قلبٌ على بياض
02-05-2019

 

ولدتُ في بيتٍ أشبهَ بالمكتبة: الكتبُ تُغطّي مُعظمَ الجدرانِ والزوايا، والصّحفُ والمجلّاتُ موزّعةٌ بين غرف النوم والصّالون وصولًا إلى الشُّرفة والحمّام.

عُرِفَ عن والدي أنّه قارئٌ من الطراز الرفيع، لا بحكْم عمله في مجال الصِّحافة فحسب، بل لأنّه أيضًا عاشقٌ قديمٌ للأدب والفنّ ولكلِّ ما يتعلّقُ بالفكر وعلم النفس. ولطالما سمعتُه يُردِّد قولَ المتنبّي الشهير "... وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ" كأنّه شعارٌ حزبيّ.

وبالمناسبة، فإنّ والدي لم ينتمِ إلى أيِّ حزب، على الرغم من علاقاته الوطيدة بالكثير من السياسيين. وقد دعاهُ يومًا أحدُهم إلى الانضمام إلى حزبه، فاعتذر. وعندما سُئل عن سبب اعتذاره، انبرى أحدُ أصدقائه للإجابة عنه قائلًا: "جابرٌ لا يُحبُّ الأقفاصَ." فهزّ والدي رأسَه موافقًا، وسمعتُه لاحقًا يقول لأمّي: "لا يريدونني أنا، بل يريدون قلمي."

***

على خلاف والدي، تعلّمتْ والدتي "ميّا" القراءةَ والكتابةَ أثناء فترة خطوبتها من أبي، وهي في العشرين. وكان هذا شيئًا عاديًّا في تلك البيئة وذلك الوقت: فالتعليمُ للذكور، وللإناث المطبخُ وأعمالُ البيت. لم يأتِ والدي عريسًا على حصانٍ أبيض، بل من خلال المعرفة. لذا، فإنّها، بمجرّد خطوبتها، تسجّلتْ في دورةٍ لمحوِ الأمّيّة، كي تليقَ بخطيبها المثقّف، وتابعتْ بعد زواجها تحسينَ مستواها. وخلال ثلاث سنوات من التعلّم الذاتيّ، وبمساعدة زوجها الذي كرّس قسمًا كبيرًا من وقته لهذا الشأن، استطاعتْ ــ بحسب تعبيرِها ــ "أن ترى العالمَ بعينيْن جديدتيْن." وفي مناسبةٍ أخرى قالت: "بل إنّني بتُّ أرى نفسي أجمل." وبعد خمس سنوات إضافيّة من الاجتهاد والدراسة، بدأتْ تظهر لديها ميولٌ إلى كتابة الشّعْر، فصارتْ تكتب قصائدَها على أيّ ورقةٍ تجدها أمامها، وبخطٍّ طفوليٍّ مُنسجمٍ مع الأفكار التي كانت تعبّرُ عنها بعفويةٍ وبساطة. وما هي إلّا بضعة أعوام حتى بدأت الصحفُ والمجلّات الأدبية تحتفي بها كشاعرةٍ من نوع خاصّ. أمّا أجملُ ما قيل فيها شاعرةً (في رأي والدي الذي كان يفتخر بها دومًا أمام الجميع) فهو ما وَردَ في مقالةٍ لأحدِ النقّاد المعروفين: "إنها تلعب بقلوبنا كما تلعب قطّةٌ بكُرةٍ من الصوف." كنتُ صغيرًا حينها، لكنني أتذكّر جيّدًا ابتسامتَها الخجولة وهي تقرأ تلك الكلمات كأنها طفلة، لا أمٌّ لطفليْن.

