الغزالة شَيْما
30-05-2018

 

ثمّة مقهى صغير في قريتي يُدعى مقهى شَيْما. قلّةٌ تعرف قصّةَ هذا المقهى، الذي تحوّل مع الأيّام إلى مطعم ومقهى. الغريب أنّ القرية أخذت اسمَها منه، خِلافًا لما يحصل عادةً. والأغرب وجودُ مقهى أو مطعم في قرية جبليّة صغيرة لا يتجاوز عددُ سكّانها بضعَ مئات. سألتُ جدّتي "غزالة" عن سِرّه غيرَ مرّة، لكنها كانت تهرب من الإجابة وتُشاغلني بقصّةٍ، على شكل سؤال وجواب، لا تَملّ من تكرارها، لتسألني في نهاية الأمر عن العبرة:

ــــ هل سمعتَ ما حصل لأبي الزنود؟

ــــ ماذا حصل له؟

ــــ لقد شُجَّ رأسه.

ــــ ومن الذي شجَّه؟

ــــ زوجتُه التي تسكن الجرود.  

ــــ ولماذا فعلتْ ذلك يا جدّتي؟

ــــ لأنّها عثرتْ على شعرةٍ شقراء فوق كتفه.

ــــ وأين يجب أن تكون الشعرةُ الشقراء إذًا يا جدّتي؟  

ــــ دعكَ من السخرية وأخبرني الآن: ما العبرة من هذه القصّة؟

ــــ على الرجال أن ينتبهوا إلى أكتافهم أكثر.

ــــ لقد ورثتَ الشقاوةَ عن جدّك.

وكانت تقول ذلك دائمًا وهي تضحك.

***

توفّي جدّي "مرهج" قبل أنْ آتي إلى هذه الحياة. وسمعتُ في طفولتي أنّه كان شابًّا جميلًا معروفًا بأنّه صاحبُ أقوى ذراع وأجمل صوت، وبأنّه أمهرُ مَنْ دَبَكَ في الأعراس. ثمّ عرفتُ عندما صرتُ شابًّا أنّه لم يكن يملك من هذه الصفات شيئًا، وأنّ صيتَه جاء من أمريْن. أحدهما مُشين، وهو حين انضمّ إلى الجيش الفرنسيّ المستعمِر. أمّا الآخر فنقيضُه، وذلك حين فرّ بسلاحه، والتحق بالشيخ صالح العلي بعد انطلاق ثورته، وأصبح خلال فترة قصيرة قائدًا لمجموعةٍ من الثوّار، وبرع في مقارعة الفرنسيين لمعرفته بأساليبهم في القتال وأنواع أسلحتهم، فصار بطلًا في عيون أهل الساحل السوريّ كلّه.

في تلك الفترة التقى غزالة، ابنةَ مختار إحدى القرى البعيدة، التي التجأ مرّةً مع رجاله إليها، وكان جريحًا غيرَ قادرٍ على السير. فتركوه في عهدة المختار، وتابعوا طريقهم. لم يتجرّأ المختار على إبقائه في بيته خوفًا من الوشاية، ومن دوريّات الجيش الفرنسيّ التي كانت تبحث عنه في كلّ مكان. فنقله ليلًا إلى أرضٍ له، تقع على سفحِ وادٍ قريب، حيث يوجد عرزالٌ مخفيّ بين أوراق شجرةِ توتٍ ضخمة. وصارت غزالة تهتمّ به، وتنقل إليه الماءَ والطعامَ، والدواءَ الذي كانت تعدّه والدتُها من النباتات البرّيّة والزيوت. وحين تعافى وجاء وقتُ الرحيل بحثَ عنها ليودّعها، فلم يجدْها، فغادر وبقي قلبُه حبيسَ ذلك العرزال.

أمّا غزالة، ابنةُ السبعة عشر ربيعًا، فقد علقتْ بحبّ مرهج كما تعلق العصفورةُ في الشبكة. ومن يومها، وغزالة لَم تَعُدْ غزالة.

