المساعدات الدوليّة المستندة إلى خطاب الحقوق تتخطّى "شفافيّة المعلومات"
15-01-2016

(ترجمة: سماح إدريس ــ خاصّ بـ الآداب)

 

"الشفافيّة" أصبحتْ عنصرًا رئيسًا في خطاب "المساعدات" الدوليّة، ولكنْ هل هذا المطلبُ الجديدُ ثوريٌّ حقًّا؟

يحاجج دعاةُ "الشفافيّة" بأنّ التنمية الفعّالة تتطلّب معلوماتٍ أفضل؛ وقد باشروا حركةً فعليّةً مدعّمةً بقواعد معلومات، وبمدوّناتٍ مكرَّسة، فضلًا عن منظّمات غير حكوميّة متخصّصة، وتقاريرَ واجتماعاتٍ سنويّة عالميّة، ومشاريعِ مساعدات، وفرصِ تدريب ــ وكلُّها موجّهة لتحسين شفافيّة المساعدات.

نتيجةً لهذه الجهود التزم المانحون والعاملون في مجال المساعدات تقديمَ معلوماتٍ محدَّثةٍ يَسْهل الحصولُ عليها واستخدامُها وفهمُها.(1) ومع وضع هذه الالتزامات موضعَ التطبيق فإنّه من المتوقع أن تسهّل شفافيةُ المعلومات عمليّاتِ التنسيق [بين المانح والممنوح]، وستَحُول دون الفسادِ وسوءِ الإدارة؛ كما ستَفضح هدرَ المصاريف والاستغلالات الشخصيّة في سياسة المساعدات. وهذا الأمر يمكن أن يكون ثوريًّا فعلًا، وخصوصًا إذا أدّت الشفافيّةُ إلى وضع المعلومات بين أيدي الناس، وقلبتْ علاقاتِ القوة رأسًا على عقب.

طبعًا على المعلومات المتعلّقة بالمساعدات الدوليّة أن تكون علنيّة. ذلك أنّ "المساعدة التنمويّة الرسميّة" (م.ت.ر)(2) تأتي، في النهاية، من أموال الضرائب في الدول المانحة، ومعظمُها يتمّ تحويلُه إلى حكومات الدول النامية المشاركة (إمّا مباشرةً عبر المساعدات الثنائيّة أو عبر وكالاتٍ متعدّدةِ الأطراف كالبنك الدوليّ أو الأمم المتحدة) ومن ثم تذهب إلى الميزانيّة العامّة. في الدول الديمقراطيّة ينبغي أن تكون المعلوماتُ عن التمويل العامّ، بشكل طبيعيّ، عامّةً.

لكنّ المعلومات عن المساعدات الدوليّة ما زالت، إلى الآن، مبهمةً وغيرَ قابلةٍ للاستخدام، وذلك لعدّة أسباب، منها: عدمُ كشف بعض المانحين لهذه المعلومات، وتفاوتُ هذا الكشف بين المانحين، وضعفُ المعايير المشتركة للتقارير المقدّمة، وتأخّر تقديم بعض التقارير،... وكلُّ ذلك يَحُول دون أن يشكِّل المستفيدون من المساعدات أو دافعو الضرائب في الدول المانحة صورةً كاملةً ودقيقةً عن كميّة الأموال الواردة، وإلى أين تذهب، وماذا تُحقق من إنجازات.

بعضُ دعاة شفافيّة المعلومات الخاصّة بالمساعدات يشدّدون على الهدف التقنيّ الذي يحقّقه مقدارٌ أكبرُ من الفعّاليّة. فهم يتوقّعون أن تساعد البياناتُ ذاتُ المعايير المحدّدة في إلغاء الفجوات والتكرار. ويحاججون بأنّ تحسين المراقبة من طرف المانحين والحكومات المتلقّية سيؤدّي إلى صناعةٍ أفضلَ للقرار المتّخذ. غير أنّ شفافيّة المساعدات غالبًا ما يتمّ تأطيرُها أيضًا ضمن مفهومٍ أكثرَ جذريّةً: المساءلة. فأن تكون المعلوماتُ متاحةً  للجمهور إنّما هو مفهومٌ يتحدّى التوجّهَ الاستعماريّ الجديد، الكامنَ في عددٍ كبيرٍ من المقاربات التنمويّة التقليديّة، ومؤدّاه أنّ القوى الغربيّة "المتحضّرة" تقوم، على نحوٍ خيريّ، "بعملٍ ما" لصالح شعوب العالم الثالث العاجزةِ والقليلةِ الحظّ. نظريًّا، إذن، يستطيع متلقّو المساعدات، إنْ حصلوا فعليًّا على معلوماتٍ مفيدةٍ حول المساعدات الممنوحة، أن يطالبوا بسياساتٍ أفضل، بل أن يرفضوا العملَ مع مانحين محدّدين.(3)