***

لم تنشرْ أمّي أيَّ ديوانٍ، ولم تُشاركْ في أيّ أمسيةٍ شعريّة. وكلُّ ما نُشرَ من أشعارها في الصحافة جاء عن طريق والدي الذي كان يجمعُ كتاباتِها المبعثرة هنا وهناك: على هوامش الكتب، والصحف، والمجلّات، أو يجدُها مكتوبةً بقلم الرّصاصِ على قصاصاتٍ ورقيةٍ فوق طاولة المطبخ، وعليها آثارُ حليب الأطفال، أوعصيرِ البندورة، أو زيتِ الزيتون، أو غير ذلك من موادّ الطبخ. بهذه البساطة، ومن دون اهتمامٍ كبيرٍ منها، صارت والدتي إحدى الشاعرات القليلات اللواتي شغلنَ فضاءَ الحياة الثقافية في البلاد. ولم يكن هذا ليغيّر من طبيعتها في شيء، وبقيتْ كما هي: السّيدة اللطيفة، المتواضعة؛ وقبل كلّ ذلك: الزوجة المحبّة، والأمّ الرائعة، وسيّدة البيت التي لا يُشَقُّ لها غبار. وإلى جانب كلّ هذا، كانت أمّي تتمتّع بذاكرةٍ أسطوريّةٍ لطالما أذهلتنا، أنا وأختي غنوة، ومعنا والدنا الذي كان يلجأ إليها حين تخونه الذاكرة (الأمر الذي كان يتكرّر باستمرار). وكان يناديها باسمها، وليس "أمّ مهيار" كما يفعل الجميع.

- ميّا؛ في أيّ سنة وُلِدَ جول جمّال؟*  

سألها يومًا بينما كان يتصفّح الجريدة. فأجابته من المطبخ بصوتها اللطيف:

-  في الأوّل من نيسان، سنة 1932. سمعتُ هذا من الراديو قبل أعوام.  

- مكتوب هنا أنّه وُلد في الأوّل من حزيران، يردّ أبي باستغراب وهو يشير بيده إلى الخبر في الجريدة.

- الجريدة غلط، تقول أمّي بثقة. وتكمل عملها من دون أن تلتفت إليه.

***

كان أبي متحفّظًا في الحديث مع أصدقائه عن ماضيه مع أمي، وعن حبّهما الذي كنّا نرى ونلمس حضورَه في حياتهما وحياتنا. وكان تفسيرُ غنوة هو مراعاته لأمّي خوفًا من الإشارة - بطريقةٍ ما - إلى جهلها القراءةَ والكتابةَ في تلك المرحلة؛ الأمر الذي كانت تتحسّس له أُمّي بالفعل، مع أنّها لم تعلن قطّ عن ذلك. لذا حين سألتْه غنوة في لحظة صفاء عن سرّ حبّه ـ وهو الشابّ المتعلّم والمثقّف ـ لفتاة أميّة، بدأ يترنّم بمقطع من أغنية قديمة لمحمّد عبد المطّلب:

بتسأليني بحبّها ليه**

سؤال غريب ما جاوبش عليه

وحين ألحتْ عليه في السؤال، هرَبَ من جديد، ولكنْ هذه المرّة إلى أمّ كلثوم. وبدأ يغنّي ويتمايل مع اللحن:

مِن همسة حبّ لقيتني بحِبّ

لقيتني بحبّ ودُوبْ في الحُبّ

بهذه الطريقة الطريفة ردّ عليها وهو يضحك ويُضحكنا معه. لكنّ غنوة حاصرته من جديد بالسؤال، فقال بعد برهة من الصمت: "الحبّ يأتي أحيانًا هكذا، من دون إذنٍ أو ترتيبات. إنّه أشبهُ بحادثِ سيرٍ، لكنه حادثٌ جميلٌ. "

***

ومن مفاعيل ذلك الحب وآثارِه: محرمةٌ قماشيّةٌ بيضاء، طرّزتْ والدتي في إحدى زواياها ــ  بالخيط والإبرة وبيديها الماهرتين ــ رسمًا لقلبٍ أحمرَ صغير. وقد وَجَدَها والدي بين صفحاتِ كتابٍ استعارتْه منه في بداية تعارفهما (كانت تلك طريقتَها في التقرّب إليه مع أنّها لا تعرف القراءة!). والطريف أنّ والدي كان على درايةٍ بحالها، لكنّه لم يتوقّفْ عن إعارتِها الكتبَ كي لا يجرحَ مشاعرَها. وهكذا تحوّلت الكتبُ إلى صناديقِ بريد، بعد أن صار هو الآخر يدُسُّ لها، بين صفحاتِ كلّ كتابٍ تستعيره، زهرةَ ياسمينٍ، أو بنفسجٍ، أو وريْقةً من شجرة النارنج الموجودة في زاوية الحديقة التي تفصل بين بيتيْهما. ولا تزال أمّي تحتفظ بتلك الهدايا في صندوقٍ فضّيٍّ صغير، له قفلٌ ومفتاحٌ، تخفيه عن أعينِ الجميع.