***
 

كلّما ذهبتُ إلى بيت جدّتي في شَيْما، حرصتُ على زيارة المقهى لأستمتع بأجوائه الأليفة وأحاديثِ الناس الظرفاء. وهناك التقيتُ أبا عبّود، الذي رحّب بي أيّما ترحيب لدى معرفته أنني حفيدُ البطل (كما وصف جَدّي حين ذكرتُ له اسمَه). وكان أبو عبّود قد غادر القرية منذ سنوات طويلة، واستقرّ في دمشق، حيث وَجد عملًا، فتزوّج وعاش هناك، وصار يأتي إلى القرية في زيارات قصيرة كهذه الزيارة التي جمعتني به. ومنه عرفتُ لأوّل مرّة أنّ جدّتي غزالة هي سببُ وجود المقهى، بل سببُ وجود قريةٍ اسمُها شَيْما. وحين أعربتُ له عن استغرابي وجهلي هذه المعلومات قال:

ـــــ كانت جدّتكَ ابنةَ عائلةٍ معروفة. وما فعلتْه في تلك الأيّام لا تفعله امرأةٌ عاقلة، ولا ينسجم مع العادات والتقاليد. واحترامًا لرغبتها، ولمكانة جدّك في وجداننا وقلوبنا، أبقينا القصّةَ حبيسةَ الأفواه.

فجأةً بدا أبو عبّود كأنّه شعر بالندم، فغيّر الحديث، وسألني عن حياتي في المدينة. وعندما عرف أنني لم أتزوّجْ بعد، أبدى استهجانَه وقال مازحًا:

ــــ أرجو ألّا يكون هناك عطلٌ في "الماكينة."

فطمأنته أنّ "الماكينة" بخير، إنّما مصاعبُ الحياة هي السبب. وقبل أن يتابع أسئلتَه أعدتُه إلى حديثنا. فأبدى عدم رغبته في الكلام. ولكنْ مع "نصّيّة" من العرَق البلديّ، وصحنِ سلطة، إلى جانب نصفِ كيلو من الكباب، تفوّق على شهرزاد الشهيرة، وبدأ القصّة التي قرأتم حتّى الآن نصفَها:

ــــ بعد رحيل مرهج بأيّام قليلة، مرضتْ غزالة، وبقيتْ طريحةَ الفراش لستّة أيّام بلياليها، لا تأكل، ولا تشرب، إلّا بالقوة؛ حتى إنّها كادت تفارق الحياة. وفي صبيحة اليوم السابع استيقظت العائلة لتجدَ فراشَها خاليًا. بحثوا عنها ولم يجدوها في أيّ مكان. وحين غابت الشمس ولم ترجعْ، استنفروا أهالي القرية كلّها للبحث عنها. لكنْ من دون جدوى.

كنت أستمع مذهولًا: أيُعقل أنّ جدّتي اللطيفة، ذاتَ القامة النحيلة، تتمرّد بهذه الطريقة وتجابه المخاطرَ وحيدةً وهي مريضة؟! وكيف لم أسمع قبل اليوم بهذه القصّة؟ سألته:

ــــ أمتأكّدٌ ممّا تقول؟   

ــــ كنتُ أحد رفاقِ جدّكَ، أجابني وهو يدلق ما تبقّى من كأسه في فمه دفعةً واحدةً.

ــــ لكنّ عمركَ لا ينسجم مع ما تقوله.  

ــــ التحقتُ بمجموعته وأنا مراهق، واقتصرتْ مهمّاتي على مراقبة الطرق في هذه المنطقة فقط. وأنا مَنْ وَجَدَ جدّتَكَ بين الحياة والموت، قرب ذاك النبع (وأشار بيده إلى المقهى) الذي يبعد عن قريتها أكثر من ثلاثين كيلومترًا. حينها كان هذا المكان موحشًا.  