إنّ شفافية المساعدات ليست أمرًا لازمًا لممارسةٍ سليمةٍ لسياسة المِنح فحسب، بل هي منصوصٌ عليها أيضًا في القانون الدوليّ الإنسانيّ. كما أنّ مفهوم "حريّة المعلومات،"(4) الذي يحفظ للمواطنين حقَّهم الشرعيَّ في الحصول على المعلومات، ذو صلةٍ أيضًا. وثمّة دولٌ كثيرةٌ لديها قوانينُ وطنيّةٌ تضمن شفافيّةَ بعض المعلومات. لكنّ "قانون الحصول على المعلومات"(5) في فلسطين، الذي أُعِدّ سنة 2015، قد عُطّل عقدًا كاملًا.(6)

اليوم، يستطيع مواطنو المجتمعات التي تعتمد على المساعدات أن يطلبوا المعلوماتِ من ممثّليهم المحليّين أنفسهم، مستخدمين مفهومَ "العقد الاجتماعيّ" بين الطرفيْن. كما أنّ في مستطاع الحكومات المتلقّية للمساعدات أن تطلب تلك المعلومات بالاستفادة من مفاهيم "المساءلة المتبادلة" الموجودة في صلب معايير التعاون في مجال التنمية. ما قد يكون جديدًا هو الآتي: إذا طُبّقت الالتزاماتُ الجديدةُ الخاصّةُ بالشفافيّة، فسيكون للمواطنين في المجتمعات التي تتلقّى المساعدات مبرّرٌ أقوى لكي يطالبوا المانحين الدوليين بالمعلومات، وبشكلٍ مباشر.

العام الماضي، 2015، كان تتويجًا لعشرة أعوامٍ من الدعوة المكثّفة إلى شفافيّة المعلومات المتّصلة بالمساعدات الدوليّة. فـ "إعلانُ باريس،" وهو ثمرةُ "المنتدى العالي الثاني حول فعّاليّة المساعدات" (2005)، ألزمَ المانحين(7) بأن "يقدّموا معلوماتٍ شفّافةً، وشاملةً، وفي الوقت المناسب، عن تدفّق المساعدات، من أجل تمكين السلطاتِ الشريكة من أن تَعْرض أمام مشرِّعيها ومواطنيها تقاريرَ شاملةً عن الموازنة." كما أثمر ضغطُ المجتمعات المدنيّة والحكوماتِ المتلقّية للمساعدات، في المرحلة التي سبقت انعقادَ "المنتدى العالي الثالث" في أكرا (غانا) سنة 2008 وفي أثنائها، عمّا لا يقلّ عن أربعة التزاماتٍ واضحةٍ بخصوص شفافيّةٍ أكبر (ص 38).(8) كما أثمر عن انطلاق "المبادرة من أجل شفافيّة المساعدات العالميّة،" وهي مبادرةٌ صُمّمتْ، جزئيًّا، من أجل دعم المانحين للإيفاء بالتزاماتهم السياسيّة المنصوصِ عليها في "جدول أعمال أكرا." في العام 2011 التقى كلُّ الفاعلين الأساسيين في مجال التنمية في "المنتدى العالي الرابع حول فعّاليّة المساعدات" في بوسان (كوريا)،(9) والتزموا بـ "تطبيق معيار مشترك مفتوح للنشر الإلكترونيّ لمعلوماتٍ شاملةٍ، وذاتِ رؤيةٍ مستقبليّةٍ، وفي الوقت المناسب، عن المصادر المقدّمة أثناء التعاون في مجال التنمية." وتعهّد الموقّعون على وثيقة بوسان بنشر هذا المعيار بنهاية العام 2015.(10)

هل ثمّة محاسبة حقيقيّة أو مشاركة فعليّة إنْ لم تكن الموادّ المتعلقة بـ "الشفافيّة" متوفّرةً بالعربيّة؟ ولماذا هذه الموادّ بالإنكليزيّة أصلًا؟

ثمّ إنّ الشفافيّة مدْرجة في "أهداف التنمية المستدامة،"(11) التي خلفت "الأهدافَ التنمويّة الألفيّة."(12) وفي أيلول 2015 وقّع كلُّ المانحين الأساسيين "الإعلانَ المشترك بصدد الحكم المفتوح من أجل تطبيق برنامج عمل التنمية المستدامة لعام 2030،"(13) ويتضمّن التزامًا متجدّدًا بمبادئ الشفافيّة في سياق التعاون الدوليّ في مجال التنمية، فضلًا عن "...مشاركة المواطنين في تطبيق كلّ الأهداف والمقاصد الواردة في برنامج عمل التنمية المستدامة لعام 2030، بما في ذلك: عمليّات اتخاذ القرار، وصياغة السياسات، والمتابعة، والتقويم."

