العنف الثوري شرطًا للتحرر
28-12-2018

 

في الكتابات المناهضة للاستعمار، تبقى المواجهةُ العنيفةُ مع المستعمِر شرطًا رئيسًا لتحرير المستعمَر من حالته. ليس النضالُ هنا محدَّدًا ضدّ كيان خارجيّ، بقدرِ ما هو ضدّ حالة الخضوع والعجزالتي يفرضها الاستعمارُ على المستعمَر؛ وهي حالةٌ لا يمكن الخروجُ منها إلّا بقضاء المستعمَر على ذاته المستعمَرة. وهذه العمليّة عنيفةٌ بالضرورة.

في الكتابات الأكاديميّة الغربيّة، كما في الإعلام الغربيّ، بشكلٍ عامّ، كان عنفُ المستعمَر ضدّ المستعمِر موضعَ شجبٍ واسع ومتعدّدِ المنطلقات: فهو إمّا تعبيرٌ عن حالةٍ مَرَضيّةٍ فرديّة، أو ردُّ فعلٍ يكرِّر الفعلَ الاستعماريّ، أو عملٌ إرهابيّ يؤكّد همجيّةَ المستعمَر ودونيّتَه الثقافيّة. وقد جاء تركيزُ الخطاب الغربيّ على سيكولوجيّة المستعمَرين العنيفين، شأنه في ذلك شأن سائر العمليّات الاستعماريّة التي تعمل على أساس "الإقصاء الإدماجيّ،" بحيث يجري إدخالُ المستعمَر إلى نظام المستعمِر وعالمِه في وصفه (أي المستعمَر) آخرَ. وكما كان على المستعمَر أن يدركَ أنّ اختلافَه عن المستعمِر نقيصةٌ وافتقار، فإنّ عليه أن يدرك أيضًا أنّ عنفَه حالةٌ مرَضيّة، لا ممارسةٌ حرّة.

غير أنّ الفعلَ العنيف في الأدبيّات المناهضة للاستعمار هو جزءٌ من الفعل الثوريّ. وكلمة "ثورة" في العربيّة تُشير إلى حركةٍ انفجاريّةٍ وتدميريّة. وهي الكلمة عينُها التي تشير، في شعر إيمي سيزير، إلى حركة البركان:[1] إذ لا تأتي الثورةُ ردَّ فعلٍ على الاستعمار، وإنما حركةً متصاعدةً لقوّةٍ ناريّةٍ كامنةٍ تراكمتْ حتى حدود الانفجار، وقد يستمرّ تراكمُها مئات السنين، لكنّها في النهاية ستدمِّر ما هو قائم، وستُخصب الأرضَ استعدادًا لحياةٍ جديدة.

الثورة عند سيزير عمليّةُ ولادةٍ، وبدايةٌ لحياةٍ جديدة؛ إنّها حركةٌ انقباضيّة تُخرج الكامنَ في الأعماق إلى السطح. وهذه العمليّة تحطّم التدجينَ والاستعباد الاستعمارييْن، إذ تصل إلى الجذور، إلى عمق الوجود؛ وهناك يمكنها أن تحرِّر المستعمَرَ من حالته المستعمَرة. عندما رأى مالكوم أكس أنّ العنفَ خيارُالإنسان الأسْود المقموع في أمريكا، فهذا لأنّه رأى أنّ العنف الثوريّ هو الذي يُمكن أن يضعَ حدًّا لقواعد العالم الأبيض، فاسحًا أمام المستعمَر الأسود مجالًا كي يتولّى مسؤوليّة حياته.