أمّا تلك المحرمة، فلها حكايةٌ لطيفةٌ ومحزنة، أخبرتني بها غنوة، التي تمتلك قوّةَ ملاحظة تؤهِّلها للعمل محقِّقًا في البوليس. كان والدي يَستخدم هذه المحرمةَ فاصلًا بين صفحات الكتب، لا يسمحُ لأحدٍ بمسِّها، ويحافظ عليها نظيفةً مكويّةً على الدوام. وقد كبرنا ونحن نراها تتنقّلُ بين يديه من كتابٍ إلى آخر، وكان يدّعي أنّها لا تزال تحتفظُ برائحة عطرها الأولى، فيقرّبها من أنفيْنا ــ غنوة وأنا ــ لكنّنا لا نشمّ سوى رائحةِ الورق المألوفة التي تملأ البيت. وبعد أن صرنا شبابًا، لاحظتْ غنوة أنّ أبي يرفع هذه المحرمةَ أحيانًا ويضعها في الخزانة، ويستخدم عوضًا منها محرمةً ورقيّةً عاديّة؛ وفي اليوم التالي، أو بعد يومين على أبعد حدّ، نراها من جديد بين يديه! وبعد ربط الأحداث بعضِها ببعض وتحليلها، توصّلتْ غنوة المشاكسةُ إلى الآتي، وكانت على حقّ:

تبيّن أنّ أبي كان يستبدلُ تلك المحرمة بأخرى ورقيّةٍ عندما يغضب من أمّي لسببٍ ما. وكان قلبُ أمّي يحترق من القهر حين تراه يفعل ذلك، فتسارع إلى إرضائه، ثمّ تعيد المحرمةَ بنفسها إلى الكتاب الذي يقرأ فيه.

***

قد يكون من غير المناسب أنْ أتغنّى بحبّي لأُمّي؛ فمن لا يُحبُّ أمَّه؟! لكنني لا أجدُ حَرَجًا في التغنّي بعلاقتي بها كإنسانة مُميّزة تملك موهبةً أدبيةً، وذكاءً حادًّا، وجمالًا خاصًّا، وحضورًا اجتماعيًّا آسرًا؛ هذا بالإضافة إلى مسيرة حياتها ونضالها في سبيل المعرفة والعلم. ومَنْ يتعرّف إليها عن قربٍ يلمس جمالَ روحِها الذي لا يقلّ عن جمالها الخارجيّ، حتى وهي في الستّين. وأفخرُ اليومَ بأنني ابنُ هذه السّيدة التي كانت ذا تأثير كبير في خياراتي الخاصّة بمستقبلي: سواء العلميّ، حين اخترتُ دراسة الطب، وتخصّصتُ بجراحة التجميل متأثّرًا بجمالها كأنثى؛ أو الاجتماعيّ، حين كان قلبي يدقّ لأيّ فتاةٍ تُشبِهُها، شكلًا أو سلوكًا أو في منطق الحديث. وفي أوّلِ لقاءٍ للعائلة بصديقتي مايا (التي صارت زوجتي فيما بعد)، لاحظ الجميعُ شدّةَ شبهها بوالدتي، باستثناء خلوّ وجه مايا من الشامات الصغيرات كتلك التي تملك منها أمّي نصفَ دزينةٍ موزّعة فوق جبينها وخدّيْها.

***

أشعرُ اليومَ أنّ حياتي كلَّها كانت حُلمًا جميلًا، وأنّني كنت محظوظًا بعائلتي وبالبيت الذي عشتُ وتربّيتُ فيه. وقد انتهى هذا الحلمُ مع استيقاظي، قبل أيّام قليلة، على صوت جوّالي يرنّ، وصوت غنوة الملهوف يتحشرج وهي تقول:  

- الماما، المـ .. ـا مـ...ـــا ... ماتت.   

لم أستوعبْ كلامَها. وصرتُ أسألُها، وأعيد السؤال، ولا أصدّقُ ما تقول! كان موتها مفاجئًا؛ فهي لا تشكو أيَّ علّة. فكّرتُ في تلك اللحظة فورًا بوالدي، وخفتُ عليه. وكأنّ غنوة تجيبني على سؤالي من دون أن أنطق به، فقالت بصوتٍ أقرب إلى الصراخ:

- أنا خايفة ع بابا. تعال بسرعة أرجوك. نحن في المشفى الوطني.