ــــ وما الذي جاء بكَ إلى هذا المكان الموحش؟  

ــــ كان الثوّار يبتعدون عن الطرق العامّة، والدروبِ المعروفة، كي لا يصطدموا بدوريّة للجيش الفرنسيّ، أو يقعوا في كمين. وكنتُ أرافقهم إلى نهاية الوادي، وأتقدّمهم بمسافة مئة متر تقريبًا. وكلّما لمحتُ شخصًا أو حركة غريبة، أطلقتُ صفيرًا قويًّا مدّعيًا أنني راعٍ يبحث عن بقرته الضائعة. كان النبع مخفيًّا بشجيْرات الغار والدفلى، ولا يعلم به سوى حفنةٍ من أهالي قريتنا. لذا كان مكانًا ملائمًا لاستراحة الثوّار وتزوُّدِهم بالماء وهم في طريقهم إلى أرض المعركة، أو حين ينسحبون بعد القتال.

وتابع أبو عبّود:  

ــــ عندما وجدتُها أطلقتُ الصفير المتّفق عليه، بعد تسلّقي شجرةً كبيرة. ومن هناك، رأيتُ مرهجًا ورجالَه يتسلّلون بخفّةٍ ويحيطون بالمكان. فأرشدتُهم إلى ما اعتقدتُ أنه جثّةُ فتاةٍ ميتة. وأذكر كيف فتحتْ عينيها ونظرتْ إلى مرهج حين رفع رأسَها وبلّل شفتيْها بالماء، قبل أنْ تفقد الوعيَ من جديد ساعاتٍ عدّة. في هذه الأثناء تابع عناصرُ المجموعة سيرَهم، وأوكلوا إليّ مهمّةَ الاعتناء بجدّتك، بعد أن تركوا خلفهم بعضَ الطعام، وجلبابًا رجّاليًّا كي تستر به جسدَها، الذي برز معظمُه من تحت ثوبها الذي تحوّل إلى خرقة بالية: كانت نحيلةً، بارزةَ العظام، غائرةَ العينين، وسخةً، شعثاءَ الشعر، وتفوحُ منها رائحةٌ أشبهُ برائحة البهائم.

وأكمل أبو عبّود:

ــــ وكما لم يعرفها مرهج حين رآها وهي مُغمًى عليها، كذلك لم يعرفها حين عاد مع الرجال عصرَ اليوم التالي، على الرغم من أنّها استحمّتْ وأكلتْ. ولن أنسى ما حييتُ لحظةَ رأت مرهجًا وهو قادمٌ من بعيد، وكيف ركضتْ ورمتْ بنفسها في حضنه، وهو يجاهد كي يبقى واقفًا على قدميه. وعندما صرختْ بأعلى صوتها المبحوح: "أنا غزالة" سقط على الأرض، وسقطتْ فوقه؛ ما استدعى أنْ يتدخّل أحدُ رجاله ويبعدها عنه. سألها:

ــــ أنتِ غزالة غزالة؟!

ــــ أنا غزالة... غزالة ما غيرها.

وتبيّن أنّ غزالة بقيتْ أسبوعين تجوب الجبالَ والوديان بحثًا عن الثوّار لتسألهم عن مرهج. كانت تنام بين الأحراش وتأكل ما يقع بين يديها من ثمار بريّة وحشائش. لم تحمل معها من البيت سوى جرّةٍ فخاريّةٍ صغيرة ملأتها ماءً، وبقيتْ ترتشفُ منها رشفاتٍ صغيرةً عدّةَ أيّام قبل أنْ تفلتَ من يدها وتنكسر، فظلّت من دون ماء، إلى أنْ وجدناها قرب النبع الذي اهتدت إليه مصادفةً؛ ولولاه لماتت عطشًا. كان مرهج مأخوذًا بحديثها وهي تخبرنا عن مغامرتها الغريبة. وبعد أنْ ختمتْ حديثَها، قال:

ــــ يجب أن تعودي إلى أهلك في أسرع وقت، وسأعمل على مساعدتكِ مع باقي الرجال.

لكنها رفضتْ رفضًا قاطعًا، وهدّدتْه بالهرب مجدّدًا. ثم بدأت البكاء، فأُسقط في يده، وقال:

ــــ إذًا يجب أن تغيّري اسمَكِ كي تحمي أهلك من الفرنسيين لو عرف أحدُهم بوجود فتاةٍ بيننا.

وعندما سألها عن اسم يعجبها قالت "شَيْماء."

