هجرة الجيل الجديد للغة العربية
01-05-2020

 

بدأتْ فكرةُ كتابة هذا المقال بعد مشاهدتي شريطًا مصوّرًا على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفيه متعلّم (طالبٌ) بدا وكأنّه في التاسعة من عمره تقريبًا،[1] يبكي رافضًا أن يؤدّي فروضَ اللغة العربيّة.[2] استفزّني الأمرُ ودفعني إلى التعبير عن وجهة نظري كباحثةٍ تربويّة.

للغة قيمةٌ جوهريّةٌ كبرى في حياة كلِّ أمّة: فهي الأداةُ التي تحمل الأفكارَ، وتنقل المفاهيمَ، فتُقِيم بذلك روابطَ الاتصال بين أبناء الأمّة الواحدة وبناتها. وهناك دراساتٌ مطوَّلة، لا تُعدّ ولا تُحصى، عن أهمّيّة اللغة العربيّة، تحديدًا، في صياغة التقارب والتوحّد بين الناطقين بها، وفي تسهيل سُبُل الاندماج على الصعُد كافّةً - - وهذا ما لا يدخل ضمن نطاق هذا المقال.

غير أنّ ازدواجيّةَ اللغة في بلادنا، بين "العربيّة المستخدَمة" (العامّيّة) و"العربيّة المدرَّسة" (الفصحى)، تجعل كثيرًا من المتعلِّمين (في لبنان على أقلّ تقدير) في صراعٍ دائمٍ بينهما، وتسبِّب لهم صعوباتٍ عديدةً تعوِّق تعلّمَهم الفصحى وتُشْعرهم بالاغتراب عنها وبعدم الرّغبة في إتقانها.

يَظهر التفاوتُ في إتقان اللغة العربيّة عند المتعلِّمين اللبنانييّن تحديدًا في الحلقة الثانية، وفي الصفّ الأساسي الرابع،[3] ويستمرّ إلى المرحلة الثانويّة. في الحلقة الثانية، تَكْثرالكتبُ العربيّةُ في محفظته، وتتضاعف معها كمّيّةُ الفروض البيتيّة. فبين القراءة والتحليل والإنشاء والتعبير والقواعد والتمارين والإملاء، يتحوّل عقلُ المتعلِّم إلى كتلةٍ صخريّةٍ رافضةٍ لهذه الكفايات، التي لا يَستخدم بعضَها إلّا في حصص اللغة العربيّة. ويَشعر المتعلّمُ في هذه المرحلة أنّه قد "اكتفى" من كلّ ساعات التعلّم اليوميّة في المدرسة.

 

إنجاز الفروض (العربيّة) مبارزة بين المتعلّم وأهله: فهم منهَكون، وهو فقد قدرتَه على التركيز 

 

والحقّ أنّ النظامَ التربويّ في لبنان قد أغفل، وبشكلٍ فاضح، أنّ المتعلّم يتطلّع في هذا العمر (9 – 11 سنة) إلى تحقيق متطلّباته الطبيعيّة، كالتسلية في الدرجة الأولى. لذا، بات على النظام المذكور أن يوائم بين التربية وهذه المتطلّبات.

من هنا كثيرًا ما تتحوّل عمليّةُ إنجاز الفروض العربيّة (وغيرِها أحيانًا) إلى مبارزةٍ بين المتعلّم وأهله: فالأهلُ منهَكون من العمل ودوامِه الطويل ومشكلاتِه، والمتعلّم فقد قدرتَه على التركيز بعد يومٍ مدرسيٍّ شاقّ. وإذا ما فقد الأهلُ صبرَهم واستخدموا القمعَ أو العقابَ ليُجبروا المتعلِّمَ على إنجاز فروضه العربيّة، فقد تصبح اللغةُ العربيّةُ في ذاتها مصدرًا لكرهه ونفوره.