***

بعد عدّة ساعات كنّا نقف في المقبرة مع جمع كبير من الأقارب والأصدقاء بانتظار الانتهاء من الترتيبات التي تسبق الدفنَ: أنا ومايا عن يمين أبي، وغنوة عن يساره وقد تعلّقتْ بذراعه بكلتا يديها كما يفعل الأطفال. وبدا أبي بيننا نحيلًا، مُتعبًا، مَهيضَ الجناح، وفي عينيه نظرةُ ضَياعٍ كأنّه لا يعرف ما جاء بنا إلى هذا المكان. ومن المحزن أنّه أصرّ، قبل الخروج من البيت، على لبس بذلته الرسميّة، مع ربطة العنق التي أهدتْهُ إيّاها والدتي بمناسبة عيد ميلاده السبعين، وهو الذي لم يضعْ في حياته كلِّها ربطةَ عنق. وعندما أحاطت بها رقبتَه، وشدّتهُ بها نحوها لتعايدَه بقبلةٍ على شفتيْه، علّق صديقُه الذي قال يومًا إنّ "جابر لا يحب الأقفاص":

- تعيشي وتربطي يا أمّ مهيار.

وانفجر الجميعُ بالضحك، وأوّلُهم أبي الذي احتضنها وقال:

- لا تردّي على هذا الفلتان (وكان عازبًا)!

 لندخل في نوبة جديدة من الضحك والمزاح.  

لكنّ أمّي لم تعشْ أكثر من عشرة أيّام بعد تلك الحادثة. وها نحن الآن نُراقِبُ جسدَها وهو يغيبُ في تلك الحفرة، ويغيب معه السلامُ والأمان اللذان كنّا نشعر بهما لمجرّدِ وجودها في هذه الحياة.

***

في طريق العودة إلى صالة العزاء لاحظتُ أنّ قبضةَ أبي مشدودةٌ بقوّةٍ على شيءٍ ما، ولاحظتُ أنّه كان يضعها في جيب سترته معظمَ الوقت. ثم نسيتُ الموضوع، وانشغلتُ بطقوس العزاء. إلى أن جاء المساء وعدنا إلى البيت. فلحقتُ به إلى غرفة النوم لأكون قربه وأساعدَه في خلع سترته وتعليقها في الخزانة. وبينما أنا أفعل ذلك رأيتُها. كانت في جيب سترته مدعوكةً بشكلٍ لم أرها عليه من قبل. بدتْ كما لو أنّ مدحلةً مرّتْ فوقها. ولم أستطع كبحَ دموعي وأنا أقلّبها بين يديّ، فخرجتُ مسرعًا إلى الحمّام، وهناك بكيتُ حتّى كاد يُغمى عليّ.

***

لم نستطع النومَ في تلك الليلة على الرغم من الإرهاق الشديد. وقضينا معظمَ الوقت نشرب القهوةَ، وندخّن، ونبكي بصمت، وكلٌّ منّا يطلق زفرةً حادّة أو تنهيدةً عميقةً بعد كلّ كلمة يتلفّظ بها. أخيرًا، ومع تسلّل خيوط الفجر الأولى عبر ستارة النافذة، غفوتُ على الكنبة في الصالون وأنا في وضعيّة الجلوس، وشعرتُ بمايا تغطّيني قبل أنْ تتمدّدَ هي الأخرى على الكنبة المقابلة وتغطَّ في النوم.

في الثامنة صباحًا استيقظتُ على صراخٍ مجنون. ظننتُ أنّني أحلم في بداية الأمر. لكنّ مايا التي قفزتْ من مكانها كالملدوغة، وبدأتْ الركضَ في اتجاه غرف النوم، انتشلتني من غفلتي. لحقتُ بها وأنا أرتجف من الخوف، لنجد غنوة منكوشةَ الشَّعر تقفز وتصرخ، وتلطم نفسَها كالمجانين، ولنجد أبي ممدَّدًا فوق سريره وقد فارق الحياة. ومن طرف قبضته، المشدودة بإحكام، كان يظهر ذلك القلبُ الأحمر الصغير، الذي بدا لي في تلك اللحظة بقايا نزيفٍ تشرّبَه البَيَاضُ.

اللاذقيّة

                     

* جول جمّال: ضابط سوريّ في سلاح البحريّة. استُشهد على أثر عمليّة فدائيّة إبّان العدوان الثلاثيّ على مصر سنة 1956 عندما قاد زورقَه الحربيّ وصدم به البارجةَ الفرنسيّة "جان بارت" وأعطبها.

** بالأصل: بتسأليني بَحبِكْ ليه.

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).