهناك مشاكل كبيرة في هذا الخصوص."[7]

 

الكورونا والتكنولوجيا

لم تدخل التكنولوجيا بشكلٍ كاملٍ إلى المدارس اللبنانيّة في السنوات الماضية. وعلينا الاعتراف، كأساتذة وأهل، بأنّ المتعلّمين قد سبقونا بأشواطٍ في هذا المجال، وأنّنا كثيرًا ما نلجأ إليهم ليساعدونا في حلّ مشاكلنا التكنولوجيّة.

فاجأت الكورونا لبنانَ كما كلّ العالم، وأجبرتْه على التوقّف عن التعليم بشكلٍ شبهِ كلّيّ. وقد قدّرتْ اليونسكو عددَ الطلاب المنقطعين عن الدراسة بسبب تداعيات كورونا بنحو 420 مليون طالب.[8]ووفق إحصاء المنظّمة نفسها، فقد أعلن 61 بلدًا إغلاقَ المدارس والجامعات جزئيًّا أو كلّيًّا. وخصّصت البلدانُ المتضرّرة من الفايروس منصّاتٍ وأدواتٍ للتعلّم عن بُعدٍ بهدف التعامل مع هذا الوضع.

في لبنان لجأتْ وزارةُ التربية إلى خطّة التعلّم عن بُعد عبر مجموعة استراتيجيّاتٍ سمحتْ للمتعلّمين خلال العام الدراسيّ 2019-2020 بالاختيار بين: أ) التعلّم عبر المنصّات الإلكترونيّة التي قدّمتْها شركة مايكروسوفت (Microsoft Teams)، أو ب) متابعة البرامج التعليميّة عبر تلفزيون لبنان، وقد أعدّتها وزارةُ التربية بالاشتراك مع المركز التربويّ للبحوث والإنماء، أو ج) إيصال نسخة ورقيّة من المحتوى التعليميّ عبر مديري المدارس إلى التلامذة، على أن تعادَ إلى المعلِّمين لوضع ملاحظاتهم عليها.[9] هذا التعدّد في الاختيارات لم يُفضِ إلى النتائج المرجوّة في التعليم الرسميّ، ورحل العامُ الدراسيّ 2019-2020 بخيباتٍ تعليميّةٍ قاسية.

في مجالٍ آخر، يبدو أنّ الاستراتيجيّات التي يستخدمها مزوِّدو التعليم الرسميّ أو الخاصّ تشمل مجموعةً كاملةً من الأشياء: إرسال المحتوى عبر الواتساب، واستخدام الإصدار المجّانيّ من زووم لعقد 40 دقيقةً دراسيّة، وإرسال القراءات والمهامّ الموصَى بها عبر البريد الإلكترونيّ ونقل المحتوى إلى نظام إدارة التعلّم المناسب (لمن هم أكثرُ حظًّا). وكما هو متوقّع، فإنّ قدرات المتعلّمين على الإنترنت غيرُ متكافئة.[10] وهذا ما يكرّس التفاوتَ الاجتماعيّ، والتفاوتَ في فرص التعلّم والترقّي الاجتماعيّ للمتعلّمين، ومن ثمّ فرص الحياة ككلّ.

نقطة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها، سواء في التعليم الرسميّ أو الخاصّ: بسبب صعوبة الأزمة، هناك شرائحُ أُخرى لم تكن مساعدتُها ممكنةً، مثل ذوي الصعوبات التعلّميّة أو الحاجات الخاصّة. ولم يكن ممكنًا أيضًا تحقيقُ التعليم المتمايز. ناهيك بالحاجة إلى الدعم النفسيّ-الاجتماعيّ لجميع المتعلّمين والمعلِّمين قبل الانتقال إلى المضمون العلميّ- المعرفيّ.

في ظلّ هذا كلّه، كيف تعامل أهالي المتعلّمين مع هذه الظاهرة التي فُرضتْ عليهم بقوّة الأمر الواقع؟

 

3 - الأهل

انتهى العامُ الدراسيّ 2019-2020 حضوريًّا مع نهاية شباط، وبشكلٍ غير متوقّع، بسبب تعقيدات الكورونا وإقفالِ المدارس. لم تنجحْ عمليّةُ التعلّم عن بُعد في أغلب المدارس، الرسميّةِ والخاصّة، ولم تتحقّق الكفاياتُ المستهدَفة. والمدارس التي نجحتْ إلى حدٍّ ما في هذا التعلّم استَهدفتْ بالدرجة الأولى التركيزَ على الأهداف المحقَّقة قبل الكورونا، والإطلالةَ على باقي المنهج ولو بشكلٍ عامّ.