والحال أنّ الالتزام بالمشاركة يتخطّى "المعيارَ المشترك" الذي تصوّرتْه "المبادرة." فضمُّ "الشفافيّة" في رزمةٍ واحدةٍ مع "المشاركة" قد يوحي بمرحلةٍ جديدةٍ من الشفافيّة المتعلقة بالمساعدات الدوليّة. وإذا كان للمواطنين أن ينخرطوا فعلًا في تنمية أنفسهم ومجتمعاتهم فإنّهم يحتاجون إلى ما يتعدّى الحصولَ على المعلومات حول المساعدات: يحتاجون أيضًا إلى الحصول على الخطط الإستراتيجيّة، وخططِ المشاريع، والميزانيّاتِ، وتقاريرِ المراقبة، والتقويمات، وأكثر من ذلك. وهم يحتاجون إلى الحصول على هذه الموادّ في لغاتهم هم وقبل صدور القرارات، من أجل ان يتمكّنوا من المشاركة بفعّاليّة. وهذا ما ذُكر في "دراسةِ جدوى" أعدّتها "المبادرة" في تشرين الأول (أكتوبر) 2010. ولكنْ يُلاحَظ أنْ لا ذكرَ لترجمةِ وثائقَ أساسيّةٍ متعلّقةٍ بعمل المراقبة من أجل الشفافيّة، وتكون في تصرّف الجمهور لأخذ مشورته، حتى حلول شباط (فبراير) 2016.

في فلسطين غالبًا ما يتمّ تخصيصُ الموارد، والاتفاقُ على القرارات، اعتمادًا على وثائق غير متوفّرةٍ باللغة العربيّة، ومن خلال آليّاتِ تنسيقٍ لا تقدّم المعلوماتِ باللغة العربيّة أو لا تقدّمها بهذه اللغة في الوقت المناسب. فمثلًا تقدّم الأممُ المتحدة(14) والبنكُ الدوليّ(15) تقاريرَ فصليّةً إلى "لجنة الارتباط الخاصّة،" وهي الجهة المختصّة بفلسطين لجهة المساعدات على الصعيد العالميّ، ولكنّ أيًّا من الهيئتيْن لا يترجم هذه التقاريرَ بشكلٍ دوريّ إلى العربيّة على الرغم من الأثر المهمّ الذي تخلّفه هذه التقاريرُ في حياة الفلسطينين اليوميّة. مثال آخر هو كتاب من 300 صفحة،(16) نشرته "اللجنةُ الوزاريّة التابعة لدولة فلسطين من أجل إعادة إعمار غزّة" في آب 2015؛ فهذا التقرير متوفّر بالإنكليزيّة فقط، وغير موجود إلّا على موقع منتدى التنمية المحليّة(17) ــ وهو هيئة التنسيق المخصّصة للمساعدات. فإذا كانت معظمُ الوثائق الخاصة بالمساعدات المقدّمة إلى فلسطين بالإنكليزيّة، فلا عجبَ أنّ غالبيّة الفلسطينيين مستبعدون من المشاركة الفعّالة في التعاون في مجال التنمية.

قد يجادل المرءُ في أنّ تقديم المعلومات بالعربيّة في الوقت المناسب عملٌ ضخمٌ(18) محفوفٌ بالأكلاف والتعقيدات. لكنْ هل ثمّة محاسبة حقيقيّة أو مشاركة فعليّة إنْ لم تكن الموادّ المتعلقة بـ "الشفافيّة" متوفّرةً بالعربيّة؟ ولماذا هذه الموادّ بالإنكليزيّة أصلًا؟ إذا كان للفلسطينيين أن يقودوا تنميتَهم، فعلى برامج عملهم واستراتيجيّاتهم وخططِهم وميزانيّاتهم وتقاريرِهم التقويميّة أن تَصدر أولًا بالعربيّة، وأن يُصدروها بأنفسهم، ومن ثمّ تترجم ــــ بشكل انتقائيّ ــــ إلى الإنكليزيّة ليَعرف المانحون الدوليون كيف يقدّمون دعمَهم.

لئن كان من الجليّ أنّ مفهوم "الشفافيّة" ثوريّ بالقوّة، فإنّ على الفاعلين في مجال المساعدات أن يقوموا بما يتخطّى بكثيرٍ نشرَ ميزانيّات المساعدات والمصروفات على أساس معاييرَ مشتركة. كما أنّ التوقيع على إعلاناتٍ والتزاماتٍ جديدة لن تستحثّ، على الأغلب، التغييراتِ المطلوبةَ. الأرجح أنّ على متلقّي المساعدات أن يطالبوا، مرارًا وتكرارًا، بشفافيّة المعلومات التي يروْنها ضروريّةً حتى يعيد المانحون والعاملون الآخرون في مجال المساعدات ترتيبَ أولويّاتهم، وتأسيسَ أنماط عملٍ جديدةٍ، جاعلين من مشاركة المتلقّين أولويّةً. وهذا بالطبع يتطلّب أيضًا تغييراتٍ أساسيّةً في المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ كلّما وعى أفرادُه حقوقَهم والمسؤوليّاتِ المرافقةَ لهذه الحقوق.

القدس


نورا ليستر مراد

كاتبة تعيش في القدس، فلسطين. مدوّنتها www.noralestermurad.com تغطّي قضايا المساعدات الدوليّة والعمل الخيريّ والحياة اليوميّة تحت الاحتلال الإسرائيليّ. شاركتْ في تأسيس "مؤسسة دالية" في فلسطين www.dalia.ps.