حياةُ الخضوع والجبن، بالنسبة إلى الثائر، هي حياةٌ ميّتة. وأمّا الحياة الحرّة فهي التي تتضمّن، في عُرفه، المجازفةَ، متجاوزةً أيَّ شكلٍ من أشكال الخوف، بما فيه ذلك الخوف من الموت نفسه؛ فالإنسانُ الحرّ هو مَن يكون مستعدًّا للموت في سعيه الدؤوب إلى حياةٍ "غير ميّتة." الثورة هنا ليست تضحيةً، كما يبيِّن سيزير، بل دفاعٌ عن الحياة؛ وحتّى لو تضمّنت الموتَ، فإنّها تخلق بذلك حركةً ذاتَ صدًى. الثورة، إذًا، تزرع بذرةً لبدايةٍ جديدة، وتحرِّر الحياةَ من التدجين. إنّها رفضٌ لحياة الضعف والانحطاط، المشلولةِ بالخوف؛ رفضٌ لحياةٍ تؤبِّد نفسَها على حساب الحياة نفسها.[2]

 

 

إيمي سيزير: الثورة رفض لحياة الضعف والانحطاط

 

الفعل الثائر ليس فعلًا انتقاميًّا يقوم على الكراهية، بل معركةُ حبٍّ وكرامةٍ وحريّة. هو معركةٌ تختلف، بشكلٍ جوهريّ، عن العنف الفوضويّ الأوروبيّ (كما يصفه بنيديكت أندرسون). فالفعل عند حركة الفوضويين[3] كان يأخذ شكلَ الانتقام: لا يستند إلى قيم، ولا ينبع من قضايا إيمانيّة. صحيح أنّه يأخذ جانبَ الفقراء والمقموعين وقضاياهم، مشجِّعا إيّاهم على الثورة، إلّا أنه يعرِّف الحقَّ(الذي يناضل من أجله) بأخطاء القامعين.[4] وعلى الرغم من أنّ الحركة الفوضويّة وَجدتْ مصدرًا لها في الخطاب الاشتراكيّ، فإنّ مشكلتَها لا تكمن في عجزها عن تحديدِ ما يلي فعلَ الانتقام، ولا في أنّها لا تملك إلّا "حلمًا بحريّةٍ يوتوبيّةٍ بلا شكلٍ محدّد،"بل مشكلتُها هي في أنّها تتّبع نمطَ الفعل البرجوازيّ الذي يبقى عالقًا في منطق القانون، وفي عكسِه الذي يحمله مفهومُ الانتقام.

المستعمَر، خلافًا للفرد البرجوازيّ الغربيّ، لا يكون في حالة اغترابٍ كامل، كما يبيّن فرانز فانون، إذ تبقى لديه أجزاءٌ لا يمكن أن يتنبّأ بها المستعمِرُ أو يهيمِنَ عليها. هذه الأجزاء تشكّل موقعَ الاختلاف الذي يقاتِل المستعمَرُ انطلاقًا منه.[5] فالثوريّ يجد مصادرَ قوّته في الكبرياء، والغضبِ، والحبِّ، والبهجة. وهذه العناصر ترتبط بتدفّق الدماء وصحوةِ الحواسّ، التي تعمل وفقًا لقواعدها، بغضّ النظر عن قوانين النظام الاجتماعيّ المُهيمِن ومعاييرِه. لذا فهي تملك القدرةَ على تخريب عمليّاتِ التدجين والتذويت التي يمارسها الاستعمارُ، وتشكِّل قوةً تمنح المستعمَرَ القدرةَ على الصمود ضدّ أيّ هزيمة نهائيّة.

بالنسبة إلى المستعمَر، "يوجد حلٌّ واحدٌ فقط: القتال. وهو يبدأ بالقتال، ويستمرّ فيه، ليس نتيجةً لتحليلٍ ماركسيّ أو مثاليّ بل لأنّه لا يمكنه أن يُدرك الحياةَ بأيّ طريقةٍ غيرِ تلك التي تأخذ شكلَ المعركة ضدّ الاستغلال والبؤس والجوع."[6] أمّا عدمُ القتال فيعني أن يبقى عالقًا في كينونةٍ جبانةٍوعاجزةٍ ومستعبَدة.