التحضيرات اللوجيستيّة (الحواسيب للأولاد، الكهرباء، الإنترنت،...) لم تتأمّنْ في الوقت المناسب إلّا لقلّةٍ قليلةٍ من المدارس والأهل. ومع أنّ الإقفالَ التامّ لجميع المرافق في المرحلة الأولى من الكورونا (آذار 2019) ساهم في بقاء الأهل والأولاد معًا في المنزل، فإنّ تجربةَ التعلّم عن بُعد في المدارس التي استطاعت تطبيقَ هذه التقنيّة لم تنجح على الرغم من مواكبة الأهل، وذلك لمجموعة أسبابٍ، أبرزُها: جدّةُ التجربة، والحاجةُ إلى أكثر من كمبيوتر في المنزل، وسوءُ الانترنت، وانقطاعُ الكهرباء، وضعفُ متابعة الأهل لأولادهم (وبخاصّةٍ الصغار).

أيضًا، لا يمكن التطرّقُ إلى موضوع تعليم الأولاد في زمن الكورونا من دون اعتبار ثلاثة معايير أساسيّة ترتبط بالأهل:

أ - مستواهم التعليميّ. يقول د. عدنان الأمين: "إنّ فروقات النجاح المدرسيّ لأطفالٍ متساوين في وضعهم الاقتصاديّ ترتبط بالمستوى الثقافيّ للأهل أكثرَ ممّا ترتبط بالمستوى الاقتصاديّ لدى أطفالٍ متساوين في تنشئتهم... وفي لبنان بيّنتْ مختلفُ الدراسات أهميّةَ تأثير مستوى شهادات الأهل على دراسة الأبناء."[11] وفي دراسةٍ قام بها المركزُ التربويُّ للبحوث والإنماء[12] في لبنان، نجد مؤشِّراتٍ في مسار عمليّة تعلّم التلامذة كي يحقّقوا النجاحَ، ويمكن حصرُها في خمسةٍ احتلّت صدارةَ اللائحة، وجاء "التحصيلُ العلميُّ للوالديْن" في المركز الثالث.

 

هذا عدا عن المستوى التكنولوجيّ للأهل (وبالأخصّ لجهة الاهتمام بصغار السنّ) لأنّه يرتبط هو أيضًا بإدارة التعليم عن بُعد، وبمساعدة الأولاد في تواصلهم التعلّمي مع المدرسة والأساتذة.

ب - مستواهم الاقتصاديّ. يلجأ العديدُ من الأهل إلى الاستعانة بمعلّمين خصوصيّين لتعليم أولادهم. والحال أنّ التعلّم عن بُعد صعّب المتابعةَ، خصوصًا أنّ تراجعَ قيمة الليرة اللبنانيّة غيّر معادلةَ البدل المادّيّ للتعليم الخصوصيّ (الحاجة إلى معلّمٍ يتقن اختصاصَه والتكنولوجيا معًا)، فلم يعد في وسع الكثير من الأهل الاستعانةُ بمن يساعدهم في هذا المجال. كما أنّ الأزمة الاقتصاديّة التي يعيشها معظمُ الأهل أصبحتْ عائقًا رئيسًا أمام شراء عدد من الكمبيوترات (لكلّ ولدٍ كمبيوتر أو Tablet)؛ ناهيكم بارتفاع أسعار الكتب والقرطاسيّة. وكلّ ذلك رافق أزمةَ البنزين والكهرباء والإنترنت، وهو ثلاثيٌّ ضروريٌّ لانتقال الأولاد الى المدارس أو لتعلّمهم عن بُعد.