ثمّة أهمّيّةٌ فائقةٌ لأن تعْمدَ السُّلطةُ التربويّةُ إلى تحديث المناهج التربويّة وأهدافِها العامّة لكي تتماشى مع تطوّرات العصر، وتحاكيَ متطلّباتِ المتعلّم الحياتيّة كما ذكرنا. غير أنّ آخرَ تعديلٍ للمناهج في لبنان كان وفق "خطّة النهوض التربويّ" التي صدرتْ في 8/5/1994، ثمّ أُطلقتْ سنة 1996 في المؤتمر الوطنيّ الأوّل الذي عُقد تحت شعار "إعادة بناء القطاع التربويّ وتنميته،" ولم تَصدر المناهجُ الحاليّةُ إلّا في 8/5/1997 (وفق المرسوم رقم 10227).[4] ومن بعدها لم يصدرْ أيُّ قرارٍ رسميّ يعمد إلى تطوير المنهج، بل بقيتْ كلُّ التطوّرات في الأساليب المعتمدة في ميدان التعلّم والتعليم رهينةً بجهودٍ خاصّةٍ تقوم بها المدْرسةُ أو المعلِّم.

والواقع أنّ انعدامَ التطوير التربويّ هذا لا يمكن تبريرُه، لا في الماضي ولا اليوم، لأنّه يفاقم تراجعَ قيمة اللغة العربيّة في نفوس أبناء الجيل الحاليّ وبناته، وذلك لمصلحة اللغات الأجنبيّة، إنْ عرفوا إحداها أو أكثر.

وإذا حصرنا كلامَنا في صفوف الحلقة الثانية، فسنلاحظ أنّ ثمّة ارتباكًا بين مضمون مادّة اللغة العربيّة وأهدافها. فهذه الأهداف "معرفيّة" فقط، بمعنى أنّها لا تحاكي إلّا مستوى التذكّر والفهم عند المتعلّم، من غير أن تثيرَ اهتماماتِه النفسيّةَ والإدراكيّةَ والعاطفيّةَ والاجتماعيّة. وبدلًا من تقويم نتائج الواقع الحاليّ، ووضع خطّةٍ بديلةٍ تعالج فيها السُّلطةُ التربويّةُ (وتحديدًا المركزُ التربويُّ للبحوث والانماء) المشكلةَ الأساسَ من الجذور، فتحذف الشّوائبَ، وتحدّ من المشاكل،[5] فإنّها مازالت تحاول تحصيلَ حقوق الموارد البشريّة التربويّة البديهيّة وتعالج الثغَر اللوجيستيّةَ في إداراتها ومؤسّساتها.[6]

 

تعليم "العربية" لا يحاكي إلّا مستوى التذكّر والفهم عند المتعلّم ولا يثير اهتماماتِه

 

تجدر الإشارة إلى أنّ مجموعةً من الاختصاصييّن التربوييّن (نمر فريحة، أسعد يونس، جوزيف أبي راشد، حسّان جمعة) قدّمتْ، بالفعل، تقريرًا وطنيًّا عن واقع المنهج الحاليّ إلى مكتب التربية الدوليّ في جنيف في شباط 2001، وذلك بهدف تطوير المناهج للتوافق مع البيئة المعاصرة وتكنولوجيا المعلومات وتطلّعاتِ الجيل الجديد. واقترح هؤلاء الاختصاصيّون الاعتناءَ باللغة العربيّة لكونها اللغةَ الأمّ، وأن تكون لغةَ تواصلٍ اجتماعيّ وثقافيّ وعلميّ. وشدّدوا على إعادة النظر في الكتاب المدرسيّ، وتحديدًا كتاب اللغة العربيّة، وتطويره على هذا الأساس.[7] ثمّ تغيّرالوزيرُ المختصّ وفريقُ عمله، وتبع ذلك تغييرٌ في رئاسة المركز التربويّ للبحوث والإنماء، ما عوَّق تحقيقَ التغييرات المنشودة!

***

كمدرّبة، حضرتُ الحلقةَ الثانيةَ كما ذكرتُ، وتحديدًا الصفّ الرابع، في جميع الموادّ. وراقبتُ عمليّةَ التعلّم والتعليم في هذه الصفوف عن كثب طوال ستّ سنوات، في عددٍ من المدارس الخاصّة والرسميّة. وإنّي أشدّد، بعد هذه التجربة، على ضرورة تغيير طرائق تدريس اللغة العربيّة في الحصص لتتوافقَ مع هموم الأجيال الحاليّة واللاحقة ورغباتِها ونبضِها.

- فعلى سبيل المثال، ينبغي تبسيطُ تعليم قواعد اللغة العربيّة، واعتمادُ طرقٍ أكثر سلاسةً وتسليةً لهم، بما في ذلك الاستعانةُ بوسائل التكنولوجيا حيث أمكن.