الفعل الثوريّ يتضمّن قتالًا عنيدًا، قتالًا "غيرَ عقلانيّ،" إذا كانت "العقلانيّةُ" تعني حسابَ النتائج المباشرة المتأتّية عنذلك الفعل: كأنْ تواجَهَ البنادقُ الآليّةُ والجيوشُ المنظّمةُ ببنادقَ قديمةٍ وفؤوسٍ وسكاكينَ وأيدٍ عارية. وهذه المعارك ليست "أحلامًا" يكون فيها القديمُ والبالي قادرًا على منافسة المتقدِّم تكنولوجيًّا، بل هي معاركُ مَن يرفضون التسليمَ بالهزيمة، ولو كانوا يدركون أنّهم سيخسرون المعركة. المشكلة عند أناسٍ مثل سيزير ليست في القتال، بل في توقّف المستعمَر عن القتال.

المعركة هنا ليست إنكارًا للخسارة، وإنّما رفضًا للانهزام. في حالة المهزوم، كلُّ شيء، بما في ذلك أحلامُ المستقبل، تصبح باهتةً. الحبرُ نفسُه لا يعود له لونٌ، ولا يعود هناك ما يمكن قولُه أو فعلُه.[7] لكنّ خسارةَ معركة ليست بالضرورة هزيمةً؛ فالإنسان يكون مهزومًا عندما يَقبل أن يتصرّف كـ"الأوادم القاعدين عاقلين،" ويرضى أن"يأكل كفًّا ويقولَ شكرًا." المقاتل هو خلافُ المهزوم: إنّه يمتلك القدرةَ على تحميل الكلمات معانيَ جديدةً، فتصبح "أوادم" بمدلولها الثوريّ تعني"بنحارب، هيك يعني هيك!"[8]

إنّ من ارتضى أن يكون "آدميًّا،" بالمعنى الذي فرضتْه السلطةُ، هو المسجون فعلًا، وذلك لأنّه آثر الحفاظَ على نفسه خارج السجن على حساب حريّة فعله وحريّة وجوده. أمّا "السجين الذي يرى نفسَه خارج القانون لأنّه وُضع حيث هو، فيَشعر بالفخر أكثرَ من الحقد. قد يرغب في الحريّة، لكنّه يحبّ الأسْر أيضًا لأنه تمكّن من أن يربطَ نفسَه بالحريّة هناك أيضًا."[9]

 

***

الممكن المستحيل في معركة كنفاني يتحقق بإرادة المقاتل

 

قد يبدو أنّنا نحتاج إلى مساءلة ذلك الخلط بين الجريمة العاديّة والعنف الثوريّ، باعتباره خلطًا استُخدم لإدانة الثورات السياسيّة وتجريمِها، أيًّا كان الشكلُ الذي اتخذتْه ما دامت تهدِّد النظامَ القائم. لكنّ مساءلةَ الخلط قد تعني أيضًا طرحَ السؤال عن فائدة الثورة، عن خطئها أو صحّتها؛ وهذا السؤال يطمس الكيفيّة التي يعمل بها القانونُ على تشويه العنف الثوريّ.[10] ومن وجهة النظر هذه، يمكن أن تؤدّي مساءلةُ الخلط إلى الهزيمة.[11]

القتال لا يمكن قياسُه بإطار منفعيّ. قد يكون قضيّةً أخلاقيّةً ترتبط بنمط الحياة، لكنّه أيضًا قضيّةُ واقع؛ واقعِ الثورة نفسها، التي تخترق الحلقةَ الدائريّةَ للحياة الاستعماريّة.