ج - عمل الأهل/الأمّ. بدأتْ مدارسُ خاصّةٌ عديدةٌ سنتَها الدراسيّة الحاليّة 2020-2021 بتطبيق التعلّم عن بُعد على جميع تلاميذها. وإذا اعتبرنا أنّ التلاميذ في أعمارٍ معيّنة (كالمرحلة الثانويّة) قادرون على إدارة برامج الكمبيوتر والتواصل مع أساتذتهم والقيام بواجباتهم، فماذا عن الأطفال غير القادرين على التعامل مع البرامج المطلوبة، أو هم في أعمارٍ تحتاج إلى متابعة الأهل؟ ماذا عن تعدّد الأولاد داخل العائلة الواحدة، مع ما يستتبع ذلك من أزمة متابعةٍ مستمرّةٍ للتعلّم عن بُعد، وأزمة كمبيوتر أو أكثر ضمن العائلة الواحدة، وأزمة الأمّ العاملة التي لا تستطيع أن تواكبَ أولادَها خلال عمليّة التعلّم ولا تستطيع أن تستعينَ بمن يكون معهم خلال غيابها؟

هذه العناصر جميعًا لا يمكن إلّا ان نضعَها في حسابنا قبل الإطلالة على مبدأ أساس في عمليّة التعليم في زمن الكورونا وفي كلّ زمن، ألا وهو قيمةُ التعليم نفسه.

 

3 - النظرة إلى التعليم

يبقى العنصرُ الأهمُّ في عملية التعليم، وهو نظرةُ المتعلِّمين إلى التعليم. فلطالما اعتبر هؤلاء المدرسةَ سجنًا، وقصاصًا، وممرًّا مُلزِمًا عليهم عبورُهم قبل الانتقال إلى مرحلة الرشد. وهناك مجموعةُ عوامل تلعب دورًا في هذا المجال:

أ - العوامل الموضوعيّة. يتّفق كثير من اللبنانيّين على أهمّيّة تعليم أولادهم، مهما كان الضغطُ الاقتصاديّ. ونظرًا إلى الترابط الوثيق بين مستوى الإنسان التربويّ وقدرتِه على العمل أو الإنتاج، فإنّ الاستثمار في الإنسان أثبت أنّه الأرجحُ والأجدى. ولبنان كان مدرسةَ الشرق الأوسط وجامعتَه، وقدّم الكثيرَ من الأساتذة والأطبّاء والمهندسين والمحامين والشعراء...[13] كما قدّمت المدرسةُ اللبنانيّة (الرسميّة والخاصّة) الكثيرَ من النخب العلميّة والثقافيّة التي ساهمتْ في رفد المؤسّسات الرسميّة والخاصّة ضمن المجتمع اللبنانيّ.

ب - العوامل الذاتيّة. يحتاج التعليمُ إلى أكثر من مدرسةٍ وأستاذٍ ومتعلّم: إنّه يحتاج إلى إرادةٍ ورغبةٍ في التعلّم من جانب المتعلِّم، وإلى شغفٍ وعطاءٍ من جانب الأستاذ، وإلى مدرسةٍ تُحوِّل ملاعبَها وغرفَها الى مكانٍ للفرح وبيئةٍ صديقةٍ للمتعلِّمين. لكنْ في لبنان، بقيت المدرسةُ بيئةً طاردةً للأولاد إلى حدٍّ بعيد، فراحوا يتعاملون معها وكأنّها واجبٌ مفروضٌ لا خيار فيه.

الكثير من متعلّمينا يفتقدون مفهومَ "اللاشعور المعرفيّ"[14] (بحسب عالم النفس جان بياجيه)، وهو عبارةٌ عن طاقةٍ نفسيّةٍ قوامُها الرغباتُ والمكبوتات، وموجَّهةٌ نحو موضوعٍ معين، ألا وهو التعليم في سياق بحثنا هذا.

خلال عملي منسّقةً لمادّة علم الاجتماع في الإرشاد والتوجيه-وزارة التربية منذ العام 2005، ومشاركةً في العديد من المشاريع المشتركة بين الوزارة ومؤسّساتٍ محلّيّة ودوليّة (اليونيسيف، UNDP، الحركة الاجتماعيّة، جمعيّة مسار،...)، ومقرِّرةً لمادّة علم الاجتماع في الامتحانات الرسميّة (2005-2017)، بالإضافة إلى عملي خلال هذه السنوات في غير مدرسةٍ خاصّةٍ ضمن مهمّاتٍ تتطلّب التواصلَ مع أساتذة المادّة والتنقّل بين المدارس والثانويّات، تعمّدتُ دائمًا أن أسأل التلاميذ (بعيدًا عن الإدارة والأساتذة) عن مدى محبّتهم للمدرسة. معظمُ الإجابات كانت بالنفي، وبعضُها ربط سعادةَ الطالب في المدرسة بلقاء رفاقِه فيها.