- كما يجب تشجيعُ المتعلّمين على الكتابة في المناسبات الوطنيّة أو غيرها، مقابل تقديم جوائز ثقافيّة/سياحيّة للرابحين (كتب، مجلّات، رحلات سياحيّة داخليّة،...). على المتعلّمين أن يَشْعروا أنّ الطاقمَ التعليميّ والإداريّ يُولي اللغةَ العربيّةَ عنايةً خاصّةً، وأنّه على أتمّ الاستعداد لـ"الاستثمار" الفعليّ والدؤوب في بناء جيلٍ متعلّمٍ فصيحِ اللسان غزيرِ المفردات مُحبٍّ للغته الأمّ. ولا بدّ من أن ينعكسَ ذلك إيجابًا على الأهل أيضًا، خصوصًا أولئك الذين عوّدوا أولادَهم على الكلام باللغات الأجنبيّة داخل البيت، من قبيل التشاوف والتنفُّج (السنوبيسم).

هنا لا بدّ من أن نفتحَ قوسيْن لنشيرَ إلى أنّ اللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة أهمُّ من اللغة العربيّة لدى أقسام متعدّدة من المجتمع اللبنانيّ خصوصًا (يقول د. سماح إدريس في هذا الصدد إنّ جزءًا كبيرًا من اللبنانيين "يَحتقر اللغةَ العربيّة، ويتماهى مع حضارة الأقوى ومع لغاته. هكذا باتت اللغةُ العربيّة، في ذاتها، عنصرَ انحطاطٍ ومذلّةٍ ونقصٍ في رأي كثيرين").[8] كما نشير إلى أنّ مِن شروط الحصول على فرص عملٍ في شركاتٍ تجاريّة، محلّيّةٍ أو عالميّة، في لبنان إتقانَ اللغة الأجنبيّة - - لغةِ مورد الرزق والعيش. ويُتّبعُ المعيارُ نفسُه لدراسة الفروع العلميّة أو الأدبيّة في معظم الجامعات الخاصّة اللبنانيّة. لذا، أجمع الأهلُ على إلزام أولادهم بتعلّمها وامتلاكِها والخضوع إلى امتحانات رسميّة دوليّة (TOEFL ،SAT ،DELF ).

- ويمكن أيضًا التقليلُ من تدريس اللغة بشكلٍ "مباشر،" وذلك لصالح تحبيب المتعلّمين بالقصص والروايات العربيّة وبإبداع أركان الأدب في لبنان والوطن العربيّ (جبران، محفوظ، مينة، تقيّ الدين، عوّاد، كنفاني،...)، ومن ثمّ كتابة ملخّصٍ عنها أو تحليلٍ لها ولشخصيّاتها الرئيسة. وهذا يعني ضرورةَ الانتقال من مستوى "البصْم" (الحفظ بلا فهم!) في عمليّة التعليم والتعلّم في صفوف اللغة العربيّة (بمعدّل 6 حصص في الأسبوع في الحلقة الثانية، وهي مساوية لحصص اللغة الأجنبيّة الأولى)،[9] إلى مستويات التركيب والتوليف، ومن ثمّ التحليل والاستنتاج والتقويم (بحسب تقسيمات بلوم للأهداف الإدراكيّة).[10] فالقواعد العربيّة نفسُها ستصبح أكثرَ قابليّةً لأن يستوعبَها المتعلِّمُ وأن يحبَّها إذا أحبَّ النصوصَ العربيّة التي يقرأها، وإذا تماهى مع موضوعاتها.

- وأقترحُ أيضًا استخدامَ مفرداتٍ مبسّطةٍ في التعليم وفي اختيار النصوص؛ مفرداتٍ تتناسب مع بيئة المتعلّم وحياتِه اليوميّة. أشير في هذا الصدد إلى أنّ العديد من المفردات العاميّة التي نتكلّم بها يوميًّا ليست إلّا جزءًا من الإرث الفصيح المتناقل من جيلٍ إلى جيل.[11] وقد لاحظنا أنّ بعضَ الأساتذة بلغ بهم التشدّدُ، للأسف، أن عاقبوا المتعلّمَ على استخدام ألفاظٍ يتوهّمون أنّها عامّيّة وهي ليست كذلك![12]