***

الفدائيّ يسعى إلى الجنّة، ولكنّ الجنّة التي يسعى إليها تتحدّاه باعتبارها "المستحيلَ الممكنَ" الذي يَحول دون أيّ نوعٍ من المساومة، دون القبول "بما هو أقلّ." في قصة أمّ سعد لغسّان كنفاني، يتجلّى حلمُ العودة إرادةً. أمّ سعد تقول إنّها لا تريد أن تموت قبل أن ترى فلسطين، وابنها المقاتل هو مَن سيحقّق حلمَها. سعد وأمُّه ليسا شخصيّتين رمزيّتين. أمُّ سعد لاجئة، تعمل في تنظيف بيوت الآخرين، على أرض أناسٍ آخرين. لكنّ حياةً من الجروح التي يطمرها الوحلُ هي ما يجعل العودةَ قضيّةَ إرادة؛ فإمّا أن يقوم الإنسانُ بسدّ مصدر الوحل، وإمّا أن يغرقَ فيه. سعد يرفض أن يَجرف الوحلَ الذي يُغرِق المخيّم. فبالنسبة إليه، إذا كان مصدرَ الوحل مزرابٌ في السماء، فالأوْلى أن يصعد إليه ويسدَّه. وهذا ما فعله، عندما انضمّ إلى الفدائيين.[12]

عندما يتحوّل اللاجئون إلى مقاتلين، فإنّهم يكفّون عن السير برؤوس مطأطأة، ويكفّون عن الشعور بأنّهم مُداسون بالفقر وقوانينِ الدولة وبطاقاتِ وكالة الغَوث. ذلك لأنّ القتال يشكّل استعادةً لجزءٍ من الرُّوح. "الممكن المستحيل" في معركة كنفاني يتحقّق بإرادة المقاتل؛ بإرادةٍ تعلن أننا على استعداد لأن نسير، إذا لزم الأمر، بأيدينا العارية وهراواتنا. فأن تخترقَنا المَدافعُ أفضلُ من جمود الانتظار.[13]

 

القدس

 

[1]Aimé Césaire, “Notebook of a Return to the Native Land,” in The Collected Poetry, Trans. Clayton Eshleman and Annette Smith (Berkeley and Los (Angeles: University of California Press, 1983

[2] (“And the Dogs Were Silent,” in Lyric and Dramatic Poetry, 1946-1982, Trans. Clayton Eshleman and Annette Smith (Charlottesville: The University Press of (Virginia, (Virginia, 1990

[3]Benedict Anderson,Under three Flags: Anarchism and the Anti-Colonial Imagination(London: Verso, 2007), 72

[4] Ibid, 116-117

[5]Frantz Fanon, Toward the African Revolution, Trans.Haakon Chevalier(New York: Grove Press, 1994)

[6]Frantz Fanon, Black Skin, White Masks, Trans. Charles Lam Markmann (New York: Grove Press, 1967),224

[7]غسان كنفاني، في الآثار الكاملة: الروايات، م1(بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة ومؤسّسة غسان كنفاني الثقافيّة، 1994).

[8] المصدر السابق، 254 

[9]Jean Genet,Prisoner of Love, Trans. Barbara Bray (New York: New York Review of Books, 2003),250

[10]Walter Benjamin, Reflections, Trans. Edmund Jephcott, Peter Demetx, ed. (New York: Schocken Books, 2007), 300

[11]Michel Foucault, Power, Trans. Robert Hurley and Others, James D. Faubion, ed.(New York: The New Press, 2000), 450

[12]كنفاني، أم سعد، 272.

[13]فارس فارس (بيروت: دار الآداب، 1996)، 63.

 

 

 

اميرة سلمي

أستاذة مساعدة في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت. حصلتْ على شهادة الدكتوارة في الخطابة من جامعة كاليفورنيا ــــ بيركلي، وعلى شهادة الماجستير في النوع الاجتماعيّ والتنمية من جامعة بيرزيت. لها أبحاثٌ في مجال الدراسات الاستعماريّة: الخطاب الاستعماريّ، دراسات ما بعد الاستعمار، الكتابة المناهضة للاستعمار، الكتابة الأدبيّة الثورية في فلسطين وأفريقيا. كما كتبتْ عن الكتابة النسائيّة، والخطابات التنمويّة.