غالبيّة المتعلّمين تنفر من التعليم أصلًا، فما بالنا بعمليّة التعلّم عن بُعد، وهي التي تفترض مشاركةَ المتعلّم، خصوصًا في المرحلة العمريّة التي لا تتطلّب مساعدةَ الاهل، والمتعلّم يجلس وحيدًا في مواجهة شاشة الكمبيوتر؟

هذا الأمر يذكّرنا بقصصٍ غريبة قام به الكثيرُ من المتعلّمين. ولعلّ صورةَ الطالب "أمير" وهو يستحمّ أمام شاشة الكمبيوتر خلال قيام المعلّمة بالشرح، وزملاؤه غارقون في الضحك، كانت دليلًا على العلاقة السلبيّة بين بعض الطلّاب والعمليّةِ التعلّميّةِ برمّتها.

 

 

التعليم في زمن الكورونا

 

خلاصة

يجب علينا أوّلًا أن نعترف بأنّ الكورونا أبرزتْ أهمّيّةَ التكنولوجيا في حياتنا.

كما أكّدتْ أنّ عمليّةَ التعليم في لبنان بحاجة إلى إعادة نظر، وأنّ آخرَ المناهج التي أطلّت مع خطّة النهوض التربويّ عام 1997 (وأدرجت الكمبيوتر التعليميَّ في أطرها)، وكان من المفروض أن تخضع للتعديل كلَّ أربع سنوات، بحاجةٍ هي أيضًا إلى إعادة نظر.

واذا كانت فكرةُ التعليم ملزمةً وضروريّةً للأولاد، فإنّ مقاربتَها المعتمَدَة حاليًّا - سواء في زمن الكورونا أو قبله - لا تُنتج متعلّمًا مبادرًا محبًّا لعمليّة التعلّم. والحال أنّ الرغبة في التعليم هي نصفُ الطريق إلى التعلّم الفعليّ، وغيابَها يعوِّق إنتاجَ متعلّمٍ قادرٍ على مقاربة الأمور بمنهجيّة علميّة، وعلى التعامل بموضوعيّةٍ مع مشكلات مجتمعه ووطنه.

إنّ بناءَ المتعلّم-المواطن ينطلق من الطفولة، ويتعزّز خلال المراحل التعليميّة. أولادُنا اليوم تنغرس داخل أذهانهم الفتيّة أفكارٌ متناقضةٌ حول التعليم، ويستمعون يوميًّا الى كمٍّ كبيرٍ من النقد للممارسات التربويّة السائدة في المجتمع اللبنانيّ، وللقرارات المتعارضة أحيانًا ما بين الوزارات اللبنانيّة نفسها خلال عمليّة التصدّي للكورونا؛ وهو ما يعزِّز نفورَهم من التعليم.

الكورونا مستمرّة، وانعكاساتُها مستمرّة. وكلُّ ما ندرجه اليوم يعتمد على مشاهداتنا وتجاربنا الآنيّة. فإذا كانت الكورونا تتشابه مع الانفلونزا الإسبانيّة غداة الحرب العالميّة الأولى، ويمكن الانتفاعُ بمبدأ المقارنة في هذا المجال الصحّيّ، فإنّ الواقع التربويّ لا يمكن أن يَنتفع بهذا المبدأ بسبب التغيّرات الكبيرة في عالم التربية منذ ذلك الوقت.