- كما أرى لزومَ إعادة تدريب المعلِّم نفسه، وتعزيزِ معارفه اللغويّة، وتطويرِ قدراته التربويّة، واختيارِ طرق التعليم الملائمة. ويَحْضرنا في هذا السياق ما يَنْسبه البعضُ إلى الفيلسوف الفرنسيّ غوستاف لوبون: "إنّ اختيار طريقة التعليم أهمُّ في مصلحة الأمّة من اختيار حكومةٍ مناسبة."[13]

- وأجدُ من الضروريّ كذلك إعادةَ النظر في الكتاب المدرسيّ الوطنيّ الذي يتضمّن، بمجمله، نصوصًا طويلةً. فعلى الرغم من تحديد مجموع كلمات الحدّ الأقصى للنصّ، ليتماشى مع خصوصيّات هذه الفئة العمريّة من المتعلّمين، بـ128 كلمةً في السنة الثالثة الأساسيّة، و168 كلمةً في السنة الرابعة، من الحلقة الثانية، فإنّ معظمَ النصوص في كتب هذه الحلقة يتخطّى هذا الحدّ.[14] ناهيكم بأنّ بعضَها قديمُ الأفكار والصياغة، ولا يناسب ميولَ المتعلّمين من الجيل الحاليّ، جيلِ الانترنت والتكنولوجيا.[15]

- ولمّا كان تعلّمُ اللّغة، أيّ لغة، لا يمكن أن يتحقّقَ إلاّ بممارسة المهارات الأربع المعروفة تربويًّا: القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء؛ ولمّا كانت المهارتان الأخيرتان مهمَّشتيْن إلى حدٍّ كبير في مدارسنا، فإنّني أقترحُ زيادةَ حصص النقاش والتحاور بين المتعلِّم والمعلِّم بعد قراءة نصوصٍ مرتبطةٍ بهمومهم اليوميّة (كخلافهم مع أهلهم، أو غيرتِهم من إخوتهم وأخواتهم، أو قلقِهم من شكلهم الخارجيّ، وغير ذلك من الموضوعات التي تطرّق إليها عددٌ من المؤلِّفين اللبنانيين المجدِّدين، وإنْ كانوا قلّةً للأسف).

***

كانت تلك بعضَ الاقتراحات لتحويل الفصحى إلى لغة حياة، بدلًا من أن تكون لغةَ مدرسةٍ فحسب. ولربّما تحثّ هذه الاقتراحاتُ المتعلّمين على منافسة بعضهم بعضًا لاكتشاف قدراتهم الشخصيّة في الفنّ والأدب والمسرح والشعر.

بنواتي - جزّين

 

[1] المرحلة الثانية: التعليم الابتدائيّ (من سنّ السادسة إلى الحادية عشرة) http://www.cdr.gov.lb/Plan/Education/Arabic%20Report.htm

[3]Cycle 3 le cycle de consolidation, classe CM1 9-10 ans

https://www.education.gouv.fr/l-ecole-elementaire-9668

[5]http://www.crdp.org/mag-description?id=9715

من هذه المشاكل: التدريب، والتقويم، والأبنية، والتجهيزات، واختلاف إعداد المعلمين وتسمياتهم وقدراتهم.

[14]يُقسم التعليمُ الرسميّ الأساسيّ في لبنان إلى ثلاث حلقات : الحلقة الأولى، وفيها الصفّ الأساسي الأول والثاني والثالث. أمّا الحلقة الثانية فتتضمّن الصفّ الأساسيّ الرابع والخامس والسادس. وطبعًا هناك ارتباط بين الفئات العمريّة للمتعلّمين والصفوف.

[15] أنطون صيّاح، تعلّمية اللغة العربيّة في المرحلة الابتدائيّة (بيروت:دار النهضة العربيّة، 2014)، ص 11.

هنا علي

باحثة تربويّة من لبنان. ماجيستير في الإدارة التربويّة من كلّيّة الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعة الإسلاميّة. أستاذة محاضرة في كلّيّة السياحة في الجامعة نفسها. أستاذة في التعليم المهنيّ لمرحلة الإجازة الفنيّة. معلّمة لغة فرنسيّة في مدرسة عبرا الرسمية.