ــــ إذًا، منذ اللحظة صار اسمُكِ "شَيْما" (لفظها من دون همزة). ثمّ جَعَلَنا نُقْسم على حفظ هذا السر.  

***

توقف أبو عبّود عن الحديث فجأةً، وسألني إنْ كانت جدّتي بخيرٍ هذه الأيّام. فأخبرتُه أنّها تعاني آلامَ الروماتيزم، وضعفَ النظر، وأنّ ذاكرتها بدأتْ تخونها. أسِف أبو عبّود لهذه الأخبار، وقال إنّه لم يقابل في حياته كلّها امرأةً تفوقها جمالًا. وحدّثني كيف تحوّلتْ، بعد شهرٍ واحدٍ فقط من عثورهم عليها، من هيكلٍ عظميّ مخيف، إلى فتاةٍ عفيّةٍ فائقة الجمال. ثم سألني بعد برهة من الصمت: "أما زالتْ مرحةً كما كانت؟" وضحك من قلبه وأنا أحكي له قصّةَ الشعرة الشقراء، وكيف شجّت المرأةُ رأسَ زوجها المسكين. ومرّةً أخرى فاجأني بمعلومةٍ جديدة: فتلك الزوجة لم تكن سوى جدّتي نفسِها، التي فعلتْ تلك الفعلة بمرهج حين عاد يومًا من المدينة ووجدتْ على كتفه شعرةً شقراء، فجُنّ جنونُها وضربتْه بالمقلاة التي كانت تطبخ فيها، فاحترقتْ رقبةُ المسكين وأذنُه بالزيت المغليّ وشُجَّ رأسُه. ونالها هي أيضًا بعضُ الأذى من الزيت المتناثر؛ وما تلك الندبة فوق عينها اليسرى إلّا أثرُ الحرق الذي أصابها في ذلك اليوم. كانت ندبةً على شكل هلال صغير تلفت انتباهنا ــــ نحن أحفادَها ــــ عندما كنّا صغارًا فنسألها بفضول:  

ــــ ما هذا يا جدّتي؟

ــــ هذا هلالُ رمضان، تقول وهي ترانا نضحك.

ونسأل من جديد:

ــــ ومتى العيد يا جدّتي؟

ــــ بعد أن تصوموا عن الضحك والكلام.

فنكبت ضحكاتِنا أمام نظراتها المتفحّصة. ومن صمد أكثرَ من الآخرين حظي بقطعة حلوى مغلّفة، تخرجها من جيبها بحركة استعراضيّة تجعلنا ننقلب على أقفيتنا من شدّة الضحك.

أمّا ردّة فعل جدّي على سلوكها العنيف في ذلك اليوم فكان يدعو إلى الإعجاب. يقول أبو عبّود:

ــــ تمالك مرهج نفسَه تقديرًا لغيرتها النابعة من الحبّ العظيم الذي تكنّه له، ويبادلها بمثله، واكتفى بأن أمسك رأسَها بيديه، وقبّلَ جبينَها، ثمّ أقسم لها بجراحه التي جمعتهما في ذلك العرزال أنّه لا يعرف شيئًا عن تلك الشعرة ولم يرها إلّا قبل لحظات. فبكتْ وارتمتْ على صدره، فاحتضنها بقوّة، ثم سحب الشَعرة من بين أصابعها ورماها في النار التي كانت قد أوقدتْها لتصنع طعامَ الغداء.

ها أنا من جديد أعانق الدهشة وأضحك هذه المرة من جهلي. ويعاوِدني السؤال: كيف لم أسمع بهذه القِصص قبل اليوم

ويتابع أبو عبّود:

ــــ ظلّتْ جدّتُكَ ترافق الثوّارَ عدّة أشهر، على الرغم من اعتراض مرهج وطلبِه إليها العودةَ إلى قريتها وهو يقسم أن يأتي ويخطبها من أهلها متى سنحتْ له الفرصة. ولكنْ هيهات؛ فشَيْما كانت قد اتخذتْ قرارَها: "رِجلي على رِجلك. نعيش معًا أو نموت معًا." وبعد أوّل معركة مع مجموعة من الجنود الفرنسيين استطاع الثوّار الاستيلاءَ على بندقيّة ومسدّس وبعض الذخائر. وهكذا صارت شَيْما تحمل مسدّسًا على خصرها تتباهى به بين الرجال.