ختامًا، إذا لم نحسن التعاملَ مع أزمة الكورونا، فلن ننجحَ في تعليم أولادنا يومًا كيف يتعاملون مع الحياة والمجتمع والوطن. والسؤال الأخير: هل سيكون التعليمُ بعد الكورونا قادرًا على تجهيز المتعلِّم للدخول إلى زمنٍ تروِّج له المراكزُ التكنولوجيةُ العالميّة، وتسعى فيه القوى الحاكمةُ في العالم إلى برمجة البشر وربطِهم بالتكنولوجيا المتقدّمة التي تسعى إليها؟

طرابلس

 


[1]- د. حسن إسماعيل، "التعليم الرسميّ في لبنان: الهرم يقف على رأسه،" 6 حزيران 2020، http://wftufise.org//بحث-في-التعليم-في-لبنان

[2]- نقلًا عن موقع وزارة التربية: https://www.mehe.gov.lb/ar/about-the-ministry/mission/PolicyFrameworks

[3]- تصريح لوزير التربية طارق المجذوب، بوّابة التربية، الموقع الالكترونيّ، 30 حزيران 2020 http://tarbiagate.com/المجذوب-تخصيص-500-مليار-ليرة-للمدارس-الر/

[4]- رولا بردقان، "هل يأخذ التعليم الخاصّ في لبنان مكانتَه الطبيعيّة؟،" مجلّة الآداب، 17-9-2020 .

http://www.al-adab.com/article/هل-يأخذ-التعليمُ-الخاصّ-في-لبنان-مكانتَه-الطبيعية؟fbclid=IwAR2YONtDp-rVUYvZHsMVePD4U6DN02T2B73jpueTrhgcuUyHT8s1WbMaWn8

[5] - عدنان الأمين، التعليم في لبنان (بيروت: دار الجديد، 1994)؛ والنشرة الإحصائيّة الصادرة عن المركز التربويّ للبحوث والإنماء.

[6]- تستعين المدارسُ الخاصة، ولا سيّما في المرحلة الثانويّة، بالكثير من أساتذة التعليم الرسميّ. والقانون يسمح لأستاذ التعليم الثانويّ الرسميّ بالتعليم 10 ساعات أسبوعيًّا في التعليم الخاصّ في لبنان.

[7]- الوكالة الوطنيّة للإعلام، 5 تشرين الأوّل 2020.

[9]- الموقع الرسميّ لوزارة التربية والتعليم العالي في لبنان.

[10]- مي وزّان، "عندما يكون الحلُّ الوحيد هو التعلّم الإلكترونيّ: ما هو وضعُ لبنان؟،" الفنار للإعلام، 2 نيسان.2020 https://www.al-fanarmedia.org/التعليم-الإلكتروني-في-عصر-كورونا

[11] عدنان الأمين، اللاتجانس الاجتماعيّ: سوسيولوجيا الفرص الدراسيّة في العالم العربي (بيروت، 1993)، نقلًا عن كتاب التفاوت والسياسات الاجتماعيّة، فرع الاجتماع والاقتصاد (المركز التربوي للبحوث والإنماء).

[12]- د. زهير حطب (إعداد)، دراسة منشورة على موقع المركز التربويّ للبحوث والانماء، سنة النشر غير مذكورة.

[13]- جورج طرابلسي، "لبنان مدرسة الشرق وجامعته،" تشرين الأوّل 2014 https://georgetraboulsi.wordpress.com/2014/10/03لبنان-مدرسة-الشرق-وجامعته

[14]- مفهوم استعمله جان بياجيه ليدلِّل على عدم وعي الإنسان بطريقة تفكيره، ولا بالآليّات التي تتحكّم في عمليّة المعرفة لديه.

ثناء سليم الحلوة

حازت الدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة (الصحافة المحلّيّة المناطقيّة في لبنان، الجامعة اللبنانيّة). منسّقة مادّة علم الاجتماع في وزارة التربية اللبنانيّة منذ العام 2005، ومقرِّرة مادّة علم الاجتماع في لجان الامتحانات الرسميّة (2004-2017). أستاذة ومنسّقة لمادّة الاجتماع في ثانويّاتٍ عدّة. عضو في "لجنة التربية على المواطنة" في وزارة التربية، وفي الجمعيّة اللبنانيّة لعلم الاجتماع. أسهمتْ في العديد من المشاريع المشتركة بين الوزارة ومؤسّساتٍ محلّيّة ودوليّة (اليونيسيف، UNDP، الحركة الاجتماعيّة، جمعيّة مسار،...). أستاذة متعاقدة في الجامعة اللبنانيّة/ كلّيّة التربية للعام الدراسيّ 2017-2018.