بقيتْ مجموعة مرهج الثائرة تجوب سفوحَ هذه الوديان وجبالها، وتُغِير على معسكرات الفرنسيين قرب المدن والبلدات، ثم تنسحب للاختباء في الكهوف أو في أعالي الجبال، أو عند النبع الذي صار اسمُه "نبع شَيْما." ثم قرّر مرهج أن يبني كوخًا بسيطًا قرب النبع لتستقَر فيه أيّامَ الشتاء القارسة. وبُنيَ الكوخ بالفعل، لكنّ شَيْما لم تنم فيه ليلةً واحدة وفضّلت البقاء برفقة مرهج وليكنْ ما يكون.

ويكمل أبو عبّود:

ــــ في ذلك العام تعثّرت الثورة، وتكبّدت الكثيرَ من الخسائر، وجرى الاتفاقُ على وقفِ كافّة العمليّات الحربيّة. التزم مرهج بالاتفاق، فلم يعد يُهاجم الجنود الفرنسيين، لكنّه أبقى على سلاحه ورجاله، جاعلًا من نبع شَيْما والكوخِ القريبِ منه مقرًّا له، بعد أن شيّد مع بقيّة الرجال عدّة بيوت بسيطة متجاورة سكنوا فيها مع زوجاتهم وأولادهم. وباتوا يجتمعون مساء كلّ يوم في الكوخ الذي أطلقوا عليه صفة "مقهى." ومع الأيّام بات هذا المقهى، بفضل جهود شَيما، معتبَرًا بعد أن ازداد عددُ السكان والبيوت، ليصبح هذا التجمّع قريةً حقيقيّةً بعد عدّة أعوام، وليُعرَف باسم: "قرية شَيْما."

خلال هذه الفترة تزوّجتْ غزالة من مرهج، ولكن من دون عرس ولا زفّة؛ فأهلُها كانوا قد تبرّأوا منها بعدما عرفوا بقصّتها. لم ترغبْ شيْما بأكثر من بيت صغير يجمعها بحبيبها الذي ضحّت بكلّ شيء من أجله. وهكذا تابعتْ حياتها مع مرهج، الذي عاد فلّاحًا كبقيّة رجاله. وحين أخبرتْه بعد ثلاثة أشهر من زواجهما أنّها حبلى قام من فوره ببناء بيتٍ جديدٍ في أعلى القرية (وهو البيت ذاته الذي وُلد فيه والدُكَ وتسكنه جدّتُكَ إلى اليوم بعد تجديده). وفور الانتقال إلى البيت الجديد قام مرهج، بعد موافقة جدّتكَ، بإهداء المقهى إلى عائلة أحد شهداء مجموعته. وها هم اليوم أحفادُه، كما ترى، يديرونه بأفضل ما يكون، وقد أصبح مقصدًا للسيّاح.

***

بدا واضحًا أننا وصلنا إلى نهاية الحديث. وقبل أن ينهض أبو عبّود سألني:

ــــ أتعرف متى خرج آخرُ جنديّ فرنسيّ من بلادنا؟

لم ينتظر جوابي، وتابع:

ــــ لا تشغلْ بالك. لا يهمّني التاريخُ الآن. ولكنْ في ذلك اليوم تحديدًا، وبينما كان الناس يحتفلون بهذا الحدث العظيم، تلقّى جدُّك تلك الضربة على رأسه بسبب شعرةٍ شقراء.

وبعد أن رشف آخر شفّةٍ من كأسه، سألني مجدّدًا:

ــــ أتعرف ماذا قالت جدّتُك حين عاتبها مرهج لضربها إيّاه بتلك الطريقة بسبب شعرةٍ سخيفة؟

ولم ينتظر أبو عبّود جوابي من جديد، بل همس في أذني بينما كان ينهض مستندًا بيده على كتفي:

ــــ هذا بسبب لونها الأشقر.

ثم خرج متثاقلًا وتركني أتفكّر بما قال.

 

                                                                                            سوريا

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).